ذكريات وتجارب - الحلقة الثالثة والاربعون

Samadit.com سماديت كوم

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

لقد عزينا عدم تعامل الدكتور الايطالي مع بعض الزملاء الذين راجعوه سعيا وراء تحويلهم الى مستشفى خارجي على غرار ما قام

به مع الاستاذ محمود صالح سبي في وقت سابق الى سرعة وكثرة المراجعات حتى لا يلفت نظر الادارة الا ان اشارة وصلت من الشيخ عثمان كيكيا يذكر فيها ان الادارة حذرت الدكتور من تحويل أي منا الى عيادة خارجية وحتى هذا لم يكن بالمستغرب الا ان تزامنه مع نقل الضابط الارتري الذي حال دون دخولنا قلعة ’الم بقا‘ في اليوم الاول قدمنا فيه الى هذا السجن ثم ايقاف الشخص الذي قابله الاستاذ محمود سبي في المستشفى عن العمل حيث اتضح انه كان يحمل رتبة عسكرية في الحرس الوطني ومن مجموعة الشهيد امبايي حدرو التي تم القبض عليها حوالي اسمرا وهي تحاول الالتحاق، ادركنا ان هذه الاحداث ليست منعزلة عن بعضها ولربما مرتبطة برسالة حاول احد الزملاء تهريبها في حافظة شاهي. كان الجميع على علم ان هذا الزميل يحث عائلته على العمل لقضاء ما تبقى من فترة حكمه في هذا السجن وكان محقا في اختياره طالما توفرت له كافة الاحتياجات وخصوصا اذا تم نقله الى قسم المحكوم عليهم حيث قيل انه يتميز بتسهيلات وخدمات كثيرة للقادرين ماديا منها دخول قضاء العوائل بصرف النظر عن عددهم مع قريبهم في السجن نحو ست ساعات تقام خلالها ولائم عائلية فضلا عن امكانية قيامه بزيارة عائلته بين الحين واخر بحجة مراجعة عيادات خارجية.

خشية اعتبار الادارة تحركاتنا ممارسة سياسية واتخاذها ذريعة للإيقاع بنا، قللنا من اللقاء حتى مع من تعرفنا عليهم، ومع هذا كدنا نتورط في احتكاك لا مبرر له. كنا في الساحة عندما تعالت الاصوات ’كوسو مطا.. كوسو مطا – وصل كوسو .. وصل كوسو‘ وبدأ التسابق الى العنابر وبدون ان نعرف اذا كان الواصل شخصا ام مصيبة عدنا الى العنبر لنجد كل الجميع قد وضع انائه امام مرقده كما يحصل عند توزيع الشاهي او الماء فتوقعنا الا يكون كوسو اكثر من مشروب ما، واذا نحاول وضع اكوابنا اسوة بالأخرين طلب منا رئيس العمال بأسلوب ارعن البقاء في الخارج لأنه لن يعطى لنا واحتدم بيننا جدل حاد تداعى له العمال بسياطهم، اصرينا على حقنا مستدركين موضوع اللحمة وما تسببت فيه، ولحسن الحظ تدخل احد العقلاء من النزلاء موضحا لنا ماهية الكوسو ولماذا لا يعطى لنا فتحول الموضوع الى طرفة بعد ان اعتذر العامل ونحن ايضا لان حكمنا المسبق على ما حصل فاقم المشكلة بدلا من حلها.

’كوسو‘. عبارة عن علاج بلدي يعطى لقتل الديدان الشريطية الذي تعاني منها نسبة كبيرة جدا من الشعب الاثيوبي، وحسب تعريف موقع طبيب دوتكوم، تعرف الدودة بالشريطيات او السستودا، شريطية الشكل قد يصل طول اطول أنواعها الى 30 قدما ً، و تنتقل عدواها عن طريق تناول لحم الخنزير او البقر او الاسماك التي لم يتم طهوها جيداً ويتكون كل منها من عدة قطع وتتفاوت أنواعها في درجة خطورتها ويتكون كل منها من عدة قطع (على شكل اكياس) وتتعلق بخطاطيفها او ممصاتها من بطانة امعاء الحيوانات والبشر مسببة نوبات تشنجية و صداع واضطرابات بصرية.

في اقل من نصف ساعة لم يعد احدهم قادر على التحكم على نفسه لنزع ملابسه، ولان المرحاض الوحيد في العنبر تشغله النخبة، تحولت كل بقعة من الساحات الى مراحيض تغطيها الاف الديدان في منظر مقزز جدا في وقت لا توجد فيه اية وسائل لتنظيفها او اغتسال الاشخاص قبل الدخول. ومن هذه التجربة علمنا ان المستشفى لا يوفر أي علاج الا للقادرين على الشراء ودفع الرشاوي من اجل تحويل خارجي.

ومن احد المواقف التي تخلينا فيها عن حذرنا بدافع حب الاستطلاع، سرنا خلف مجاميع كانت تسرع الى الجهة الخلفية من العنبر بما يوحي ان هناك شيئا جديرا بالمشاهدة لننتهي امام حلقة كبيرة من البشر يتوسطها شخصان يتجردان من ملابسهما فعرفنا اننا امام مصارعة على الطريقة الاثيوبية وان لم نفهم اذا كان التعري شرطا من شروطها ام حفاظا على سلامة ما تبقى من الملابس البالية. فما ان التحم الاثنان وفي يد كل منهما حجر كبير حتى انقض مؤيدوهما على بعضهم حتى تطور الوضع الى شجار جماعي كبير اعقبه قصف بحجارة من مسافات بعيدة وبلا تمييز فاطلقنا لأرجلنا العنان طلبا للسلامة بينما الاشتباكات تزداد ضراوة ودموية وقذائف الحجارة تصطدم بالصخور حولنا كأنها رصاص.

لم تكن هذه الاشتباكات الاولى ولا عفوية بل هي حلقة من حلقات متكررة تصفي خلالها اطراف كثيرة حساباتها في مقدمتها جنود سابقين في الجيش والحرس الوطني، ثم اجنحة عصابات تمارس تجارة بين السجن والخارج وخصوصا عصابة ’قرا مشي‘ المشهورة بالابتزاز وفرضها جبايات على المحال التجارية في عموم اديس ابابا فضلا عن الفتك بكل من يتحرك في الشارع بعد حلول الظلام .
ذكر لي احد الضباط الذي حاول التعرف على الوضع في ارتريا انه كان مسئولا عن امن المؤتمر الاول الذي عقدته منظمة الوحدة الافريقية في اديس ابابا عام 1961، وانه، بالرغم من تحمل الحكومة اعباء مالية كبيرة جدا وهي احدى الدول التي تعتمد على عانات خارجية، كان متحمسا لانعقاده، الا انه غير رأيه لرؤية معظم رؤساء الدول والوفود المرافقة لهم يغطون في نوم عميق بعد قضاء ليلة حمراء في الملاهي الليلية على حساب الحكومة في وقت كان يلقي فيه الامبراطور الكلمة في الجلسة الافتتاحية، وقراءته ما كانت تناقله الصحف المحلية والدولية عما اسمته ’فعاليات المؤتمر الافريقي ومخرجاته التاريخية‘ مع ان المناقشات بالكاد لامست قشور المشاكل الافريقية المتشعبة، وانه منذئذ انخرط مع مجموعة من الضباط في العمل السياسي بهدف الاطاحة بهذه الانظمة المصطنعة بداية بنظام الإمبراطور الاقطاعي واقامة نظام ديمقراطي يضمن العدل والمساواة لعموم شعوب أثيوبيا بما فيها ارتريا. وقال انهم تمكنوا من استقطاب عدد كاف من الضباط لتنفيذ الانقلاب بداية باغتيال الامبراطور. وفي اليوم والساعة المحددة وعندما اصبح موكب الامبراطور على بعد عدة كيلو مترات من المكمن، اتصل احد الضباط المشاركين بالموكب وكشف له الخطة ما ادى الى تغيير المسار واعتقال كافة المشاركين في نفس اللحظة. واعاد الدافع وراء افشاء الضابط السر الى التناقض المسيطر على عقلية معظم النخبة العسكرية من قومية الامحرا، فمن ناحية يؤمنون بضرورة قيام ثورة وطنية وبنفس القدر يخشونها حتى لا تفقدهم سيطرتهم الشبه كاملة على الثروة الوطنية ولربما الى الابد، ويعود سبب فشل كل المحاولات الانقلابية التي جرت حتى الان الى تغليب المصلحة الذاتية على المصلحة العامة.

لم نكن وحدنا من يشعر بتسارع الايام، فالمقدم بلطي الذي استبق حكم محكمة الاستئناف بنقلنا الى اديس ابابا في عمليه ارتجالية وغير قانونية بعد ان استشعر من خلال حضوره الجلسة الثانية والمنحى الذي بدأت تأخذه المداولات وامكانية نسف ما قام بتحقيقه من خلال اقحام ممثل الامبراطور اسراتي كاسا، كان ايضا يشعر بهذه السرعة. ولم يكن مدير سجن اسمر عن هذه الهواجس ببعيد بعد ان فرط في عهدة تسلمها رسميا من المحكمة وايضا ادارة سجن اديس ابابا التي تحتفظ بعهدة لا تعرف ولا تملك احقية وكيفية التصرف بشأنها. ولهذا آثر المحامي والقاضي التريث ريثما تطلب المباحث رسميا من المحكمة نقل ملف القضية الى محاكم اديس ابابا وعندئذ تقوم بالاعتراض عليه، او تتراجع عن محاولتها البائسة وتعيدنا قبل موعد الجلسة الى اسمرا.

عقدت الجلسة في موعدها بنفس التشكيلة من القضاة والمدعي العام بدون الاشارة الى سبب نقلنا الى اديس ابابا. أكتفي المدعي بالمطالبة بإبرام الحكم الصادر بحقنا بينما طالب المحامي بضرورة اعادة النظر في المواد القانونية وتبرئة موكليه من كل التهم. وفي نهايتها تحدد موعد الجلسة الاخيرة التي سيتم فيها النطق بالحكم، ومن خلال الاتصالات المستمرة كان واضحا ان الامور تسير وفقا لما تم الاتفاق عليه مسبقا.

شهدت جلسة الحكم حضورا كبيرا جدا تشي وجوههم بالتوتر والقلق لما سيتمخض عن هذا المخاض الطويل وتحمله الدقائق القادمة وما قد تؤول اليه الامور بعدها. دخل رئيس المحكمة وخلفه قاضي واحد ولم يظهر القاضي الثاني وفي الموعد المحدد اعلن رئيس المحكمة انه بالنظر الى عدم تمكن احد القاضيين المساعدين من الحضور، وبناء على ينص عليه القانون بعدم عقد محكمة الا بحضور كامل الاعضاء من قضاة ومدعي عام ومحامي، فانه تم تأجيل المحكمة الى موعد اخر، ورفعت الجلسة. كان هذا اليوم اخر ايام القاضي تيليرو في سلك القضاء بعد ان كان قد قدم استقالته احيلت القضية الى قاض اخر. لم يشك احد ان المباحث كانت وراء غياب القاضي ولكن ماذا بعد.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click