ذكريات وتجارب - الحلقة الثانية والاربعون

Samadit.com سماديت كوم

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

لم نتوقع زيارة اكثر من بضعة اشخاص وحتى هذا بعد التريث ريثما تتضح الصورة كاملة بالنظر الى حجم وحساسية القضية

وخصوصا بعد ان تم نقلنا بطريقة تكاد تكون اختطاف، الا ان ما رأيناه كان عبارة تظاهرة سياسية تحمل في طياتها رسالة تطمين وفي نفس الوقت تحذير أنه حتى في اديس ابابا هناك من سيقوم بالمتابعة والدفاع. اذكر من الاشخاص الذين حضروا، على سبيل المثال لا الحصر، الحاج موسى محمود كيكيا، محمد علي بدوي عمريت، عبد الله ادريس خليفة، ادريس عثمان برحتو، ادريس حسين سعدو، احمد سيد على، عبده القادر احمد بشير وبالطبع الشكر والتقدير موصول لمن لم اخصهم بالذكر بسبب النسيان لا غير.

للأسف، لقد حالت الزحمة الشديدة والاصوات الصاخبة حيث يحاول كل واحد رفع عقيرته اكثر من غيره فضلا عن الفاصلة بيننا دون التقاط كل طرف ما يقوله الاخر بشكل معقول ولكن تعابير وكلماتهم المتهدجة المفعمة بالعواطف كانت كفيلة لعكس مدى تأثرهم لرؤيتنا بعد زمن طويل خلف القضبان، ومن اعادة تأكيد التزامهم تجاهنا، ومن لم تسعفه قامته وخانته حنجرته منا اكتفى بالتلويح عن بعد. وقبل الوداع اخبرونا انهم سيزورننا في الاسبوع المقبل لمناقشة كيفية التحرك قانونيا بحضور الحاج عثمان احمد كيكيا الاكبر سنا ومكانة بينهم واحد ابرز اثرياء اديس ابابا.

علما ان جزء كبيرا من الزوار كانوا من ذوي واصدقاء المجموعة الثانية، فالزميل أبرها حقوص كان شخصا معروفا في اديس ابابا، الزميل قبري مدهن بنانا ايضا كان تاجرا في اسمرا، الزميل ردأ تمنوو كان مسئولا في المطبعة الحكومية في اسمرا، الزميل قرماي بخيت كان موظفا في القطاع الخاص في اسمرا والزميل هبتي كحساي كان مقاتلا في الجبهة، ولكل منهم اهل واصدقاء في اديس ابابا، مع هذا كان للصدف دور كبير في هذا التجمع. فعندما علم شقيقي محمد خبر نقلنا من اسمرا وتوجه في اليوم التالي ومعه الاخ ادريس عثمان برحتو الى سجن اديس ابابا المركزي للاستطلاع، التقيا بشخصين حضرا لنفس الغاية من اهالي المجموعة الثانية احدهما السيدة جنت حقوص شقيقة الزميل ابرها، فتم بينهم التعارف ثم الاتفاق على عقد لقاء موسع في ذات اليوم لتدارس الموضوع تمخض عن اهمية التعامل معه من منطلق وطني وانشاء صندوق يشارك فيه جميع الوطنيين لتلبية المتطلبات الانية والمستقبلية في حالة حدوث نفس الشيء حتى لا يقع العبء على افراد بعينهم. فكانت الخطوة الاولى شراء الاشياء التي وصلتنا يوم الخميس مع تكليف مطعم يقدم ذبيحة اسلامية ومسيحية لإعداد اطعمة كافية في حاويات من ذات اللون والشكل مع وضع اشارة هلال او صليب اذا كان لحما من اجل التنبيه وايصالها الى السجن مباشرة، والتنسيق بخصوص الزيارات لضمان استمرارية الزخم المعنوي والسياسي. في الحقيقة، لقد لاحظنا تشابه الاشياء التي وصلتنا بل وتطابقها الا اننا اعتبرناه محض الصدف، وبصرف النظر عما تم بينهم، كانت المجموعتان على انسجام ووئام تام قلما تنفض حلقتنا الا لأداء الصلاة او النوم في بيئة ليس بين افرادها أي تواصل ما اثار دهشة واستغراب الكثيرين ممن حولنا ولكن ليس بسبب هذا الفارق، كما اعتقدنا، انما لأمر اهم واكبر كشفته الايام اللاحقة.

لم يكن مستوى الزوار من الطرفين او زيادة عددهم اول ما لفت نظرنا في الزيارة الثانية، انما مدى الاريحية التي سادت بينهم وكأن لسان حالهم يقول ها نحن نعمل معا في وقت تقوم به الحكومة بحملة محمومة لتأجيج مشاعر العداء بين الارتريين طائفيا! في البداية تحدث الحاج عثمان احمد كيكيا عن الجميع وللجميع عن بالغ حزنهم لما حل بنا مع الاعتذار مقدما لعدم قدرته شخصيا تكرار الزيارة كما يود لدواعي صحية مع الاشارة الى انه اوعز الى بعض الاخوة سرعة ابلاغه بأية احتياجات نطلبها لتوفيرها فورا بصرف النظر عن الصندوق المشار اليه، وانه ابلغ طبيب السجن الايطالي الذي هو في نفس الوقت طبيبه الشخصي الاهتمام بنا وتحويلنا الى مستشفى خارجي للعلاج والتعرف على معالم المدينة.

اما بخصوص وضعنا، فقد علمنا ان الاخ محمد سعيد عبد القادر بشير والمحامي اموائيل والقاضي الايطالي تليرو شرعوا في اتخاذ الاجراءات الكفيلة لحمل المباحث على إعادتنا الى اسمرا فورا تحسبا استمرارنا في سجن اديس ابابا اذا ما تدخلت الحكومة وتم إبرام الحكم او حتى تشديده ولما تترتب عليه من مشاق بالنسبة للعوائل اذا ما ارادت الزيارة. فلم يكن امام الاهالي في اديس أي خيار سوى الانتظار مع عمل الاتصالات اللازمة لمواجهة تحويل القضية الى اديس ابابا فعلا.

اول من استفاد من توصية الشيخ عثمان كيكيا كان الاستاذ محمود صالح صبي الذي كان يعاني من قرحة في المعدة. وصف له الدكتور بعض الادوية على ان يحوله الى مستشفى خارجي في حالة عدم تحسن الحالة. حسب النظام المعمول به في السجن، يمنع تسليم المريض اية ادوية ولهذا طلب منه الصيدلي دخول حتى يصرف له العلاج ليدخل الاثنان في جدل عقيم الى ان تدخل ممرض ارتري يعمل في المستشفى. سحب الاستاذ محمود جانبا وشرح له اولا الا يبلع اية ادوية تعطى له الا بعد عرضها عليه من اجل سلامته، وثانيا الا يدخل المستشفى لأنه سيطلب منه استبدال ملابسه بملابس المستشفى وارسال ملابسه الى العنبر، وعند خروجه سيطلب منه خلع ملابس المستشفى والذهاب الى عنبره عاريا وهذا غير مقبول بالنسبة للارتريين. ولولا ان رأى الاستاذ محمود بعض المرضى يغادرون المستشفى عرايا لما صدق ما سمع، فكان الحل اطلاع الشيخ عثمان كيكيا على ما حصل وفعلا تم التغلب على المشكلة.

كان الاخ محمد علي بدوي والاخ ادريس عثمان برحتو في انتظار الاستاذ محمود امام المستشفى الذي حول اليه وفور انتهائه من الكشف دفعا للحارس بعض الدراهم ففك قيده وانطلق الاربعة يجوبون شوارع المدينة واماكنها العامة الى الساعة الرابعة عصرا موعد حضور السيارة لنقلهما الى السجن. كنا نلاحظ من وصولنا مغادرة بعض الضباط في وقت مبكر من الصباح وهم قمة الاناقة ويعودون حوالي الخامسة وعلمنا ان بعضهم كان يذهب الى محكمة وبعضهم الى مستشفى بدون ان ندرك انها فرصة لقضاء اليوم مع عائلتهم، والسؤال الذي لم نجد له جوابا فطالما يفك الحارس اسرهم ويرافقهم الى منازلهم احرارا فلما لم يحاولوا الهرب. والاغرب في هذا الخصوص، سلم شخص هرب من السجن نفسه بحجة انه ’لا مهرب من الحكومة والرب الا اليهما‘. وكانت هناك حقيقة لابد من اخذها في الاعتبار، ان نسبة كبيرة جدا من المساجين لا يجدون مكانا يؤويهم وخصوصا يحين الشتاء وتشتد الامطار والبرد القارص، ولهذا كان هناك من يتوارى بين المساجين عندما يحين يوم اطلاق سراحه، فهؤلاء البؤساء لا ينحدرون الى هذا الدرجة رغبة منهم انما نتيجة صفوة لا تقيم لهم وزنا ولا قيمة.

كانت الحياة اليومية روتينية كالعادة حتى دخلنا العنبر في الثانية عشرة ظهرا، واذ اخذنا في نتبادل ما استجد من مشاهدات وانطباعات لفت نظرنا تزايد تركيز الانظار علينا من كل صوب وكأننا نبتنا فجأة من الارض حتى توجسنا شرا، او على الاقل، امرا ذي بال دون ان نتنبه الى تقدم احد مساعدي رئيس العنبر تجاهنا. أسرع كل منا لوضع صحنه امام مرقده كما جرت العادة عندما ذكر انه سيتم خلال دقائق توزيع لحم وقبل ان يخبرنا ان المسلمين يستلمون اللحمة في الساحة خارج العنبر لكون الغالبية في العنبر مسيحيون مشيرا الى رقم مكتوب على الباب من الداخل - يحدد عدد افراد كل طائفة - والذي لم يتغير بالرغم من حركة النقل اليومية، وقال، كأنه وجد حجة مقنعة، انهم يقومون بهذا الاجراء مراعاة لحساسية كل طائفة من رائحة ذبيحة الطائفة الاخرى ما اعطانا فرصة لإفحامه ’اننا لا نتأفف من رائحة لحمة يأكلها انسان مثلنا بصرف النظر عن ديانته، ومن لا يقبل بهذه الحقيقة اولى به بالخروج لا غيره، واذا كانت قطعة لحم هذه مستحقة لنا قانونيا فلتعط لنا وسنأكلها حيثما شئنا ولا نقبل بمثل هذه المعاملة‘.

لم نكن نعلم ان هذا الموضوع كان مدار بحث ونقاش منذ الصباح بين رئيس العنبر ومساعديه وربما الادارة ايضا تحسبا لما قد يترتب على موقفنا من اجراء، وبعد عدة تنقلات مكوكية بيننا وبين رئيسه اقتنعوا انه ليس امامهم سوى التسليم بما قلنا كأمر أمر واقع، على الاقل لبعض الوقت. وهكذا لأول مرة في تاريخ السجن اكل المسلمون والمسيحيون لحمة تحت ثقف واحد، غير ان الامور تشعبت اكثر مما كانت عليه بعد ان تبين من عملية التوزيع ان المسلمون اعطوا قطعة لحم بينما اعطي المسيحون قطعة عظم ما اثار شكوك البعض، وبالتدريج كبرت المشكلة الى درجة تقديم استفسار صريح الى رئيس العنبر ومن خلاله الادارة ليجيء الرد اقبح من الذنب حيث قيل لهم ان المسلمين في هذا القسم يتقاسمون اللحمة مع مسلمين في قسم المحكوم عليهم وكذلك المسيحيون مع ان عدد نزلاء قسم المحكوم عليهم اقرب الى ضعف هذا القسم بحيث لا يمكن تقاسمهم الذبيحة، واذا كان هذا صحيحا فلماذا لا يعطى كل قسم قطعة لحمة او قطعة عظم منعا للبلبلة!

انتشر الخبر في بقية العنابر بأٍسرع مما توقعنا ولم نسلم من ذيوله بعد ان شاع اننا كنا سبب المشكلة واننا مجموعة ارترية ضبطت بحوزتها مدافع ومبالغات لا حصر لها، وسلم معظم المساجين بانهم ظلوا يأكلون طوال هذه السنين نفس الذبيحة وليس ذبيحتين كما كانت توهمهم الادارة. زارنا في احد الايام ثلاث اشخاص من عنابر اخرى احدهم يدعى شيخ عمر من ابرز المعارضين في منطقة هرر حكم عليه بعشرين عاما، قالوا ما كان في جعبتهم من اخبار ومعلومات في منطقتهم ونحن كذلك وكانت هذه بداية التعارف مع السياسيين على مختلف مشاربهم. ظلت النار تحت الرماد انتظار لما سيحصل في المناسبة التالية بعد اسبوعين.

حلت المناسبة في عنبرنا وولت بسلام لم يطلب فيها احد منا او من غيرنا الخروج، بينما شهدت بعض العنابر معارضة اقرب الى تمرد، فقد امر شيخ عمر وكان رئيس عنبر المسلمين بعدم الخروج ما احدث ربكة كبيرة بين المساجين وانتهى بسلام، وقام بعض المسلمين في عنبرين اخرين بنفس الخطوة ايدهم فيه من بعض المسيحيين، وحالات مماثلة في عنابر اخرى استدعت في مجملها قيام المدير برتبة كولونيل بزيارة كل العنابر من اجل التهدئة والتوضيح منحيا باللائمة الى سوء تصرف رؤساء العنابر الذين قام بتكبيلهم على مرأى ومسمع من الجميع وزجهم في قلعة من ضمنهم رئيس عنبرنا والشيخ عمر.

بالطبع لم ينطل تدليسه على احد ولم يكن هناك أي شك في كونه فعل ما فعل لمجرد الخروج من الورطة، وان الامر لن ينتهي على هذا النحو وخصوصا تجاهنا بعد ان اتهم الاشخاص الذين قاموا بزيارتنا بالقيام بتعبئة المساجين طوال الايام السابقة وكأنه يوحي ان ما حصل كان بتدبير وتحريض منا فهيأنا انفسنا لكل الاحتمالات وخصوصا دخول قلعة (الم بقا) اللعينة من اوسع ابوابها. وفعلا لم يخيب ظننا حيث اصدر تعليمات بتوزيع كل ثلاثة منا في عنبر،. انتقلت الى العنبر الجديد صحبة الزميلين صالح بشير وعثمان رمضان حسين، وربى ضارة نافعة، فقد اتاح لنا هذا النقل فرصة التحرك اكثر والاحتكاك مع نزلاء القسم والتعرف على قضاياهم عوضا عن قضاء معظم الوقت معا وفي مكان واحد.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click