ذكريات وتجارب - الحلقه الحاديه والستون

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

عندما ذهبت في احد الايام الى العيادة فاجأني ممرض السجن يدعى سهلي بالقول ’تقرئكم الجبهة السلام وتعدكم بالتحرير قريبا‘.

في الحقيقة، لم اعر كلامه أي اهتمام من ناحية لأنني كنت أعاني من صداع نصفى حاد جدا وكان هو ســبب مجيئي، ومن ناحية اخرى، لم تتجاوز العلاقة بيننا طيلة السنوات السابقة مستوى توفير بعض الأدوية على حسابي بعد الغاء العلاج وتحول المستشفى الى عيادة للإسعافات الاولية، ثم اعتقادا أنه كان بعيدا عن الاهتمامات الوطنية حتى انتهز الفرصة للاسترسال معه في مناقشة مثل هذا الموضوع الحيوي.

كان جل اهتمام سهلي في هذا الوقت، على حد ملاحظاتي، مركزا على كيفية تحسين مستوى لغته الامهرية والالمام بالقوانين الاثيوبية لخوض الانتخابات البرلمانيـة المقبلة. كرر سهلي نفس الكلام وانا أوشك على الخروج وفى نبرته نوع من الجدية. وجدتني أقول له عفويا ’اخبرهم أننا مستعدون للخروج‘.

ذكرت هذا الموضوع لزميلي صالح جابر وراك، وزملائي في التدريس ارمياس مرهزين، برهاني تلخزين، يعقوب كيدانى وقرماى ابرها (بوليسيا) بحكم العلاقة القوية بيننا حيث كان يجمعنا برنامج مناقشات يومي وكذلك الزميل سيوم عقباميكائيل.

بالكاد انتهيت من سرد ما دار بيني وبين سهلي حتى ضج الزملاء بالضحك ظنا أنني أصبت بنوع من الهذيان بفعل العلاج الذي كنت اتناوله، او ان الثمالة بلغت بسهلي حدا افقدته رشده، مستبعدين أن يكون سهلي قد سمع أصلا بوجود الجبهة ناهيك أن يلتقي بها. عبثا حاولت إقناعهم بأنني واع تمإما وان كل ما قلته حقيقة سمعتها من سهلي وانه كان عاديا وواعيا جدا بصرف النظر عن رأينا في مدى وطنيته. ولربما كان السبب الاساسي في هذا الرأي وللأمانة التاريخية، لم يدر بخلد أحدنا، ولو للحظة، أن نحرر من غياهب السجن قبل تحرير كامل تراب الوطن.

بعد اصرار من جانبي واستخفاف من جانبهم، اتفقنا على أن أتأكد من صحة وجدية الموضوع. فرصة الذهاب الى العيادة في المساء كانت الامتياز الوحيد الذى كنا نتمتع به كمدرسين. كرر سهلي ما سبق ان قاله بلا أي تلكأ او تردد بل اضاف ’فعلا بعض قيادات الجبهة موجودة هذا اليوم في مدينة عدى خالا‘ فبادرته مستوضحا من من القيادات طلب منه إبلاغنا بهذه المعلومـة، ذكر انه القائد سعيد صالح. بمجرد ان نطق بهذا الاسم دبت في نفسي الطمأنينة وعدت بذاكرتي إلى فترة كان يعالج فيها سعيد صالح في منزلي في حرقيقو من إصابته في معركة محلاب (قرح) التي جرت عام 1965 أبأن عبور الجبهة إلى المنطقة الرابعة.

للتأكد اكثر، سألته عما إذا طلب منه إبلاغي بالموضوع شخصيا أم انه أخبرني به باعتباري أحد السجناء السياسيين. قال ’بل اخبرتك به كأحد السجناء السياسيين ليس إلا‘. فما كان لي الا ان اناشده ألا يثير الموضوع مع أي شخص آخر وحصره بيني وبينه لبعض الوقت ثم رجعت إلى العنبر حيث ينتظرني الزملاء بفارغ الصبر. بشرتهم بالنتيجة وأخبرتهم، باعتزاز وثقة مطلقة، أنني اعرف الشخص الذي كلف سهلي معرفة شخصية وانه يدعى سعيد صالح مع اعطاء نبذة عن ظروف معرفتي به.

ناقشنا الموضوع من كل جوانبه بإسهاب وفى الاخر اتفقنا مبدئيا على اعتباره فخا وراؤه الاستخبارات الأثيوبية لتدفعنا نحو القيام بعمل ما حتى توجد لنفسها مبررا كافيا لتصفية السجناء السياسيين بتهمة محاولة الهروب، ولكن مع إبقاء الاتصال بسهلي وضرورة مراقبته عن كثب قدر الإمكان.

اخترنا سيوم ليتولى الاتصال بسهلى حتى لو تطلب الامر دخوله المستشفى. أخبرت سهلي أننا سنتولى متابعــة الموضوع معه وان سيوم سيكون حلقة وصل بيننا وبينه، واقترحت عليه إدخال سيوم المستشفى ليكون على مقربة منه تسهيلا لعملية الاتصال المباشر تحسبا لأمر طارئ. دخل سيوم المستشفى وكنت اتبادل معه المعلومات عصر كل يوم من خلال فرجة صغيرة في شباك الحمام المطل على ساحة العنبر الذي كنا فيه اثناء انشغال الحراس بالتغيير، الا عند الضرورة. وكانت المشكلة في الذهاب الى العيادة لمقابلة سيوم نوعية الحارس المرافق فبينما كان بعضهم يلازم السجين كالظل يتيح له البعض فرصة للحديث مع من يقابله في الطريق او نزيل في المستشفى. اما فيما يتعلق بوسيلة الاتصال مع الجبهة فقد كانت شفوية ولا يمكنني تحديد توقيتاتها بالضبط.

بفضل هامش الحركة المتاح لنا بدأنا في تحسس الاخبار من الداخل والخارج والمعلومات الاولية التي توافرت لدينا عن طريق بعض الاهل خلال أسبوعين تقريبا والتي لم يرق إليها شك اكدت أن سعيد صالح الذي كنت اعرفه واقصده استشهد في اواخر الستينيات في معركة جرت في منطقة عقمدا في المنطقة الرابعة. لم تبدد هذه المعلومة كل الآمال التي بدأنا ننسج خيوطها فحسب، بل وزادت من حجم الشكوك والريبة التي ظلت تساورنا منذ الوهلة الاولى.

فبدأنا نتساءل.. اذا من هو هذا الشخص الذي ينتحل هذا الاسم ولماذا، وهل الممرض سهلي ضالع في مؤامرة تحاك ضدنا، وهل اتصاله بي شخصيا كان عفويا أم مقصودا ولماذا أنا بالذات، وهل نحن حقيقة امام فخ منصوب! ناقشنا هذه الاحتمالات كمؤشر الى الاتجاه المعاكس نقاشا مستفيضا ووفق سيناريوهات مختلفة أحيانا كانت اقرب إلى الخيال. اتفقنا مجددا على عدم التسرع في الحكم والتعامل بحذر اكبر.

بينما كنا في حالة ترقب وقلق منذ دخول سيوم المستشفى، وصلت رسالة من سعيد صالح يذكر فيها أن الجبهة تفكر جديا في تحرير السجناء السياسيين بالتعاون معنا مع طلب بعض المعلومات منها كروكي السجن، عدد الحراس، نظام الحراسة وتوقيته، نوعية الأسلحة. لقد فرحنا كثيرا بالرسالة، الا ان دور سهلي الوطني المفاجئ وشخصية سعيد صالح المجهولة، على الأقل بالنسبة لنا، ظلا غصة في حلقنا لم نستطع هضمها. كنا نحس في قرارة أنفسنا بأننا نتعاطى مع الاستخبارات الأثيوبية، ومع هذا، ارسلنا ردا وفرنا فيه معظم المعلومات المطلوبة إذ كان بعضها متراكما والجزء الآخر بدأنا في جمعه منذ اليوم الأول للاتصال تحسبا للحوجة.

اما فيما يخص بمدى امكانية مشاركتنا في العملية العسكرية، فقد اوضحنا صراحة عدم التعويل علينا للعب أي دور يذكر بالنظر الى لتواجدنا خلف ستة أبواب حديدية. كان عزاؤنا الوحيد ونحن نكتب الرد انه حتى لو وقع، لا قدر الله، في يد الاستخبارات فلن تكون فيه أية أسرار يخشى عليها أو التي لا تعرفها. بل اكثر من هذا، رأينا اننا بهذا الرد نطمئنها باستحالة الهروب وعدم وجود أي تفكير فيه املا في ان يؤدى بها التطمين الى نوع من الاسترخاء قد نستفيد منه مستقبلا اذا ما سنحت لنا فرصة حقيقية. بناء على هذا الفهم الذي اقنعنا به انفسنا اعتبرنا ردنا فرصة لاستكشاف ما يدور بشأننا في الخفاء ومغامرة محسوبة طالما اننا لم نتورط في أي تصرف فعلى.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click