ذكريات وتجارب - الحلقة التاسعة والثلاثون
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
في بداية الجلسة الثانية التي عقدت بعد اكثر من شهرين من الجلسة الأولى، استهل القاضي تيليرو بالإشارة الى ان الجلسة ستستغرق
يوما كاملا على فترتين وكذلك الجلسة التالية ثم جلسة ثالثة لتلخيص ما قدم من حجج واسانيد جديدة قبل جلسة الحكم. وعليه طلب من المحامي والمدعي العام ايراد ما لديهما بعد ان قاما بتبادل الوثائق والمعلومات التي ينوي كل طرف طرحها. في معرض تفنيده، ركز المحامي على عدم جواز الاخذ ’بروح المادة‘ كما عملت المحكمة السابقة طالما هنالك نص واضح وصريح يعالج القضية، وبهذا قارن منطوق كل مادة مع التهمة الموجهة الى كل متهم طبقا للمستمسك المادي فضلا عن الاعترافات واقوال الشهود، ولعل هذه الخطة كانت بإيعاز، او على الاقل، بالتنسيق مع القاضي تمهيدا لتبرير الاحكام التي يرتئيها.
مما اسعدنا كثيرا وفي نفس الوقت اثار انزعاجنا، كان حجم الحضور اللافت من غير عوائلنا، وهذا كان امر طبيعي في ظل تسارع وتيرة الاحداث في الساحة، وقد يكون ايضا بدافع الفضول بعد ان تسامع الكثيرون خبر تأثير ممثل الامبراطور في المحاكمة السابقة وما قد يستجد بعد ان تولي قاض ايطالي رئاسة المحكمة.
بعد مضي فترة اسبوعين او اكثر من تاريخ الجلسة الثانية، فوجئنا بأحد الشاوشية يدعونا للخروج ومرافقته. مع ان الوقت كان متأخرا بعض الشيء ولا يسمح الخروج من العنبر بعد الساعة الخامسة مساءا الا نادرا، لم نستغرب كثيرا حيث تعودنا على زيارات متأخرة مدفوعة الاجر ولاسيما من قبل الاستاذ محمد سعيد عبد القادر بشير ولاسيما اذا كان معه ضيوف قادمون من مكان بعيد. تحركنا خلفه ونحن نتهامس لتخمين الضيوف وتوزيع الاسئلة التي سنسألها حتى لا تتكرر ولم نتنبه الا عندما تجاوز بنا الشاويش الى جهة معاكسة تماما لغرفة الزيارات والمكاتب الادارية. وبينما نحاول عبثا الاستفسار منه ومن بعضنا عن وجهتنا وجدنا انفسنا امام باب مكتب امانات السجناء. ومما زاد من حيرتنا، وجدنا زملاء من عنابر اخرى قد شرعوا في استلام حاجياتهم الشخصية وهم ابرها حقوص، قرماى بخيت، ردأ تمنوو، هبتي كحساى وجبري مدهن بانانا بخمسة اعوام.
اسرعنا اليهم لنعرف حقيقة ما يجرى الا انهم كانوا اكثر منا تلهفا لمعرفتها منا، لاذ الجميع بالصمت الا فيما يتعلق بإجراءات تسليم واستلام. وبعد اكثر من ساعة ونصف تقريبا وحلول الظلام، امرنا الشاويش بالتحرك ونحن محاطون بطابور من الحراس الذين تضاعف عددهم واستبدلت عصيهم برشاشات، اقتفينا اثره في صمت وكأننا نسير خلف جنازة الى ان وصلنا الى غرفة صغيرة في زاوية خالية من أي شيء بالكاد تستوعب نصفنا.
بمجرد ما اقفل الشاويش الباب ارتمى بعضنا فوق الأمتعة المتراكمة وسط الغرفة واسند البعض الاخر ظهره الى الجدار، كنا في مكان واحد وافكارنا مبعثرة واحيانا مسموعة كلها تتمحور حول الغاية من تسليم كل منا امتعته في جنح الظلام ثم جمعنا في مكان واحد ضيق! الى اين المسير واين سينتهى بنا المصير! ورويدا رويدا انطلق النقاش واختلفت التأويلات حسب الطبيعة التفاؤلية والتشاؤمية لكل واحد. فقد رأى من احسن بالحكومة ظنا انها مقدمة لإطلاق سراحنا في اليوم التالي في مسعى منها الى تحسين صورتها وعلاقتها مع الشعب تمهيدا لطرحه مبادرة سياسية سلمية للقضية برمتها واوصى بان يلبس ويتزين الجميع بأحسن ما لديهم تحسبا لمقابلة ممثل الامبراطور أسراتي كاسا! اما من اساء بها الظن، وكانت الاغلبية، فقد اعتبرتها مقدمة لعملية اعدام في اليوم التالي لإرهاب الشعب وجعلنا عبرة للآخرين.
استند الجانب المتفائل في رفضه لهذا التفسير بكوننا قيد المحاكمة وانه لو عزمت الحكومة فعلا على هذا الامر فبمقدورها استصداره في حكم قضائي ثم تنفذه فورا بالكيفية التي تروق لها عوضا عن اللجوء الى انتهاك القانون بشكل مكشوف. اشتد الجدل ومقارعة الحجة بمثلها بشكل مضحك ومبكى في نفس الوقت، لان حتى الفئة المتشائمة كانت في قرارة نفسها تتمنى ان يصدق حدس الفئة المتفائلة ويطلق سراحنا! سرعان ما استنفدت الفئة المتفائلة ما كان بجعبتها من مبررات عاطفية ومالت الى اننا، بلا ادنى شك و بعيدا عن الأماني والتمنيات، على قاب قوسين من الاعدام، ومن ثم انحصر الاختلاف حول الكيفية التي سوف يتم بها أهو رميا بالرصاص ام شنقا حتى الموت، وهل سينفذ داخليا في السجن ام في الساحات العامة وفى مسقط رأس كل منا.
استبعدت فكرة التنفيذ داخليا لأنه لن يؤدى الغرض المرجو منه وهو بث الرعب في قلوب الشعب. قال ابرها حقوص، وكان شخصا مرحا يحب المداعبة ’اذا قدر الله ان تكون نهايتنا على حبل المشنقة، فإنني اعتقد ان الشخص الوحيد الذى سوف ينجو منا سيكون العم عبد الله محمد صايغ لان الزبانية لا يعرفون مدى طول قامته وبالتالي سينصبون له عودا عاديا لا يتجاوز كتفه وفى الاخر سيضطرون الى اطلاق سراحه!‘. هنا تفتحت اسارير وجه العم عبد الله وكان شيخا طيبا دائم التفاؤل، الا ان الاخ صالح وراك لم يمهله حتى يستمتع فعقب قائلا ’ان الزبانية مهما كانوا اغبياء لا تنقصهم الحيلة والدهاء في عمل الشر فلربما حفروا حفرة تسمح بتدلي قدمي العم عبد الله عندما يسحب الكرسي من تحته‘. هنا ثارت ثائرة العم عبد الله ووصف صالحا بالمتشائم فرد عليه صالح ’لا والله انت المتفائل جدا‘ وضحك او تضاحك الجميع في لحظة حالكة السواد. وبعد ان هدأت العواطف والنفوس بدأت مداخلات من نوع اخر دعا فيها كل شخص نفسه قبل غيره للتماسك ورباطة الجأش عند مواجهة القدر اينما وكيفما كان. كانت الساعة قد تجاوزت الثانية ليلا عندما تذكرنا استعدادنا للخروج الى الساحة في الساعة الرابعة صباحا فحوّل كل منا وجهه وبدأ ينطوي على نفسه متظاهرا بالنوم.
ما اسرع الزمن عندما تتمنى تمهله ناهيك توقفه، وما هي الا لحظات حتى سمعنا طرقا على الباب وقرقعة القفل وصوت الشاويش يطلب خروجنا والوقوف صفا امام باب العنبر. تعثر الشاويش في فتح الباب نتيجة عدم استعماله المفتاح الصحيح فتراءى لنا انه لن ينجح في فتحه نهائيا، لربما بين المفاتيح ثائر يرفض تسليمنا للأعداء ليفعلوا بنا ما شاءوا، ولكن هيهات! كانت السماء صافية بلا شوائب والقمر مكتملا يتلألأ في كبدها. تدافعنا لمشاهدته وكأن السماء لا تسع الا لمشاهد واحد! ضحكنا مما اوصلنا اليه الزمن من عدم التوازن والاتزان. كم كان منظر السماء فسيحا ورائعا جدا بينما الارض تضيق على من فيها بما رحبت بفعل طغمة باغية تعوس فيها فسادا.
وبينما نحن مشغولون برؤية السماء وما حوته من نجوم وكواكب، كان الحراس مشغولين بتكبيلنا حتى بدا لنا بعضهم وكأنهم يشمتون بنا او يتشفون فينا، مع ان الصحيح الفرق في مدى اتقان كل منهم عمله بعيدا عن اية اعتبارات جانبية في الغالب تفرضها نفسية الشخص تجعله يحمل الاشياء أكثر مما ينبغي. في تمام الساعة الرابعة والنصف صباحا تحركنا نحو الادارة حيث وجدنا عدد من الضباط والحراس ابهى تأنقهم بشكل اوحى لنا بانهم سيرافقوننا الى مكان ما. تحركت بنا سيارة مغلقة تحرسها مجموعة من سيارات المباحث. تأكدنا من عدم الفصل بين المجموعتين، اننا نواجه مصيرا مشتركا وتلاشت امكانية الاعدام في مسقط رأٍسنا حيث بالضرورة تستدعى الفصل بيننا حسب المناطق وبالتالي لابد ان يكون هناك مكان اخر.
بذل بعض الزملاء من ابناء اسمرا جهدا لتحديد اتجاه السيارة من خلال انعطافاتها، وفى الاخير توصلوا الى اننا لربما في طريقنا الى المطار، وسرعان ما سمعنا ازيز محركات الطائرات ووجدنا انفسنا امام طائرة عسكرية من نوع 3 DC على وشك الإقلاع. بالكاد جلسنا على الكراسي حتى بدأ الزبانية بتعديل اسلوب تقييد ايدينا بحيث نشكل مجموعة واحدة متصلة ببعضها بدلا من اشتراك كل اثنين في قيد واحد، وبنفس الاسلوب تم ايصال قدم اولنا بقدم اخرنا بسلسلة واحدة.
صعود المقدم بلطي الى الطائرة قبيل الاقلاع فسر لنا تقريبا كل شيء. جلس مع بعض الضباط والحراس على كراسي مقابلنا مباشرة واصبح الظن يقينا عندما اعلن كبتن الطائرة انها متجهة الى مطار اديس ابابا . بعد ساعتين من الطيران المصحوب بضجيج يصم الاذان، تراخى الحراس بل غفا بعضهم بعد ان ظلوا يبالغون في يقظتهم ومراقبة اية حركة تصدر منا.
كانت القيود التي استعملت في تقييد ايدينا من النوع الإنجليزي الذى يعتمد على اعرض معصم من الشخصين المشتركين فيه عكس القيد الأمريكي الذي يتم ضبط كل فتحة حسب معصم كل شخص على حدة. كنت بين الاستاذ محمود صالح سبى يمينا والعم عبد الله محمد صايغ شمالا وكان معصمه ضعف معصمي تقريبا. بالصدفة لاحظت إمكانية تمليص يدى بسهولة. اخرجتها بهدوء وعبثت في جيب صدرية العم عبد الله، فنظر الى مندهشا وفى نفس الوقت متسائلا. همست في اذنه ’استعدوا .. سوف اهجم على بلطي وكل منكم يهجم على الحارس الذى امامه ونختطف الطائرة.‘ فما كان منه الا ان وكزني بكتفه وكزة قوية قائلا ’جسي شرّب!‘ بما معناه – اقعد تأخذك داهية.. الا يكفيكم جررتمونا خلفكم الى اديس ابابا وتريدون ان تجرفونا ايضا الى القبر!‘ عندما سمع الزملاء ما قاله مدوا رقابهم من كل جانب لمعرفة الموضوع حيث كنا في الوسط ثم قال لهم ’اليّ دمو طليم تو‘ - انه هذا القط الاسود - فضجـوا بالضحك حتى تنبه الحراس وبدأوا يحملقون على وجوهنا محاولين معرفة مدعاة الضحك ولكن بدون جدوى. اما بلطى الذى كان غارقا مستغرقا في توتر ملحوظ لم يشعر بما حصل الا متأخرا فلبث يهز رأسه. لان الطغاة وكل من يعتبر نفسه قويا ومنتصرا لا يدرك مدى فشله الا عندما يشاهد من اعتقد قد سحقه في معنويات عالية، وكان هذا واضحا على وجوه جميع الضباط والحراس.
لعله من باب التملق واظهار الولاء للحكومة، ما ان فتح باب الطائرة والا بدأ الحراس الذين رافقونا بإسقاط امتعتنا من فوق الطائرة على المدرج بدلا من انزالها بالسلم، وعندئذ نهرهم بل عنفهم بلطي وطلب منهم التوقف وجمع ما تطاير منها بفعل الهواء فبدأوا يسابقون رياح شديدة.
كان سجن اديس ابابا عبارة عن معسكر كبير محاط في بعض اجزائه باسلاك شائكة وفي البعض الاخر بسور من الاسمنت بدون ابراج مراقبة. استغرقت اجراءات تسليم وتسلم بين مسئولي السجن والضابط الذي رافقنا اكثر من ثلاث ساعات قضيناها في ما يشبه العراء، وفي الاخر خرج الينا احدهم وسلم كل منا وريقة مستطيلة ختمت عليها اربعة اسطر : رقم السجين، اسم السجين، تاريخ الحكم وتاريخ الافراج عنه. اما البيانات فكانت مكتوبة يدويا. وكرر علينا مرارا وتكرارا مؤكدا اهميتها لأنها الوسيلة الوحيدة للخروج من السجن بعد اكمال المدة مهما طالت. لم نصدق ما سمعنا، اذ كيف تكون هذه الوريقة ملفا يحدد مصيرنا وكيف يمكن المحافظة عليها طوال الفترة، وبصرف النظر عن رأينا فيهم انتهت العملية واصبحنا في عهدتهم.
طلب منا احد الضباط مرافقته واتجه بنا صوب قلعة في الجهة الشمالية من السجن معروفة ب ’ الم بقا‘ وتعني باللغة الامحرية ’نهاية العالم‘ قيل انها نسخة من سجن باستيل في فرنسا الذي أُنشئ في ما بين عامي 1370 و1383 كحصن للدفاع عن باريس ومن ثم تحول الى سجن للمعارضين السياسيين والمسجونين الدينيين والمحرضين ضد الدولة حتى اصبح رمزاً للطغيان والظلم ومنه انطلقت الشرارة الأولى للثورة الفرنسية في 14 يوليو 1789 حسب ما ورد في ويكيبيديا. تركنا الضابط في ما يشبه ردهة بعد البوابة، واذ نستبطئ عودته للدخول من شدة الارهاق، هزنا حدث وقضى على ما كنا نشعر به من جوع وارهاق. جيء بسجينين قيل انهما تشاجرا وكان هذا واضحا من تمزق ملابسهما واثر الدماء في وجهيهما. ذكر لنا احد الحراس انه حكم عليهما بقضاء مدة شهر في القلعة وان هذا يستلزم تقييدهما، لم نستغرب في الاجراء لأنه تقريبا مشابه لما يحصل في سجن ارتريا، غير ان احضار أسياخ حديدية طول كل منها نحو ثلاثين سنتمتر ثم ضربها بمطرق حول معصم كل منهما حتى اصبحت كالسوار ونفس الشيء لرجليهما ثم جمع يديهما ورجليهما من خلال ادخال سيخ بين يديهما ورجليهما حتى تلاصقت وهما ينزفان بغزارة بحيث يعيشان متلاصقين حتى اثناء دخول الحمام. منظر لا تطاق رؤيته ناهيك التعرض له، وعندما علمنا ان كل من يدخل القلعة لابد ان يقيد على هذا النحو ريثما يحظى بشهادة حسن السيرة والسلوك، بدأ بعضنا يتحسس قدميه او تفحصها لواقع لا مناص منه. قيل لنا ان القلعة مبنية بخرسانة لا يمكن حفرها او احداث أي ثقب فيها ولا تشرق شمسها الا عندما تتوسط في كبد السماء وتغرب مع زوالها.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.