ذكريات وتجارب - الحلقة الحادية والاربعون
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
فوجئنا صبيحة اليوم التالي لوصولنا بدخول مجموعة من الزملاء المناضلين: سعيد حسين ومحمد حسين، احد مؤسسي الجبهة
وقائد مجموعة الفدائيين التي نفذت عملية اغردات التي استهدفت ممثل الامبراطور ابي اببي في 1961/12/7، وعملية مطار اسمرا في 1963/6/21 دمرت خلالها طائرتان عسكريتان قبل ان يتم اعتقاله في اسمرا وهو يعد لعملية ثالثة، حكم عليه بعشرين عاما.(2) محمد إدريس عمر، اعتقل وهو في طريقه لتفجير موكب ممثل الامبراطور أسراتي كاسا اثناء جولته الأولى إلى المنطقة الغربية، حكم عليه بخمسة عشر عاما. (3) عمر كراى - الصغير - تم اسره في معركة وحكم عليه بخمسة عشر عاما. (4) محمود كدان اسر وهو في مهمة فدائية، حكم عليه بخمسة عشر عاما.
كان هذا او لقاء بيننا فعندما كنا في سجن اسمرا، كانت هذه المجموعة في سجن عدي خوالا ومن هناك تم نلقها رأٍسا الى سجن قوري في اقليم الليبابور الاثيوبي. ذكروا انه تم نقلهم الى هنا منذ بعض الوقت نتيجة تدهور الاوضاع الامنية في تلك المنطقة، وانهم لم يعلموا بوجودنا الا عندما سمعوا بعض مراسلي قسم الزيارات في اليوم السابق ينادون ’يا اسمرا لجوج.. يا اسمرا لجوج‘ أي ’يا ابناء اسمرا.. يا ابناء اسمرا‘ وبعبارة اخرى القادمون من اسمرا فبدأوا في البحث بين العنابر الى ان اهتدوا الى مكاننا.
سعدنا كثيرا بسلامتهم وبلقائهم، وبالرغم من وقوف شخصين او ثلاث خلفهم بشكل مريب، بدأنا في تجاذب الاخبار والمستجدات خصوصا انه مضت عليهم فترة طويلة لم يواكبوا فيها مجريات الاحداث في الساحة. وبينما هم على وشك الانصراف استفسر صالح بشير من سعيد حسين ’ما بال هؤلاء القوم يقفون على رؤوسكم ومغزى وضع احدهم وسادة جلس عليها الاخ محمد ادريس!‘ ضحك سعيد وقال ’انهم زبائنه‘ مشيرا الى محمد ادريس الذي اسرع في توضيح الموقف قائلا ’انهم من كيفيي سيجارة "Gazelle‘’ الاوسع شهرة وانتشارا في اثيوبيا على غرار سيجارة روثمان في ارتريا فكلما اشعل سيجارة ناولهم عقبها ليتناوبوا عليه ولهذا يتبعونه في حله وترحاله يحمل احدهم وسادته حتى لا يحاول اي غريب الاقتراب منه، وعندما لاحظ اننا لم نستسغ الرواية قال ’يا جماعة انتم في بلد وشعب غريب وسترون عندما تجوبون السجن اشياء لو حدثتم بها شعبنا بعد التحرير لن تجدوا من يصدقكم بل حتى من يستمع اليكم، ولهذا اوصيكم، وهذه امانة على اعناقكم، ان تدونوا مشاهداتكم وملاحظاتكم بل وان تشهدوا بعضكم لعلكم تجدون من يثني على ما قلتم، وكان هذا مدخلا لنعرف منهم بعض الحقائق الاولية عن حياة السجن والمساجين.
من خلال ما قالوه بخصوص بحث عمال قسم الزيارة عن قادمين من اسمرا في اليوم السابق، تأكدنا ان رسالتنا الشفوية الى الخال يحي حمد حالي عن طريق احد الحراس يدعى محمود نبلغه فيها نقلنا الى مكان ما قد وصلت وان الاتصالات بمن يتواجد من الاهالي في المدن الاثيوبية قد بدأت فعلا حيث كنا نخشى ان يتمكن المقدم بلطي من تنفيذ مؤامرته بدون ان يشعر او يعرف عنها احد. في يوم الخميس أي في اليوم الثالث لقدومنا رابطنا قريبا من المنطقة التي يوجد فيه الميكرفون الخاص بهذا الشأن حتى لا تضيع علينا فرصة اخرى، والجدير بالذكر يوم الثلاثاء ويوم الخميس من كل اسبوع مخصص لاستلام الاطعمة والملابس فقد ويوم الاحد للمقابلات الشخصية. اندهش رئيس العنبر عندما رأى عمال قسم الزيارات محملين بالخيرات الوفيرة حتى سال لعابه وتأكد اننا لسنا مقطوعين من شجرة ولعله نقلنا ذهنيا من دائرة الخدم الى دائرة المستخدم، لم نتأخر كثيرا في سد فمه وفم نائبه بشيء مما افاء الله به علينا، وهو ايضا لم يتأخرا في الايعاز الى عماله لتوسيع المنطقة المخصصة لنا لتتناسب مع الوضع المستجد وما يترتب عليه من زيادة قيمة الايجار.
عندما ذهبنا اليه في العصرية بطلب منه، كان في ابهى عظمته جالسا على سريره وبجانبه نائبه وعلى جانبي السرير حراس يحملون سياطا ومثلهم يقفون خلف السرير. كان في نهاية العقد الخامس من العمر تقريبا، وحسب ما علمنا كان رئيس عصابة مشهورة في اقليم قندر وانه حكم عليه بالسجن المؤبد، اما نائبه الذي يدعى ادم فكان من اقليم اوجادين الصومالي، حكم عليه بعشرين عاما بتهمة الانتماء للجماعات المناهضة للاحتلال الاثيوبي للإقليم. اما الغرض من الدعوة كان لإحاطتنا علما بعدد الخدم الذين ينبغي استيعابهم وتحديدا ما لا يقل عن ستة.
قبل التطرق الى العدد، حاولنا بقدر الامكان افهامه انه لا يوجد في المجتمع الذي ننتمي اليه مصطلح خادم ومخدوم بالمعنى المذكور وحتى المساجين في ارتريا سواسية تتكفل الحكومة اعاشتهم ورعايتهم بصفة عامة، ولكنه لم يفهم ما قيل ناهيك ان يتفهمه ويعمل به. وبعد جدال ومساومة مع رشوة اضافية تم الاتفاق على تشغيل ثلاثة فقط. شدد عليهم امامنا للقيام بواجباتهم بكل أمانة واخلاص، كما اعاد التأكيد علينا امامهم الا نعطيهم اكثر من المتعارف عليه، ثم كلف نائبه بتسهيل امورنا والاهتمام بكل ما يخصنا ومن خلاله تم نقل الخدم الى مكان قريب من موقعنا.
ليس بالمستغرب ان يكونوا في حالة يرثى لها، ثياب مهلهلة لا تكاد تستر العورة تفوح من اجسادهم ريحة نتنة، ذكر احدهم انه مضى عليه في السجن خمسة اعوام لم يغتسل خلالها الا مرة او مرتين. فأعطينا لكل منهم غيار ملابس وصابونة مع دفع اجرة استحمامهم ومن ثم حددنا لهم مهام وهمية، وبعد العشاء ناولناهم بطريقة اعتبرناها خفية شيئا مما اكلنا. في الصباح وعقب قضاء ليلة هادئة ودافئة بدأ التسابق للاستحمام بعد ان اصبح لنا خادم يتولى تنظيف واعداد الحمام قبل استعماله، وحسم الترتيب بالقرعة! لم تمض على دخول الزميل الحمام لحظات وبينما هو معفر بالصابون دخل عليه الخادم ليساعده وجرى بينهما ما يشبه صراع الديوك انتهى بخروج الزميل وهو حانق ولا يكاد يرى وازداد غيظا جراء التعليقات التي انهالت عليه من هنا وهناك، وكان لنا هذا بمثابة الدرس الاول في اختلاف الثقافات.
وما لم نعمل حسابه حتى دخول المساجين في الثانية عشرة ظهرا، كون معظم المجموعة التي تجلس مقابلنا مباشرة عارية او متعرية وهو امر طبيعي لم يستجد مع وجودنا ولكنه لم يكن مقبولا بالنسبة لنا فجمعنا بعض الملابس الفائضة ووزعناها عليهم كحد ادني من المعالجة. عندما اخبر احد الزملاء الأخ سعيد حسين في العصرية توقع ان تكون النتيجة اسوء مما نتوقع وستتحول الى ابتزازنا وفعلا كان صادقا. ليس هذا فحسب، حيث استدعانا رئيس العنبر وهو مكفهر الوجه ووبخنا بعنف على ما اعتبره تجاوزا لا يرقى الى درجة تحريض بقية الخدم على المطالبة بنفس المعاملة في وقت لا يحق لهم فيه حتى النظر الى ما لدى اسيادهم من متاع، ادركنا من حدة العبارات واللهجة التي تحدث بها ان الامر يتجاوز معاملة سجين الى المساس بحالة العبودية المتأصلة في المجتمع الاثيوبي.
فمن المفارقات العجيبة معظم من كانوا ينامون على سرائر ويحظون بخدمات خاصة وكأنهم في فنادق هم ضباط في الجيش ذوي رتب عليا اقلها رتبة كولونيل ينتمون الى خمس مجموعات انقلابية، اما الجنرالات فكانوا في القلعة لم نشاهد منهم احدا، انضم اليهم اثناء وجودنا الجنرال تادسى برو الذي قاد محاولة فاشلة وقبض عليه في الحدود السودانية. عدا ضابط واحد من قومية تقراي جميعهم من قومية الامحرا.
في الحقيقة، كنا نسمع العشرات ممن حولنا يتنادون بالقاب ورتب عسكرية وان كانت متدنية وبالنظر الى حالتهم المزرية، لم نعتبرها رتب حقيقية بل مجرد كنايات والقاب من باب التسلية حتى عرفنا ان ربع السجناء من العسكريين، قلة منهم لجرائم عادية اما الاكثرية الساحقة كلهم متهمون بجريمة قتل لأسباب سياسية تعود الى تاريخ قيام الجيش بقمع المحاولة الانقلابية التي قام بها الحرس الوطني بقيادة الكولونيل منغستو نواي في 1961/12/12. ومن ذلك الوقت بدأ الصراع والعداء بين الطرفين حيث وصم الجيش الحرس الوطني بالخيانة الوطنية تطورت الى تصفيات ثأرية وخصوصا بعد ان حل الإمبراطور الحرس الوطني ودمجه في الجيش. سأل الزميل صالح جابر وراك سجينا يدعى بلاي من الحرس تم دمجهم في الجيش عن التهمة التي سجن بسببها فذكر له انه قام بتصفية اكثر من عشرة جندي في طابور صباحي نتيجة استفزازات قاموا بها تجاهه. واضاف ان هذا العدد المعترف به اما العدد الحقيقي فاكبر منه بكثير.
اعتقد ان من اهم الفوائد التي حصلنا عليها من خلال تواجدنا الى سجن اديس ابابا اننا تعرفنا على نوعية العقلية التي تسود في اثيوبيا وتلك التي تسعى للحلول محلها تحت شعارات وطنية اصلاحية والتي لا يمكن ان تعتبر افضل منها بأي حال من الاحوال، والمآسي التي سيواجهها الشعب الارتري علي يد مثل هؤلاء الجنود الوحوش، اذا قدر الله، ونجحت اية فئة انقلابية من هذه الشاكلة في الوصول الى سدة الحكم. فأثيوبيا المصغرة التي رأيناها في السجن حرام ان تحكمها ناهيك ان تحكمك ما عزز من ايماننا بحتمية الاستقلال مهما طال الزمن وارتفعت التكلفة.
واخيرا اشرق يوم الاحد - يوم المقابلة الذي كنا ننتظره بفارغ الصبر، فما ان سمعنا من ينادي ’يا ابناء اسمرا لجوج‘ اسرعنا الخطى الى الاتجاه حسب الوصف حيث كان السجن عبارة عن قرية صخرية صغيرة وعرة المسالك حتى تمكنا من رؤية مظلة في مكان مرتفع يتدافع تحتها مئات المساجين ومثلهم من الزوار وان لم يظهروا وسط اصوات صاخبة. حاولنا جاهدين ونحن نسير تمييز من نعرفه من الاشخاص حتى صرخ احد الذين كانوا في المقدمة ’انه الملعون.. المقدم بلطي‘ ورفع الجميع رؤوسهم حتى تأكدوا من طول قامته ولون بشرته وتسريحة شعره المميزة. وبشكل تلقائي تحولنا الى حلقة نناقش فيها سبب زيارته ولماذا لم تكن عن طريق المكتب وما عساه يريد ان يقول، كل هذا بدون ان ينظر احدنا نحوه، عندما تحركنا على مهل وتمهل لاحظنا انه يلوح بيده حتى يشعرنا بوجوده ونتقدم الى الجهة المتواجد فيها اذ كان الصف طويلا جلا ومع هذا تظاهرنا بعدم رؤيته حتى وصلنا اليه مرغمين لنكتشف انه الاخ الحاج موسى محمود كيكيا وحوله عدد كبير من الاهالي والاصدقاء.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.