ذكريات وتجارب - الحلقة الثانية والستون

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

ذكرت في الحلقة الماضية اننا، بالرغم من تخوفنا ان نكون نتعامل مع الاستخبارات، وفرنا للقائد سعيد صالح بعضا من المعلومات

التي طلبها في رسالته معتبرين ما نقوم به مغامرة محسوبة طالما لم نتورط في أي تصرف فعلى.

وبالمقابل كان مما لابد منه، طالما بلغ الامر مستوى المكاتبة، اطلاع الزملاء في العنبر على الاتصالات الجارية. وبعد مناقشة مستفيضة توصلنا الى ان من المصلحة العامة ابقاء المعلومة في اطارها الحالي وتحملنا مسؤولية اية نتائج سلبية تترتب عليها، ثم إن علم الجميع من عدمه في هذه المرحلة ما كان ليغير شيئا ومع الاستفادة من تجارب سابقة. فعندما كنت في سجن اسمرا تم عزلي ضمن المجموعة التي اعتقلت معها وبضعة اشخاص من السياسيين - في عنبر صغير. وتناولنا في احد الايام ضمن الدردشة اليومية امكانية الهرب مستفيدين من ملاصقة العنبر الذي كنا فيه للسور، وطرحت عدة افكار بعضها قابل للتنفيذ فيما لو توفرت عوامل مساندة داخليا وخارجيا، منها مدى تعاون حارس العنبر يدعى محمود اذا طلبنا منه طبع مفتاح باب العنبر على شمع من اجل عمل نسخه حتى لو كان في الخارج للاستفادة منه في العملية سواء بمشاركة محمود او حارس اخر، ومدى امكانية توفر مساندة لوجستية من الخارج لنقلنا فورا خارج العاصمة اسمرا الخ.

لم تمض على هذه المناقشة سوى فترة وجيزة حتى فوجئنا بزيارة خاصة من شخصية نعرفها ونعرف ارتباطاتها بالحكومة. كانت المقابلة عصرا في مكتب المدير الذي غادره ليتيح لنا الفرصة. بدأت الشخصية تذرف دموعا وهي تعبر عن تعاطفها واسفها على حالنا مع الاعتذار لعدم تمكنها من زيارتنا حتى الان، ثم تدريجيا تطرقت الى بيت القصيد والغرض من الزيارة حيث اشارة الى ان الوسيلة الوحيدة للخروج بعد ان ابرم الحكم الهروب فقط، وتساءلت ببراءة مفتعلة عن متانة السور وعما اذا كانت لدينا فكرة في هذا الخصوص وابدت استعدادها لبذل اقصى ما تستطيع للمساعدة على انجاح اية خطة نراها مناسبة. وكانت طوال الوقت تحاول قراءة تعابير وجهنا وردود افعالنا. شكرها الزميل صالح جابر وراك اكبر المجموعة سنا، على مشاعرها الطيبة وأكد لها أننا صابرون مع شعبنا الى يوم النصر القريب. وعرفنا مع مرور الوقت الكيفية التي تسربت بها فحوى المناقشة – وقيل انها كانت بحسن نية !

وبالإضافة الى هذا، كانت هناك مفارقات موضوعية لابد من اخذها في الاعتبار والتعامل معها بتجرد بعيدا عن العواطف والمثالية. من البداهة ان تنطوي محاولة هروب من سجن بعمل عسكري على عواقب ومخاطر اقلها في حالة النجاح والنجاة الانضمام إلى الثورة. فهل كان بالإمكان، في ظل تفاوت الوعي الوطني ومدد الأحكام التي تتراوح ما بين المؤبد وسنة، ضمان تفاعل كافة السجناء مع هذا السر المصيري بنفس الغاية والأهمية وليس كل واحد على حسب ظروفه ومصلحته الشخصية. ومن العبر التي اخذناها في الاعتبار حكمة قالها مجنون. في احد الايام وبعد اداء فريضة العصر رفع إمامنا محمد احمد عوض يديه الى السماء استعدادا للدعاء فاذا بشخص يدعى ضيفان ينهره قائلا ’يا هوى.. قبل ان تدعو كعادتك.. اللهم اجعل لنا فرجا ومخرجا، أسأل المصلين ان كانوا يرغبون في الخروج ام لاء. ضج السـامعون بالضحك وعلق بعضهم بما جادت به قريحته مؤكدين ان ضيفان لمجنون.

وشاءت الايام ان تثبت صحة ما قاله، فقد اصدرت الحكومة في نفس الفترة تقريبا عفوا عن بعض السجناء الغير سياسيين، فاذا بأحدهم يرفض الخروج بحجة ان عليه دم وان هناك من سيثأر منه امام البوابة، ومع هذا تمسك المعلقون برأيهم من ضيفان على اساس ان هذه الحالة لا تنطبق على سياسيين. اعتقل ضيفان في مدينة كرن بتهمة قتل زوجته وهو في نوبة عقلية، لم يكن عنيفا او مؤذيا عدا بعض التصرفات التي تؤكد عدم استقرار حالته العقلية. على كل حال، اتفقنا على الاعتماد على السرية المطلقة وتحمل عتب او نقد زملائنا في المستقبل واحطنا سعيد صالح بهذا القرار ودواعيه الامنية.

بينما كنا نترقب ورود شيء من سعيد صالح ونحن نتأرجح بين تفاؤل حذر، تشاؤم مفرط والشك المبين كشأن من يمشى على حبل مشدود الذي لا يستطيع التوقف مهما كانت الاتجاهات امامه مظلمة ومؤلمة، تواترت اخبار تشير الى توغل جيش التحرير الى اطراف اقليم سراي أي الاقليم الذي يقع فيه السجن. تعاملنا مع هذا الخبر بتحفظ شديد التزاما بما اتفقنا عليه سابقا خشية ان يكون إشاعة مضللة ومكملة لعملية مخابراتية تهدف إلى تطميننا أننا فعلا نسير في الخط الصحيح.

كان معنا في العنبر من ابناء الضواحي المشار اليها محمد قيتو. اقترحت عليه يوم المقابلة الشخصية مع الزوار من الاهالي الاستفسار عن مدى صحة الأخبار التي تزعم ظهور الجبهة في منطقتهم. بطبيعة الحال، لم يكن محمد بحاجة الى توصية مني حتى يسأل ولكنني اردت ان اعرف الرد الذي سيحصل عليه. اخبرني بعد الزيارة ان الزائر كانت والدته وانه علم منها ان الجبهة فعلا متواجدة في منطقتهم.

اتهم محمد قيتو بالاشتراك في عملية فدائية صفت فيها الجبهة محافظ عرزا في منطقة سرايى وحكم عليه بالحكم المؤبد، ثم خفف عنه الى عشرين (او خمس وعشرين سنة) عاما. اما هو كغيره من السجناء السياسيين ظل ينفى بشدة علاقته بالجبهة وانه برئ حكم عليه ظلما وعدوانا. وهكذا كان يفعل أي سياسي وخصوصا إذا كان دوره حساسا، وكان الجميع يحترم الخصوصيات الشخصية، ومن هنا كان تحفظي اثناء الحديث معه.

فبعد ان اكد لي صحة تقدم الجبهة الى منطقتهم‘ سألته مباشرة إن كان قد سمع في الجبهة عن شخص يدعى سعيد صالح. ابتسم وأجابني بالإيجاب، ثم اضاف تلقائيا انه كان يعمل تحت إمرته في فرقة الفدائيين، وانه زار والدته منذ اسبوع وابلغها بعزم الجبهة على تحرير السجناء السياسيين قريبا. شكرته على الثقة والعفوية المطلقة التي تعامل بها معى، وشعرت بمدى سخافة موقفي وانا اخفى عنه الغاية من سؤالي، ومن المؤكد لكان موقفي اسخف لو اطلعته ثم طلبت منه ان يكتمها عن زملائه الذين كان بينهم من هو اسبق منى نضالا واوفر عطاءا.

أعطانا تأكيد محمد قيتو زخما معنويا كبيرا واستبشرنا خيرا. الا ان تطابق كلام والدته حرفيا مع كلام سهلي أثار فينا شكوكا كثيرة خشية ان تكون والدته ذاتها ضحية لخطة استخباراتية محكمة تكون استغلتها لإيصال هذه المعلومات، دون إن تدرى، إلى ابنها ومن خلاله إلى السجناء السياسيين. لم نستطع اقناع انفسنا أنه من الممكن ان تغامر الجبهة بإرسال سر بهذا القدر من الخطورة كل بساطة تارة مع ممرض واخرى مع والدة مقاتل بدون أي داع. ويعود هذا الشك الى قيام جنود العدو وخصوصا فرقة الكوماندوس انتحال اسماء بعض قيادات الجبهة والتشبه بالثوار زيا ولغة لاستدراج الاهالي الذين لا يعرفون قيادات الجبهة الا بالاسم لكشف اسرار الجبهة وتحركاتها او لنقل معلومات مضللة اليها. وكان هذا السبب كافيا لانتكاس حالتنا ومعاودة الهواجس وسوء الظن.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click