شعب البجا في شرق السودان - الجزء الخامس

تأليف الأستاذ: سليمان صالح ضرار

اختلال توزيع السلطة والثروة:

هيمنة الشمال على السلطة:

بالرغم من أن المناصب ليست هي مطلب البجه الأساسي، إلا أن عرض توزيع السلطة

عبر الفترات السياسية والتاريخية يوضح مدى الظلم الواقع على البجه.

جاء في (الكتاب الأسود) الذي أعدته مجموعة من أبناء الغرب المنتسبين لحزب الجبهة، بغرض كشف الظلم الواقع على مناطقهم ما نلخصه بتصرف حيثما انطبق على بلاد البجه. وبالرغم من أن الكتاب أورد الكثير من الحقائق والإثباتات بحكم أن من أعدوه كانوا من أهل السلطة، وهذا ما جعلنا نعتمد عليه كمرجع موثق، إلا أنها جميعاً هي نتائج وآثار لهيمنة الشمال على السلطة. ولم يذكر الكتاب أسباب هذه الهيمنة، بينما ذكرها الأستاذ عبد الرسول النور في دراسة عن المناطق المهمشة. حيث أرجع وصول الشماليين إلى السلطة إلى أنه كان بسبب موالاتهم للاستعمار البريطاني وعدم مقاومته، فأغدق عليهم التعليم والوظائف، بينما حجبها عن سكان الغرب الذين حاربوه.

وهنا لا بد أن نذكر أن البجه هم الذين حاربوا الاستعمار البريطاني طوال فترة الدولة المهدية يوماً بيوم بينما توقف القتال في كل الجبهات الأخرى، التي استرخى من فيها ينعم ويجني ثمرة النصر الذي يحققه البجه على الجيوش البريطانية، والبجه هم الذين حموا الدولة المهدية من بوابتها الشرقية التي حاولت بريطانيا اختراقها، وعندما فشلت جاءت من الشمال تحفها زغاريد وطبول السكان على طول الطريق، ويجب التأكيد على أن البجه هم آخر من ألقى السلاح العام 1900 بعد أسر الأمير عثمان دقنه. وأغفل الكتاب أيضاً الآلية العسكرية التي اعتمد عليها الشماليون في الهيمنة. ومن المؤسف أن تكون هذه الآلية القمعية هي الجنود من أبناء غرب السودان الذين يشكلون 90% من القوات النظامية. وبالرغم من وجود ضباط كبار من أبناء الغرب في القوات النظامية، إلا أن دورهم هامشي وتظل السيطرة للضباط الشماليين. ونعود للكتاب حيث ذكر أن عدد سكان (السودان) (603،940،24) نسمة وفقاً للإحصاء السكاني الرابع للعام 1993م، ويتوزع السكان كالآتي:-

الإقليم الشرقي (كسلا، القضارف والبحر الأحمر) (958،051،3) نسمة (لا يقل السكان هنا عن 5 ملايين نسمة ويمثلون حوالى 20% من إجمالي عدد السكان، ولكن السلطة الشمالية المهيمنة تنقص عددهم زيفاً لكي تنقص التموين والخدمات والدوائر الإنتخابية والممثلين ـ المؤلف)، ويبلغ عدد سكان الإقليم الشمالي (الشمالية، نهر النيل) (620،291،1) نسمة، بنسبة 3،5%. (عدد سكان الشمال أقل من هذا بكثير ولكن نسبة لهيمنة الشمال على إدارة الإحصاء، تم تزييف نتائج الإحصاء بغرض زيادة حجم السكان لأجل زيادة التموين والخدمات من مدارس ومستشفيات، ولترسيخ الهيمنة الشمالية بزيادة الدوائر الانتخابية ــ المؤلف).

منذ الاستقلال وضعت الحكومات الشمالية حجر الأساس لاستدامة السلطة في الأيدي الشمالية، التي هيأها الاستعمار لذلك بالتعليم والتدريب مكافأة لولائها له وعدم مقاومته عند غزوه للبلاد. وأفرز الاستغلال واقعاً ثابتاً هو هيمنة الإقليم الشمالي على الجهاز التنفيذي، وتوظيف هذه الهيمنة لاستدامتها. وظلت نسبة التمثيل لأبناء الشمالية في الوزارة الإتحادية ثابتةً رغم التحولات التي طرأت على الساحة الفكرية والمعرفية لأبناء باقي الأقاليم. وظلت نسبة الشماليين في الوزارات الإتحادية لا تنقص عن 50% في كل الحكومات، وأحياناً تصل إلى فوق السبعين، بالرغم من أن عدد سكان الشمالية يقل عن 3،5%. ولم يحكم السودان قط رئيس من غير الشماليين منذ الاستقلال حتى اليوم.

وإذا استعرضنا سلطات الدولة، مقارنين أثر الحكومات السابقة على هذه السلطات، لاتضح لنا هذا الكم الهائل من الاستغلال الذي رسخته مسيرة الحكومات المتعاقبة في حقبة (السودان) الحديث.

السلطة التنفيذية:

مقارنة بين تمثيل الشماليين والبجه في توزيع المناصب الدستورية في الحكومات السابقة مع العلم بأن الشماليين يمثلون 3،5% ويمثل البجه حوالى 20% من جملة السكان. أما إذا عرفنا أن من يمثلون الإقليم الأوسط كلهم أو معظمهم من أصول من الشمال، فبلا شك سترتفع نسبة تمثيل الشماليين كثيراً مما يؤدي إلى تكريس هيمنتهم:-

أ) من العهد الوطني إلى الاستقلال وحكومة الفريق إبراهيم عبود (1954 ــ 1964م)

بلغت جملة المناصب الدستورية خلال هذه الحقبة (73) منصباً، حصل البجه على منصب واحد بنسبة 4،1%، والشماليون على 58 منصباً بنسبة 5،79%، وترتفع النسبة بإضافة ممثلي الإقليم الأوسط وباقي الأقاليم الذين من أصول شمالية. وظلت نسبة الشماليين في السلطة ثابتة على 5،79% طيلة خمس حكومات متعاقبة هي:- الحكومة الوطنية الأولى بزعامة الأزهري، يناير العام 1954م. الحكومة الوطنية الثانية بزعامة الأزهري العام 1955م. الحكومة الوطنية الثالثة بزعامة الأزهري العام 1956م. الحكومة الوطنية الرابعة بزعامة عبد الله خليل العام 1958م. الحكومة العسكرية الأولى بزعامة الفريق إبراهيم عبود 1958 ــ 1964. بالرغم من أن المجلس العسكري لحكومة عبود كان مبنياً على أساس الطائفة الختمية إلا أنه لم يكن للبجه فيه أي تمثيل. وجاء معظم العسكريين من قبيلة الشايقية حتى اطلق على الحكومة (حكومة الشوايقه السبعة)، وباقي المجلس من الجعليين وواحد من الدناقلة. كذلك فإن الحكومات الإتحادية الثلاث كانت مبنية على نفس القاعدة الشعبية للطائفة الختمية، التي تستمد كل قوتها الشعبية من البجه، إلا أنه لم يمثلوا بأي بجاوي بل كانوا ممثلين بشماليين استوردوا للشرق خصيصاً ليعاد تصديرهم نواباً ووزراءً للحكومات الإتحادية باسم الشرق (البجه). يتضح من هذا أن حزب الختمية ساهم في تكريس هيمنة الشايقية بصورة رئيسية على حساب البجه ليؤمن استمراره في الحكم. ودفع هذا عدداً من البجه إلى الإنضمام إلى حزب الجبهة الإسلامية القومية. وهنا وجد البجه أن الهيمنة الشمالية سارية أيضاً بالرغم من رفع شعارات إسلامية بالمساواة والعدالة.

ب) فترة الديمقراطية الأولى (1964م ــ 1969م):

بلغت جملة المناصب الدستورية خلال تلك الحقبة (81) منصباً، حصل البجه على منصبين إثنين فقط بنسبة 05،2%، والشماليون على 55 منصباً بنسبة 9،67%، وترتفع النسبة بإضافة ممثلي الإقليم الأوسط وباقي الأقاليم الذين من أصول شمالية.

ج) حكومة المشير جعفر نميري (1969م ــ 1985م):

بلغت جملة المناصب الدستورية خلال هذه الحقبة (115) منصباً، حصل البجه على منصب واحد بنسبة تقل عن 1%، والشماليون على 79 منصباً بنسبة 7،68%، وترتفع النسبة بإضافة ممثلي الإقليم الأوسط وباقي الأقاليم الذين من أصول شمالية.

رغم الفرق الشاسع بين النظامين السابقين، فإن نسبة التمثيل وغلبة العنصر الشمالي استمرت، ومع تميز فترة حكومة جعفر نميري بكثرة التعديلات وكثرة الوافدين على التشكيلة، إلا أن نميري آثر الاحتفاظ على التشكيلة الجهوية كما هي، الأمر الذي أدى إلى تمكين أبناء الشمال الذين ركزوا التنمية في مناطقهم، وأوقفوا أي مشاريع تنموية خارج الشمالية والأوسط.

د) المجلس العسكري الإنتقالي الأول (1985 ــ 1986م):

بلغت جملة المناصب الدستورية خلال هذه الحقبة (30) منصباً، لم يحصل البجه على أي منصب، وحصل الشماليون على 21 منصباً بنسبة 70%، وترتفع النسبة بإضافة ممثلي الإقليم الأوسط وباقي الأقاليم الذين من أصول شمالية.

هـ) فترة الديمقراطية الثانية (1986م ــ 1989م):

بلغت جملة المناصب الدستورية خلال تلك الحقبة (116) منصباً، حصل البجه على 3 مناصب بنسبة 6،2%، والشماليون على 55 منصباً بنسبة 4،47%، وترتفع النسبة بإضافة ممثلي الإقليم الأوسط وباقي الأقاليم الذين من أصول شمالية.

و) حكومة الإنقاذ العسكرية الأولى (1989م ــ 2000م):

نسبة للخلفية الأيديولوجية التي انطلقت منها ثورة الإنقاذ، وغلبة العناصر من جهات الغرب في تعداد مناصري هذا التوجه، لم تجد الإنقاذ بداً من تمثيل هذه المجموعة مؤقتاً بعدد يتناسب مع ما يتطلبه استقطابها واستغلالها لضرب القوميات الأخرى، ولكن لم يكن تمثيلها على حساب الإقليم الشمالي، والذي ظل محتفظاً بتفوقه على حساب إقليمي الأوسط والشرقي. ضم مجلس قيادة ثورة الإنقاذ 15 عضواً. ولم يمثل فيه البجه بينما بلغ نصيب الشماليين 10 مناصب بنسبة 7،66%، وترتفع النسبة بإضافة ممثلي الإقليم الأوسط وباقي الأقاليم الذين من أصول شمالية.

عندما استقر الأمر بالإنقاذ، وتوطدت لها أركان الدولة باستغلال أبناء الغرب من العسكريين بصفة أساسية بالإضافة إلى المدنيين، وبدأت في تكوين وزاراتها، لم تجد ما يدفعها للخروج عن نهج السابقين في تعزيز وجود ممثلي الإقليم الشمالي في حكوماتها المختلفة، فأبعدت وهمشت العسكريين من أبناء الغرب بعد أن أدوا دورهم في تمكينها، وحافظت على غلبة الشماليين، مشيحة عن الشعارات التي رفعتها الإنقاذ بإسم المشروع الحضاري، أسلمة الحياة بالقدوة الحسنة، وتحقيق العدالة والمساواة وجعل المواطنة هي الأساس. فهزمت تلك الشعارات وداست عليها على أبواب التمكين، فكان تمكينها للعنصر الشمالي لا تمكيناً للإسلام كما تدعي في شعاراتها.

وأدناه خير شاهد، وهو يشمل المناصب الدستورية في عهد الإنقاذ منذ الحكومة الأولى إلى ما قبل قرارات الثاني عشر من ديسمبر 1999م حيث بلغت جملة المناصب (202)، حصل البجه على 6 مناصب، يشغل شخص واحد خمسة منها، بنسبة 3%، والشماليون على 120 منصباً بنسبة 4،59%، وترتفع النسبة بإضافة ممثلي الإقليم الأوسط وباقي الأقاليم الذين من أصول شمالية. فحينما بلغت نسبة تمثيل الإقليم الشمالي في الحكم 4،59%، وهم بنسبة 3،5% من جملة مجموع سكان (السودان)، فيكون مصير 8،87% من سكان (السودان) معلقاً بإرادة 3،5% فقط من جملة سكانه (هذه النسبة السكانية الضئيلة داخلها مجموعات مهمشة تحت هيمنة مجموعتين قبليتين هما ــ أولاد غانم ــ المجموعة الشايقية الجعلية ومجموعة الدناقلة).

هذه المعادلة الجائرة أدت إلى سلسلة متتالية من السلبيات في مجالي إدارة الحكم وتوزيع الثروة. وبذا تؤكد الإنقاذ بأنها تسير وفق نهج من سبقوها في الحكم، وإن الرآيات التي رفعتها كانت للخداع فالحرب خدعة كما تصرح دائماً، وهدفها تمكين أهل الشمال لاستحلاب (السودان)، وإيثار الأقربين والولاء قبل الكفاءة. فحتى عندما أرادت تعميم تمثيل الأقاليم في المحافظات والوزارات الإقليمية، لجأت إلى اختيار عناصر استوطنت بلاد البجه وغيرها، وتنحدر من أصول شمالية، لتوهم البعض بعدالتها في توزيع السلطة وتبدي حرصها الظاهر على الحكم الفيدرالي، الذي أجهضته بمثل هذه التعيينات، وبالحجب المتعمد والتجفيف المقصود لأي معين يمكن أن يصب درهماً دعماً لحكومات الولايات الشرقية التي يستهين بها القصر الجمهوري الذي يهيمن عليه الشماليون.

أما قرارات ما بعد الثاني عشر من ديسمبر والتشكيل الوزاري الذي تبعها، فإنهم لم يتركوا أي مجال للإيحاء بإنعدام الجهوية الشمالية والقبلية في تكوينها، بدءاً بالقصر وانتهاء بالولاة مروراً بالوزراء الإتحاديين. فيوجد في القصر (12) منصباً يشغلها جميعاً ما عدا واحداً أشخاص من الشمالية. أين هي العدالة في توزيع السلطة؟ وما دور هذا الجيش الجرار من المستشارين الشماليين غير الترضيات وحفظ أغلبية التمثيل للشماليين؟ ثم ما هي المهام الموكلة لهم ويعجز عنها الوزراء الإتحاديون، بالتأكيد أن هؤلاء مستشارون للمكائد وتكريس هيمنة العنصر الشمالي.

أما الوزارة الإتحادية فتتكون من 29 وزيراً منهم وزير بجاوي واحد بنسبة 3،3%، بينما يشغل الشماليون (18) وزارة بنسبة 62%، وترتفع النسبة بإضافة ممثلي الإقليم الأوسط وباقي الأقاليم الذين من أصول شمالية. وبالنسبة لوزراء الدولة فيشغل البجه منصباً واحداً فقط بنسبة 6،5%، بينما يشغل الشماليون 7 مناصب بنسبة 9،38%، وترتفع النسبة بإضافة ممثلي الإقليم الأوسط وباقي الأقاليم الذين من أصول شمالية.

وبالنسبة للولاة، الذين باشرت رئاسة الجمهورية تعيينهم لتمكين الهيمنة الشمالية، فيبلغ عددهم (16) والياً، منهم إثنان فقط من البجه، لولايتين بجاويتين، أما الثالثة فيتولاها الشماليون بالتناوب، لوضع يدهم على ثرواتها الزراعية وحماية مصالح الشماليين الذين ينهبون أراضي مراعي البجه، بنسبة 5،12%، و(10) من الشماليين بنسبة 5،62%.

الوزراء الولائيون والمحافظون:

بلغت جملة مناصب الوزارات الولائية خلال الفترة من 1994 ــ 1999م، 505 منصباً، كما بلغت جملة مناصب المحافظين خلال نفس الفترة 316 منصباً، وجدنا فيها إمتداداً منتظماً للتمثيل الإقليمي في الفترة 1989 حتى نهاية 1993م، ومحافظة على النسبة المسيّدة للعنصر الشمالي، وما فتئت حكومة الإنقاذ مراعية لها، وتعمل جاهدة على بقائها لاعتقاد راسخ بتفوق العنصر الشمالي كإعادة لعصر النازية ولكن بعيون غير ألمانية.

وتوزع التمثيل كالآتي: بلغ عدد الوزراء الولائيون 505، للشرق منهم 9 بنسبة 8،1% وللشماليين 240 بنسبة 5،47%. وبلغ عدد المحافظين 316، للشرق منهم 13 محافظاً بنسبة 2،4%، وللشماليين 160 بنسبة 1،51%. هذه النسبة أكثر من الواقع، إذ أن معظم الوزراء والمحافظين الذين تم تعيينهم في الشرق ليسوا من البجه، ولكنهم من الشماليين الذين احتسبوا زوراً عليهم لحفظ التوازن للهيمنة الشمالية.

وإمتد الأمر لتكوين مجموعات ضغط (لوبي) تضمن نجاح وزير ما ومحافظ ما، وتقود آخر للفشل، وبنظرة عابرة لمصير بعض الولاة والمحافظين من أبناء الأقاليم الأخرى الذين تم تعيينهم في مناطقهم وإنتهى بهم الأمر منبوذين من المركز ومن أهلهم، وما ذلك إلا لأنهم فشلوا في تحقيق أبسط مقومات سلطاتهم ومتطلبات المناطق التي تم تعيينهم عليها. لأنهم عينوا ثم منع عنهم الدعم المالي، فساقوهم زمراً إلى ما أرادوه لهم من مصير فاشل، ثم زفوا من أبناء الإقليم الشمالي بدائل عنهم ساروا إلى مواقعهم الجديدة محفوفين بالأموال والصلاحيات والمدد المتوالي حتى يثبتوا نجاحهم وفشل أبناء الأقاليم الأخرى.
إن تصرفات الإدارة الحاكمة بهذه الصورة لا تثير العجب إذا علمنا أن كل رؤساء الحكومات السابقة والحالية و81% من وزراء رئاسة مجلس الوزراء من الشماليين. أما نصيب البجه من هذه فهو صفر، ومن وكلاء وأمناء الحكومات الذين تعاقبوا ويمثل الشماليون منهم 74%، فهو أيضاً صفر. ونلاحظ أن أغلب الذين نالوا حظاً من الأقاليم الأخرى ترجع جذورهم القبلية إلى الشمال.

ز) حكومة الإنقاذ العسكرية الثانية:

جاءت هذه الحكومة بعد انتخابات صورية في أواخر العام 2000م، وقد قاطعت الانتخابات، كل الأحزاب السياسية المؤثرة. ولم يتغير شيء في شكل أو مضمون الهيمنة. وبالنسبة للبجه فقد تم تغيير الولاة البجه لولاة عسكريين من الشمال والغرب.

السلطة التشريعية:

شهدت المنابر التشريعية في البلاد ست عشرة مجموعة برلمانية منذ الجمعية التشريعية الأولى العام 1948م إلى المجلس الوطني المحلول في العام 1999م. وذلك على المستوى الإتحادي. ففي المنابر التي جاء التمثيل فيها بالتعيين لم يمثل البجه، إلا مرة واحدة، مثل المجلس الاستشاري لشمال السودان، وجاؤوا كلهم من الشمالية، أما في المنابر التي جاء فيها التمثيل بالانتخاب، فقد مثل البجه أشخاص من الشمالية بأوامر حزبية. وسنلاحظ من خلال احصائيات ممثلي الولايات أن الشمالية بالرغم من أن عدد سكانها يبلغ ربع عدد سكان الشرق، إلا أنه نسبة لأن سلطة تحديد وتوزيع الدوائر الجغرافية تقع تحت سيطرة أيدي شمالية، فإنهم زادوا عدد دوائر الشمالية وانقصوا عدد دوائر الشرق (البجه) وفي مرتين تساوى عدد الدوائر الجغرافية في المنطقتين بالرغم من الفرق الشاسع بينهما في عدد السكان، وإذا زاد ممثلو الشرق فإنهم يزيدون بنسبة ضئيلة لا تتناسب مع نسبة الزيادة في عدد السكان، وهذا ناتج عن الهيمنة الشمالية على السلطة والتي تسعى لتمكين العنصر الشمالي. وقبل النظر للاحصائيات يجب التذكر بأن ممثلي الشرق ليسوا كلهم من البجه، فقد ساهمت الحزبية، ضماناً لاستمرار تسيدها، على فرض نواب شماليين لتمثيل البجه (طبق هذا المبدأ في الأقاليم الأخرى أيضاً)، ويعني هذا أن النواب البجه أقل مما تذكره الاحصائيات أدناه، وهذا ما جعلنا نطلق على النواب ممثلي الشرق بدلاً عن ممثلي البجه. وبالنسبة لممثلي الشمالية فيجب زيادة نسبتهم بما يضاف إليهم من الإقليم الأوسط بصورة خاصة وباقي الأقاليم بصورة عامة.

في الجمعية التشريعية المنتخبة (48) مثل الشرق 7، والشمالية 6. في المجلس الاستشاري لشمال السودان مثل الشرق إثنان فقط، والشمالية 18، وهذا المجلس الذي كونه الاستعمار قصد منه تمكين من تحالفوا معه واستبعاد البجه الذين قاتلوه. في انتخابات (53) مثل الشرق 9، والشمالية 7. وفي الخريجين، لم يمثل الشرق أي نائب، بينما حصلت الشمالية على 22 مقعداً (دوائر الخريجين هذه قصد منها زيادة ممثلي الشمالية لضمان استمرار هيمنتهم وتعويضهم عن قلة دوائرهم الجغرافية). وفي انتخابات (58) تعادل عدد ممثلي الشمالية مع عدد ممثلي الشرق البالغ عددهم 16. لم نعثر على مرجع لانتخابات المجلس المركزي لعام 63، وبالرغم من هذا فإنني لم أشاهد فيه غير وجه بجاوي واحد من سنكات. وفي الجمعية التأسيسية لعام 65، جاء التمثيل في الدوائر الجغرافية بواقع 23 ممثلاً للشرق، و17 ممثلاً للشمالية. أما بالنسبة لدوائر الخريجين لهذه الانتخابات فإنه لم يكن للبجه فيها أي نصيب واستفرد بها الشمال في كل ألوان الطيف السياسي. وفي مجلس الشعب الخامس بالنسبة للمنتخبين، مثل الشرق 10 نواب، والشمالية 7 نواب. وبالنسبة للتعيين مثل الشرق شخص واحد، والشمالية 7، هذا بخلاف الشماليين القادمين من الأقاليم الأخرى (أنظر هذا الحيف). وفي انتخابات العام 86 الجغرافية، جاء من الشرق 28 نائباً ومثلهم من الشمالية، علماً بأن عدداً من نواب الشرق كانوا من الشماليين إضافة إلى الشماليين القادمين من الأقاليم الأخرى. أما بالنسبة لدوائر الخريجين في هذه الانتخابات، فليس بينهم بجاوي واحد إلا أنه وفق الاحصائيات فقد فاز من الشرق ثلاثة، منهم بجاوي واحد والبقية من الشمالية، ومثلت الشمالية بثلاثة نواب.

بالرغم من أن الانتخابات البرلمانية الجغرافية تحفظ للمجموعات السكانية حضورها في البرلمان، إلا أنه ورغم بروز قيادات مؤهلة من أبناء تلك المناطق، لم يتولَ أي واحد غير شمالي منصباً قيادياً في البرلمانات المتعاقبة. وما هذا إلا لاستمرار النزعة الذاتية، والسعي لجعل المواقع حكراً على الشماليين دون غيرهم من قبل الجماعة التي امتهنت إلغاء الآخرين، والتي فرضت الهيمنة العنصرية الجهوية المستندة على الطائفية أو الأيدولوجية أو العسكرية ظاهراً، واستبطنت القبلية سلوكاً وممارسة، ووصمت بها البجه وغيرهم عندما يطالبون بحقوقهم وذلك كعملية اسقاط وخير وسيلة للدفاع هي الهجوم.

وجاء التمثيل الإقليمي للشرق والشمالية في قيادة المجالس النيابية منذ الاستقلال وحتى آخر المجالس الذي حل في ديسمبر 1999م كالآتي: شغل الشرق منصباً واحداً فقط، بينما شغل الشماليون الممثلون للشمالية 11 منصباً، هذا بخلاف الشماليين الذين جاؤوا من الأقاليم الأخرى.

وإذا أخذنا المجلس التشريعي الانتقالي الثاني المعين في عهد الإنقاذ كمثال لظلم البجه ومحاباة الشماليين، نجد أن الإقليم الشرقي منح 25 منصباً، نصفهم من الشماليين، بينما منحت الشمالية (109) منصباً، هذا بخلاف الشماليين الذين جاؤوا من الأقاليم الأخرى. تم تعيين بعض الشماليين كممثلين لبلاد البجه وهم في الأصل وافدون عليها، وتم اختيارهم لأغراض استمرار الهيمنة الآرية، وهي ذات بعدين، أولهما الحديث عن تمثيل البجه، وثانيهما هو حفظ التوازن والتفوق والهيمنة بشتى الوسائل والسبل، وبمراجعة شاملة لأعمال المجلس النيابي الأخير، والذي جاء منتخباً، وبتوازن نسبي لكافة الكيانات، ولكن عندما جاء التكميل والدوائر القومية والقطاعية عادت الهيمنة والوصاية. فقد جاء بالانتخاب من الشرق 34 نائباً، منهم شماليون، بنسبة 2،12%، وجاء من الشمالية 14 نائباً، بنسبة 5%، يضاف إليهم الشماليون الذين قدموا من الأقاليم الأخرى وما أكثرهم. وبالنسبة للدوائر القومية جاء من الشرق نائب واحد، ومن الشمالية 6 نواب، يضاف إليهم الشماليون الذين قدموا من الأقاليم الأخرى. وكان كل ممثلي الخرطوم من الشماليين، وكان تمثيلهم قطاعي، أوصلهم بصورة منتظمة حتى تكون النسبة في الدوائر القطاعية 12:20 لصالح الإقليم الشمالي مع باقي (السودان). ومجلس مثل هذا تكون فيه الغلبة للعنصر الشمالي فلا يمكن أن ترى قضايا البجه أي إهتمام فيه. وهو منحاز دائماً للجهاز التنفيذي الشمالي.

السلطة القضائية:

ترتبط سلطة القضاء ارتباطاً وثيقاً بالقانون، ومن المستحيل الحديث عن السلطة القضائية بمعزل عن القانون. إن قيادة الجهاز القضائي على مستوى وزارة العدل والنائب العام أصبحت تتحكم فيها مشيئة السلطة التنفيذية الشمالية وفقدت حيدتها وعدلها. وجميع رؤساء الجهاز القضائي خلال حقب التاريخ المختلفة هم من الشماليين، فهل يطمع البجه في عدالة جهاز منحاز كهذا؟ أما أجهزة الشرطة والأمن فإن سيطرة العنصر الشمالي واضحة في ممارساتها.

السلطة الإعلامية:

أصبح الإعلام صوتاً للجهة المهيمنة في السلطة التنفيذية والتشريعية والقضاء. والمادة التي تقدم من الإذاعة والتلفزيون تتناول وتعالج وفق منظور الشمال وبلهجته، وليس للبجه أي نصيب لا في البث ولا في العمل بهما. فكل البرامج وكل العاملين من الشمال. ولا يجيء ذكر للبجه إلا كتراث شعبي أو لعرض أكلة السلات في التلفزيون. وبالتأكيد لاستغلال البجه في معارك النظام ضد خصومه، وضرب قبائل البجه بعضها ببعض. مثل ما قام به التلفزيون أثناء معارك همشكوريب من مقابلات مع نظار قبائل البجه، وكان المذيع يملي فيها وجهة نظر النظام على المشائخ الذين في سن والده دون أي توقير أو إحترام وأقل ما يوصف به المذيع أنه عديم اللياقة. فهل لو كان أحدهم ناظر الجعليين هل كان يخاطبه بنفس هذه الطريقة؟ حتى الترويج لمشاريع التنمية والسياحة يتركز عن الشمال فقط. وقد عرض وزير الطاقة بفمه على كل الوفود الاستثمارية التي زارت السودان، وبثت أجهزة الإعلام مقابلاته، فقد كان العرض الدائم هو كهرباء الشمالية، أما كهرباء بورتسودان ثاني أكبر المدن والميناء الوحيد فليس لها نصير، إلا ما قام به الأستاذ أحمد البلال شيخ الطيب في برنامجه الناجح، لقد عرض الوزير مشاريع الشمالية على كل الوفود التركية، الوفد الهولندي، الوفد الروسي، والوفود العربية والآسيوية.

ولو أعطيت لكل شركة من هذه الشركات قرية بالشمالية تستثمر فيها، فإن بعض الشركات لن تجد قرى يمكنها أن تستثمر فيها. حتى الاستثمارات الزراعية ما جاء وفد إلا وكان الشمال هو المقترح الأول والأخير. وليس هناك وفد زار بلاد البجه أو غيرها. ومشاريع توطين القمح في الشمالية تبتلع المليارات منذ أكثر من سنتين، بينما يزداد استيراد القمح يومياً. والإعلام صامت أمام هذا لأن أصحاب الصحف من الشمال، منهم ثلاثة على الأقل تربوا من خيرات بلاد البجه ولم يحدث أن خصصوا سطراً لإبراز الحقيقة في بلاد البجه. وإذا جاء ذكر البجه في الصحف فهو للتهكم (مثل الصعايدة في مصر) حتى من الذين تربوا في بلاد البجه من الصحفيين. وحتى الصحفيين الشماليين العاملين في المجلات العربية الخليجية والعالمية يسخرون من البجه ويجبون كل ما يكتب عن معاناتهم ماعدا قلة مثل فائز الشيخ السليك من الحياة. ومثال لذلك ما كتبه الصحفي جعفر عباس في مجلة المجلة العدد 1060، تحت عنوان الزول مكتشفاً، حيث حاول أن يسخر من الباحث البجاوي الأستاذ محمد أوهاج، الذي اكتشف أن بول الإبل يشفي من عدة أمراض في الجهاز الهضمي. ولكن الصيدلي السعودي محمد العقيل، رد على المقال بأن هذا استهزاء بسنة المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم وأورد الأحاديث الصحيحة التي تثبت صحة ما ذهب إليه الباحث، فهل يا ترى لو كان المكتشف إسمه سيد أحمد أو البشير فهل كان سيتغير المقال؟

إن تناول الإعلام للكوارث القومية أبلغ دليل على تحيز هذه السلطة. فالبلاد مقسمة إلى درجات تقف الشمالية عالياً بمسافة كبيرة فوق القمة وفوق الدرجات. حتى الغناء لا يجاز إلا بأصوات ولهجات الشمال. ولا يفوتنا هنا أن نحي جهود الأستاذ التاج عثمان من صحيفة الرأي العام الذي يتناول مشاكل مناطق البجه ويعرضها عبر صحيفته.

الإغاثة للبجه ممنوعة وللشمالية مسموحة:

هذا عنوان لمقال أرسلته لإحدى الصحف التي يمتلكها شخص تربى هو وأهله بخيرات البجه، ولكن لأن المقال يدافع عن البجه ويتعرض للممارسات العنصرية، فإنه لم ينشر لأن الإعلام لا يسمح بنشر أي شيء إلا ما يخص الشمالية. والأمثلة لا تعد ولا تحصى ومنها، عندما حدث فيضان الشمالية الذي أضر بأقل من مائة ألف شخص، سخرت كل إمكانات السودان لإزالة آثاره. وذهب وزير الداخلية آنذاك عبد الرحيم حسين وأمضى ثلاثة أسابيع في المنطقة وصرف ما قيمته سبعة مليارات جنيه في الخيش الذي تمت به تعلية السدود الترابية، ولا ندري ما هو دور الوالي أو وزير الشؤون الهندسية، إذا كان وزير الداخلية يمضي هذا الوقت في منطقة صغيرة تاركاً باقي السودان لغيره، وصمت الإعلام. ولكن عندما تعرضت منطقة جنوب توكر في شرق السودان للحرب وقتل أهلها ودمرت القرى والآبار والمصالح ونزح أكثر من مائة ألف شخص بسبب الحرب وتعرضوا للتشرد والمرض والموت لم يصلهم أي مسؤول من الحكومة الاتحادية. وأيضاً عندما شردت الحرب سكان أكثر من أربعين قرية في ولاية كسلا وأقفلت أبواب 36 مدرسة، أو حتى عندما جاءها الطوفان البشري من نازحي الحرب الإريترية الإثيوبية وتهاوت الخدمات وانعدمت الأقوات وهددت الأمراض سكان المنطقة، وكارثة فيضان نهر القاش في يوليو/ أغسطس العام 2003م الذي دمر تسعين بالمائة من مباتي كسلا وشرد سكانها، فإنها لم تجد أي إهتمام من مسؤولي الحكومة.

حتى عندما تعرضت مدينة كسلا لهجوم قوات المعارضة، فإن النائب الأول علي عثمان والوفد المرافق له لم يزوروها إلا لساعات ترافقهم بعثة إعلامية ضخمة تسجل رياءهم، وخشوا إن قضوا الليل فيها أن تقضي عليه قوات المعارضة، بينما يمكث النائب الأول أياماً وليالٍ في تقديم عزاء في الشمالية. ومن سخرية القدر فإنه في نفس الوقت الذي كانت تقوم فيه منظمة الزبير الخيرية بإرسال المساعدات إلى ألبان كوسفو لتحسين صورة حكومة الإنقاذ عبر الفضائيات، كانت المنظمات العالمية تغيث الناس في مناطق البجه التي تتعرض للحرب والجوع والمرض وتبرعت لهم البارونة كوكس بأدوية بمبلغ ثمانية آلاف دولار فورية. أما مدير الخطوط الجوية السودانية وهو من أبناء الشمالية، والخطوط السودانية حكراً للشماليين، فقد وجه الطائرات بحمل الإعانات المقدمة من الخارج مجاناً إلى مطار دنقلا مباشرة. أما الخطوط البحرية وهيئة الموانيء البحرية، فإنهما بالرغم من موقعهما في بلاد البجه، إلا أن السلطة الشمالية ولأجل هيمنتهما عليهما، تحرص على أن يكون مدرائهما من الشمال، فأصبحتا إقطاعيتين خاصتين للشماليين، وتم تسخير كل البواخر والإمكانات لخدمة الشمالية. وفي نفس الوقت نجد أن مساعدات كانت موجهة لولاية كسلا تم توجيهها للشمالية بأوامر سيادية. وعلى الجانب الآخر نجد أن الخطوط البحرية السودانية والتي تتبع وزارة النقل ويشغل أحد المحسوبين على البجه دون وجه حق، منصباً دستوريا فيها، فإنها وبعلمه وبموافقته وضعت كل العراقيل أمام الإغاثة التي أرسلناها للمتضررين من الحرب في جنوب توكر وكنا نريد أن نسهم في رفع المعاناة عنهم ولو رمزياً. ولو كان في مكانه هذا شمالي وطلب أهله مساعدته، وإن لم يكونوا على حق، كما هي عادتهم، لقدَم لأهله كل ما يطلبونه بل أكثر.

هذا المسؤول والمسؤول الآخر الذي يتميز بخلفية تاريخية كبيرة في العمل مع الجبهة والتغرير بالمعارضين البجه لاستقطابهم لصفوف الحكومة لتحقيق مكاسب شخصية، وخص منطقة أهله بكل مشاريع التنمية، كما قام بتولية أقربائه كل المناصب المحلية لينهبوا، مهمشاً بهذا بقية البجه وزارعاً الفتنة حتى بين أبناء قبيلته الكبيرة، لقد اختارت الإنقاذ المنبتين لصفوفها، هؤلاء هم نموذج حقيقي للنوعية التي تختارها الحكومات الشمالية لتمثيل البجه في تشكيلاتها. وعزاؤنا هو قلة من هم على شاكلتهم ممن يتولون مناصب لخدمة الحكومات الشمالية ويساهمون، مقابل مصالحهم الشخصية، في فناء أهلهم البجه، الذين لولاهم لما وصلوا لهذه المناصب، فيقومون حماية لمناصبهم بتحريض الشباب ودفعهم لمحرقة الحرب ويصمتون عما يحيق بأهلهم من الظلم والمجاعات والأمراض. إن دماء البجه الذين قتلوا بسبب الحروب أو الأمراض أو الجوع معلقة برقاب هذه الفئة المميكافيلية التي تترفع على أهلها وتلعق أحذية الشماليين. إن قضية البجه أكبر من علاقات القرابة والعلاقات العائلية أو الشخصية فهي قضية قومية يجب عدم التهاون فيها بحكم أن من يخون أهله البجه يمت لهم بصلة القربى أو خلاف ذلك لأن ضرر هؤلاء يمس عموم البجه. وعلى كل الذين يتصرفون بهذا الشكل من أبناء البجه أن يتقوا الله ويرعووا، وسيأتي اليوم الذي يحاسبهم فيه البجه في هذه الدنيا قبل أن يلاقوا حسابهم في يوم تشيب فيه الولدان.

إن شعار الحكومة العدالة في توزيع الثروة والسلطة ليس إلا للاستهلاك السياسي، أو ربما قصد به توزيع السلطة والثروة على الفئة الشمالية، وها هو التعديل الوزاري الأخير يكرّس حكم ثلاثة قبائل شمالية على كل السودان، بل ووصل التكريس حتى للذين تكرمهم الدولة من علماء وأدباء كأن باقي أقاليم السودان سكانها من المعاقين عقلياً.

إن هذه الشحنة كانت مرسلة لسكان جنوب توكر الذين تضرروا من الحرب بسبب الحكومة التي استنجدت بهم واستنفرتهم ليدافعوا عنها وقال عنهم الفريق البشير إنهم حماة البوابة الشرقية. والآن وبعد أن استشهد منهم المئات وأسر منهم 145 فردا تخلت عنهم الحكومة، وحتى تبعد عن نفسها تعب البحث عن الأسرى، مع علمنا الأكيد بأنهم أحياء في الأسر، صرحت بأنها احتسبتهم شهداء كأنها هي الجهة التي تصدر صكوك الاستشهاد. وتشرد الأحياء منهم من بيوتهم وافترست الحميات والكوليرا العديد منهم، وهام أطفالهم بلا مدارس بينما يدرس أبناء أركان النظام في مدارس وجامعات أوروبا وأمريكا، من دم وعرق هؤلاء البسطاء، كل هذا لأنهم سمعوا كلام الحكومة، فعندما تستعر الحرب تستنجد بهم الحكومة، وعندما يجيء وقت توزيع المناصب تذهب كلها للشمال، أما والي البحر الأحمر آنذاك، فقد دفعهم لميدان الموت، الذي هو السبب الأساسي لوجوده في هذا الموقع وليس الكفاءة، حتى يستمر في منصبه، والآن يقول لهم لا أستطيع أن أقدم لكم أي شيء. أنظر كيف أحضر صلاح كرار مستشفى لأهله باستغلال منصبه واسم (السودان)، كما أحضر قنصل السودان في دبي ثلاثة مولدات كهربائية لأهله، لقد أصبحت الخارجية قطاعاً خاصاً بالشمالية أسوة ببقية الوزارات!!

إن الأجهزة الحكومية المعنية من جمارك وإدارة ميناء وعلى رأسهم سودان لاين لم تدخر عائقا إلا ووضعته أمام الإغاثة التي أرسلناها لهم. أما الجمارك فقد فرضت رسوماً حتى على المصاحف التي أرسلناها.

إن كل الذي طلبناه هو إعفاء هذه الشحنة من أجرة النقل البحري والجمارك والرسوم الأخرى وهذا حق خوله لهم القانون أم أنه حق للشمالية فقط. ولو كانت هذه الشحنة متجهة للشمالية لما ترك أركان الحكومة في مكاتبهم غير السكرتيرات، وسافروا كلهم إلى هناك لتأمين تلقيها كل التسهيلات، ولكن يبدو أن ممارسة الحكومة للتفرقة شملت حتى النواحي الإنسانية وأنها تلتزم نهجا عنصريا ضد أهلنا البجه بهدف إفنائهم!

لقد نصحنا أهلنا بعدم الدفاع عن هذه الحكومة التي يتاجر أركانها في أرواح الناس بالشاش الفاسد والمحاليل الملوثة ووصلت رائحة الفساد لكل أرجاء العالم العربي والغربي فمن يستثمر أمواله في هذه الأجواء؟ ... وجاء الآن دورنا لندافع عنهم وهم من دافع عن الحكومة ليستمتع أركانها بالخيرات ويرفلوا في الرفاهية والترف ويدرس أبناؤهم في أرقى المدارس في الداخل والخارج .. ومن يتابع وثائق جهاد الإنقاذ المصورة والمقروءة والأسماء سيعتقد جازماً بأن كل الشهداء من الشمالية، بل إن الجهاد أصبح درجات. وبالرغم من أن العبء الأكبر للدفاع عن حكومة الإنقاذ ملقي على ولايات البجه، إلا أن المكاسب والمناصب تذهب للشمال. ولا يعني هذا أن كل من في وسائل الإعلام والصحف يتحيزون للشمال. فقد كتبت الأستاذة آمال عباس عن إنتشار الدرن الرئوي في بلاد البجه، وأعتبر حديثها إساءة للإنقاذ وتشويهاً لمنجزاتها التي لا توجد أصلاً لولا فساد الإعلام.

صور من اختلال الميزان في تقسيم الثروة:

إن الثروة هي ظل السلطة. وما رصدنا من فساد وظلم في تقسيم السلطة لا يفرز غير ما هو واقع من ظلم مقنن بشرعية السلطة وحمايتها. لقد تم توجيه كامل التنمية، منذ خروج بريطانيا، للشمالية والوسط حيث استوطن الشماليون. وخزان خشم القربة وحلفا الجديدة بمصنع سكرها وأراضي الرعاة البجه، ما هي إلا تعويض وعلاج لأخطاء القادة، ولولا أن أراضي البجه سائبة لما قسمت للحلفاوين، ولماذا لم يوطنوا في الوسط. ووضعت كل الخطط الاستراتيجية التنموية.. وعائدها مليارات الدولارات مديونات إضافية، وتمركز للخدمات في الوسط ومشاريع ذات أسماء كبيرة في الشمال تضخ إليها الأموال من الخزينة العامة التي تأتي معظم عائداتها من بلاد البجه، وبالرغم من هذا فإن عائدها لا يظهر.

إن صرف كل ولايات البجه لم يتجاوز سقف 36% كصرف فعلي من المجاز أو المصدق به، في حين أن أياً من الولايتين الشماليتين لم تنزل عن 60% كصرف فعلي من المجاز أو المصدق به، مما يجعلها دائماً في موقف المؤهل لاستقطاب الدعم الجديد، أو تحويل الدعومات الساقطة عن باقي الولايات مثل ولايات البجه التي دأب ولاتها على إعادة الأموال المصدقه بدلاً عن صرفها في ما خصصت له، بهدف الاحتفاظ بمناصبهم، بينما يموت أهلهم من الجوع والمرض ويفرض عليهم الجهل.

هذا لأن وزارة المالية وقسم تصديقاتها وتوابعها، وبدءاً بوكلائها ما هي إلا إقطاعية خاصة بالإقليم الشمالي. ونسبة البجه هنا هي صفر، ومستقبل هذه الوزارة سيكون لأبناء الشمالية من السائق إلى الوكيل. والبجاوي الوحيد الذي كان يشغل منصباً وصل إليه بكفاءته هو الأستاذ القاسم صالح ضرار الذي قدم الكثير لأبناء البجه، فما كان من حكام مايو، الذين هدفوا لهيمنة الشمال، إلا أن تخلصوا منه منذ اليوم الأول، وعندما إلتحق بمؤسسة خاصة صادروها ليمنعوه من العمل فيها. أما الإنقاذ فقد شردت كل البجه من الوظائف العامة، وقامت تحت التعذيب وبطريقة وحشية بإعدام الشهيد محمد عثمان كرار الطيار الحربي البجاوي الذي حاز على أوسمة رفيعة في الشجاعة والأداء.

عندما تتقدم أي مؤسسة من غير الشمالية بطلب تمويل لميزانياتها المجازة تقام في وجهها جملة عراقيل إدارية إجرائية بدءاً من التخويل بالصرف وتوقيته والبنود وأتباعها ... وتتواصل العراقيل وتنتهي إلى البرمجة التي تخضع للمصلحة الشخصية والعنصرية الجهوية للوكيل والوزير والمدير وكلهم من الشمالية. وهكذا نجد أن معظم المشاريع في ولايات البجه لا ينجز منها غير 10 أو 20% لأنها لا تتسلم غير دفعة أو دفعتين من المبالغ المصدقة لها ويسقط الباقي من الميزانية ويحول في الميزانية الجديدة إلى الشمالية. وهذه الظاهرة واضحة في تمويل الجامعات والمعاهد العليا والصحة والتنمية الاجتماعية وغيرها. فقارن بين جامعة كسلا وجامعة شندي أو أتبره من حيث الإمكانات المتاحة. وماذا عن المرافق والمستشفيات ومشاريع التنمية التي تفتتح في الشمالية وتجد كل حكومة الخرطوم فيها حاضرة، سيدعون بأنها مساهمة شعبية وهذه المساهمة الشعبية نفسها من تصديقات المسؤولين التنفيذيين من أبناء الشمال بالخرطوم، ومن أموال المؤسسات التي يديرونها ومنها مؤسسات تعمل في بلاد البجه فقط مثل الخطوط البحرية وهيئة الموانيء، فهل الموانيء أصبحت في كريمة وشندي؟ حتى الجامعات الوهمية التي تفتتح في ولايات البجه يكون الهدف منها خلق وظائف للشماليين فيها على حساب البجه. ويتم تعيين مدراء وأساتذة غير مؤهلين، ويذهبون إلى تطفيش الأساتذة البجه مثل ما يقوم به أحد مدراء الجامعات من منح إجازات بلا مرتبات للأساتذة الشماليين ليعملوا بالخارج ويحرم منها رصفائهم البجه ويطلب منهم أن يستقيلوا.

وفي سبيل اقتفاء آثار مظاهر اختلال ميزان الثروة نجد ميزانية ولايتي الشمال أضعاف ولايات البجه بالرغم من الفارق في عدد السكان. كذلك نجد أن مشاريع التنمية بولايات البجه لم ينفذ منها أكثر من 10% حتى إنتهاء السنة المالية. ويظهر خلل توزيع مشاريع التنمية سابقاً ولاحقاً من سمات البرنامج الثلاثي الذي أجازته حكومة الإنقاذ للأعوام 1999 إلى 2002م.

القطاع الزراعي:

القطاع المروي هو أهم القطاعات التي تسهم بفعالية في توفير الغذاء وإنتاج المحاصيل النقدية، وأهم مشروعات الزراعة المطرية توجد في ولاية القضارف البجاوية. وفي الخطة الثلاثية لم يرد ذكر لهذه المشاريع ومحاصيلها واسهامها في الدخل القومي. اهتمت الخطة بالزراعة في الشمالية للقمح والذرة الشامية والأرز والعدس وتم توجيه الاستثمارات لإعادة تعمير وتوسعة مشاريع الإقليم الشمالي التي ليس لها أثر في زيادة الدخل القومي مقارنة بمشاريع الزراعة المطرية. وتم إيقاف زراعة القمح في الجزيرة سعياً لتوطينه في الشمالية تسويقاً وتبريراً لإقامة خزانات كجبار والحمداب ومروي وغيرها من مشاريع الشمالية فإنها جميعاً تشيد بديون تسدد من إيرادات موارد وثروات البجه الطبيعية.

حتي مشاريع المياه لم تتطرق لمعالجة آثار القاش وسيتيت لأنها تدمر سنوياً في الشرق فقط وليس في الشمالية. وقام وزير البترول عوض الجاز بالتبرع بمبلغ (650) ألف دولار لولاية النيل لتأهيل الكهرباء (أغسطس 2000)، وزار مندوب لحكومة الإنقاذ إحدى دول الخليج وحصل على ست محطات كهرباء ذهبت كلها للشمالية (مارس 2001)، بينما تستأجر بورتسودان الكهرباء من مولدات شركة خاصة، بالتأكيد هي تابعة لسماسرة الجبهة كذلك قامت حكومة ولاية البحر بشراء محطة كهرباء خردة بمبلغ خرافي! من سمسار بدولة الإمارات لتشغيلها في بورتسودان. والمثير للسخرية هو أن سكان ولاية النيل لا يعادلون ربع سكان مدينة بورتسودان وحدها التي تعاني أيضاً من العطش المزمن.

ولم يرد ذكر لمشروعي دلتتي القاش وتوكر رغم أن المناطق تعد من أكثر البقاع تخلفاً في (السودان)، وأهلها فريسة الدرن الرئوي وسوء التغذية والجهل والفقر. والبجه ليس مثل الشماليين فليس لهم مغتربون في الخليج أو أمريكا يمكنونهم من تغيير الحال بعض الشيء. إن الشماليين يرون في ولايات البجه امتداداً طبيعياً للشمالية ليتوسعوا فيها، ولكن بعد أن يقوموا بإفناء البجه بالحروب والأمراض وغيرها. يريدون بلاد البجه خالية، بلا أهلها، ليرتعوا في أراضيها ويتمتعوا بخيراتها. إنها سياسة مبرمجة للقضاء على البجه. حتى ميزانية الدعم الفني الأجنبي للتعليم العالي موقوفة لدرء آثار فيضانات العام 1988م وحتى الآن. وتم تأهيل عشرة جسور في النيل الأبيض لحماية الشمالية من الهدام. أما مشاريع الرهد الزراعية ومعها ترعتي الرهد وكنانة التي تم استيراد المعدات والآليات بإسمهما، فقد قامت شركة شريان الشمال بالاستيلاء على تلك الآلات وجزء من آليات طريق الإنقاذ الغربي لإكمال طريق شريان الشمال. إن عدد المدارس والمستشفيات في الشمال يبلغ أضعاف ما في ولايات البجه بالرغم من أن عدد سكان الأواخر أضعاف سكان الشمال. وينسحب هذا على التموين والدعم الاتحادي وغيره.

الانحياز شمل حتى الجهاد:

عندما نستمع أو نقرأ أو نرى وسائل الإعلام الرسمية نجد أن كل المجاهدين هم من الشمالية. وعندما اختفى إبن ياسين عمر الإمام، في الجنوب، أقامت الحكومة الدنيا ولم تقعدها بحثاً عنه. وفي الأعياد والمناسبات نرى حتى مدير التلفزيون يطوف ببيوت شهداء الشمال ليوزع عليهم الهدايا. أما شهداء البجه، خاصة الذين استشهدوا في جنوب توكر، وبالرغم من أن الحكومة خدعتهم للدفاع عنها، فإنهم لم يجدوا أي إهتمام ولم تحاول الحكومة استعادة الأسرى منهم. وبالرغم من هذا فكل عبء القتال والتشريد والنزوح يقع على البجه بحكم اشتعال القتال في مناطقهم، وهم الذين يدفعون الضريبة الدموية والمادية.

الشمال اخطبوط لكل القطاعات:

يهيمن الشمال على كل القطاعات الخدمية والصناعية والتجارية وليس هناك ولا مشروع واحد في بلاد البجه يستفيد منه البجه. فحتى المشاريع التي في بلادهم ومن مواردها يستفيد منها الشماليون. وكل المشروعات التنموية الصناعية أقيمت في الشمال وعمالتها كلها من الشمال مثل، التصنيع الحربي، مصنع سك العملة، مطبعة العملة، الكهرباء، المطبعة الحكومية مصانع السكر إلخ. ويسري هذا القول على قطاع المياه والنقل والاتصالات. أما المشاريع التي في بلاد البجه فكل مدرائها من الشمال لتمكين الهيمنة.

احتكار التعليم والتوظيف:

نجحت استراتيجية الهيمنة الشمالية بكفاءة في قطاعي الخدمات والتنمية. ويتضح هذا في التعليم من خلال نتائج المدارس الثانوية التي تجيء كلها من تلاميذ الشمال، بينما توجد في بلاد البجه مدارس أساس لم تفتح أبوابها منذ أعوام لأسباب كثيرة، ليس أقلها عدم وجود معلمين ولا رواتب ولا كتب ولا أثاث، وحتى مدارس الأساس المفتوحة فإنه لم يتقدم من معظمها أي طلاب للمرحلة الثانوية على مدى أعوام طويلة متتالية. في امتحان الشهادة السودانية للعام 99/2000 حصلت ولاية الخرطوم على نسبة 90% من الناجحين وهكذا تتنافس 25 ولاية على العشرة بالمائة المتبقية (راجع الاحصائيات في باب التعليم). ونسبة الاستيعاب في ولايتي الشمال تتفوق كثيراً على مثيلتها في ولايات البجه. هذا لأن وزير التربية وكل كوادر وزارته من الشمالية.

لقد استحوذ الشمال على التعليم بكل الطرق ومن ثم التوظيف وفرص العمل. فابتداء من عهد مايو المباد، عندما كان الدكتور الترابي في السلطة، استطاع أن يحظر سفر أي مبتعث من غير أعضاء حزبه من الشماليين بحجة أنهم شيوعيين وغير ذلك، واستمر الحال كذلك في عهد الإنقاذ. وهكذا نرى أن كل حملة الشهادات العليا في جميع التخصصات الآن هم من الشماليين من كوادر حزب الجبهة القومية، وبالتالي فإنهم يتولون كل المناصب العليا في البلاد. أما الجديد في عهد الإنقاذ فإنه لا تعليم ولا توظيف لغير أبناء الشماليين من كوادر الجبهة. ومن لا يملك المال ليس له فرصة في التعليم العام أو الخاص ومن ثم الحصول على وظيفة، وليس هناك من يملك المال غير أعضاء جبهة الإنقاذ من الشماليين، الذين يقبل أبناؤهم في الجامعات دون أن يستوفوا شروط القبول، كما قاموا بتوزيع شهادات الماجستير والدكتوراة على كل أعضاء الجبهة من الشماليين. إذن فلا مجال لغيرهم في التعليم أو التوظيف ليس الآن بل وفي المستقبل إلا بزوال هذا الاحتكار وتجريدهم من هذه الشهادات التي حصلوا عليها بالطرق الملتوية دون أن يكونوا مؤهلين لها.

صندوق دعم الولايات:

والتنمية الدعائية التي يتبناها صندوق دعم الولايات، علماً بأن مسؤولها من الشمال! حتى يخصص كل الأموال للشمالية. فنصيب ولاية النيل بلغ 19 مليون بينما ولاية كسلا التي يبلغ عدد سكانها أضعاف عدد سكان ولاية النيل كانت حصتها من الصندوق 15 مليون. والصندوق القومي لدعم الولايات هو أحد أجهزة دولة الإنقاذ المستخدمة لتأكيد هيمنة الشمالية. فالصندوق لا يمول أي مشروع بدون دراسة جدوى متكاملة وهو يعلم ما تحتاجه أي دراسة من إمكانات بشرية ومادية وبالتالي فإن ولايات البجه بعيدة عن دعمه المكرس للشمال. (أصبح هذا المسؤول وزير دولة فيما بعد وفي اجتماع ايسكوب في أديس أبابا في يوليو 2003م تلقّى درساً قاسياً من ممثلة البجه في المؤتمر)، وتحتكر شركة شريان (اخطبوط) الشمال تنفيذ المشاريع الحكومية.

بالنسبة لقطاع المصارف، فمن جملة (15) منصباً لمحافظ بنك السودان في الفترة من 1/12/1956م حتى اليوم، لم يتولى المنصب واحد من البجه ولا حتى من الغرب أو الجنوب. وينطبق هذا على بنك الخرطوم والبنك الزراعي وبنك التنمية الصناعية. وتمتد الهيمنة الشمالية لتستحوذ على ديوان الزكاة، بكوادر من الشايقية والجعليين والدناقلة، من المدير إلى كل المسؤولين. وكذلك الحال في مؤسسة التنمية السودانية، والأوقاف الإسلامية، وديوان الزكاة وصندوق التكافل، وصندوق دعم تطبيق الشريعة، والهيئة الخيرية لدعم القوات المسلحة، ومنظمة الشهيد، ونداء الجهاد، والبر الدولية، ومؤسسة الزبير الخيرية، والخطوط البحرية وهيئة الموانيء والمنطقة الحرة وشركة أرياب لإنتاج الذهب والتي تقوم على بلاد البجه ومن خيراتهم، والصندوق الخيري للتأمينات، والخطوط الجوية السودانية. (وبعد هذا يطالبون بما ينفي عنا تهمة العنصرية عندما نطالب بالعدالة في توزيع السلطة والثروة).

(إن توزيع الأمصال والأدوية من الإمدادات الطبية يتم بصورةعنصرية ويتضح هذا من كشوفات الصرف). وكلها بالطبع تذهب للشمال بينما تفتك الحميات والدرن والسحائي بأهلنا البجه في الشرق وفي نفس الوقت ترسل ولاية البحر الأحمر زوجة وزير شمالي بالولاية لتحضير درجة الدكتوراه بتكلفة عشرين ألف دولار على حساب البجه.

لجنة قسمة الموارد:

هذه اللجنة التي يفترض أن يكون تكوينها قومياً، إلا أن أهل الإنقاذ جعلوها تقنن هيمنة الشماليين على الثروة. فاللجنة التي تم تكوينها من (25) عضواً، تمثل البجه بعضو واحد بنسبة 4%، والغرب بعضو واحد بنسبة 4%، والجنوب بثلاثة أعضاء بنسبة 12%، أما الشمالية فيمثلها (19) عضواً بنسبة 76%. والهدف من هذا التشكيل هو تمكين الشماليين من توزيع الثروة على الشمالية.

الوزراء والسفراء والمدراء إلخ:

إن من ينظر لمجلس الوزراء لا يجد فيه غير الهيمنة الشمالية التي امتدت إلى كل مناصب السفراء ورؤساء مجالس الإدارات والمدراء، ولم يتبق شايقي أو جعلي أو دنقلاوي إلا ويشغل منصب وزير أو سفير أو رئيس مجلس إدارة أو مدير لمؤسسة أكاديمية أو اقتصادية، وأجزم أنه تحديداً لا يوجد منصب هام إلا ويشغله شايقي من أهل عمر البشير أو علي عثمان. كل هؤلاء يتمتعون بإمتيازات هي من ذهب البجه ومن موارد موانئهم ومما يعبر بلادهم بينما يفنون هم من الجوع والمرض والفقر. إن حكومة الإنقاذ تطبق الآن السياسة البريطانية التي كانت تمنع توظيف أبناء البجه في الشرطة والجيش، وهكذا فعل حكم مايو (راجع كتاب ضابط الأمن الدكتور بيومي) الذي ذكر بأن الحكومة منعت تعيين البجه في القوات النظامية لأنهم عنصريين! من هو العنصري الحكومة الشمالية المهيمنة التي تفرض توجهها أم البجه؟

(نسمع عن إلزامية التعليم وقبلها مجانيته، كما سمعنا عن الدواء المجاني، وعليه فإن هوة الجهل تتسع، بهذا التجهيل المتعمد الذي يمارسه أبناء الإقليم الشمالي على باقي الأقاليم، ومن ضمنها بلاد البجه، فإنه يحفظ للشماليين تفوقهم النوعي، ويبعد عنهم غلواء المنافسة فتكون البلاد خالصة لهم، وهذه لعمري أمكر من كيد اليهود، ولا ندري من أين تلقفوه وهم يشهدون بالوحدانية. إن كل الحكومات الوطنية، ما عدا حكومة السيد الصادق المهدي الأخيرة، التي مكنت أبناء الغرب بحكم أنهم قاعدة الحزب وبالتالي تم استبعاد البجه قاعدة الختمية الحزب المنافس والذي ينتهج سياسة جوع كلبك يتبعك، انتهجت هذه الحكومات منهجاً واحداً هو تمكين السلطة والثروة في أيدي الشماليين، إلا أن حكومة الإنقاذ جاءت لتمكن الشمال جهوياً وقبلياً وتضيف إلى ذلك قطع المدد عن الأقاليم الأخرى. ــ الكتاب الأسود). وقطع المدد هذا القصد منه، مع الحروب والفتن التي تشعلها الإنقاذ، القضاء على السكان من غير الشماليين وبالتحديد البجه لنهب ذهبهم وخيراتهم. لقد جعلت حكومة الإنقاذ من العنصرية والجهوية قانوناً ولوائح.

(لقد ابتدع حكام الإنقاذ سياسة تشبه سياسة فرق تسد الاستعمارية، إلا أنها بلباس جديد، جعلت من أساليب الترغيب والترهيب تارة والتقريب والإبعاد تارة أخرى وسيلة من وسائل ضرب العلاقات الداخلية والبينية لمنسوبي باقي الأقاليم، في دهاء ومكر هو من فعل يهود. ففي شرق البلاد يضربون البني عامر بالهدندوة، والبشاريين بالأمارأر، والرشايدة ببقية البجه حتى لا تستقر المنطقة. وهكذا في الغرب والجنوب إلخ وتخرج منشورات الفتن بين القبائل التي تدبجها الأجهزة الأمنية برعاية النائب الأول لأنه المعني بملف القبائل بل الحبائل ونسج خيوط المكر في الظلام، ويمكر ويمكرون والله خير الماكرين، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ــ الكتاب الأسود).

عكس هذا السفر (الكتاب الأسود) بشاعة الظلم الذي مارسته الأنظمة السياسية المتعاقبة على البلاد منذ الاستقلال إلى اليوم، بصرف النظر عن توجهاتها وألوانها .. علمانية كانت أم إسلامية، ديمقراطية مزعومة أم دكتاتورية، هذا الظلم البشع المتمثل في محاباة جهة واحدة من (السودان) على حساب باقي جهاته، مؤثرة إياها بالعناية والرعاية والإهتمام والتنمية. لقد جعلت الحكومات المختلفة، من الحكم أداة لتكريس سلطة الإقليم الشمالي (ولايتي نهر النيل والشمالية) على باقي (السودان). واستمرأت هذه الحكومات وكذلك تلك الجهة المعنية لحال الظلم هذي، فصارت تبكي وتوسم غيرها بالعنصرية والكيل بمكيالين، هي تمارسهما صباح مساء ومنذ فجر الاستقلال وحتى اليوم. فقد أضاعت الأنظمة السياسية مصداقيتها، وفقدت مع ذلك صفة الدولة الراشدة، ولم تعد جديرة بتأييد الكيانات والجماعات والأفراد المنتمين لمجموعة (ظل السلطة) على غرار ظل المطر. وهذه شهادة على عدم شرعية هذه الحكومات ويجب مناهضتها كنوع من الاستعمار الاستيطاني.

لقد تم تكريس السلطة في أيدي نخبة من جهة إقليمية واحدة (الشمالية). واستغلت هذه الجهة السلطة بجميع أوجهها لجعل هذا الاختلال أمراً واقعاً، فصار هذا الواقع وما تبعه من ظلم هو الأصل! وما عداه! استثناءً، وكل نداء للتصحيح يوصم بالعنصرية والجهوية، وبات شعار (اللاسامية ..!) بين عشية وضحاها بين ظهرانينا، ومورست الجهوية بقوة وتنظيم مكن ممارسيه من استلاب حقوق الغير وطمس معالمها وتكميم أي فاه ينادي بغير ذلك. شهادة على عدم شرعية هذه الحكومات ويجب مناهضة هذا الاستعمار الجديد.

ديون الفساد ورفاهية الشمال يسددها البجه:

إن شعب البجه يدفع ثمناً غالياً لفساد أنظمة الخرطوم العنصرية المدنية والعسكرية فقد قامت حكومة الإنقاذ باستدانة مليارات الدولارات من الدول والمؤسسات الأجنبية، وقامت بصرفها على مشاريع كبيرة في الشمال لترسخ رفاهية الشمال مثل ميناء حلفا القديمة وشريان الشمال وخزان الحماداب وغيرها كما قامت بتوزيع جزء منها على رموزها وسدنتها ليشيدوا القصور الباذخة ويكنزون العملات الأجنبية في بنوك الدول الأوروبية. بينما يحرم شعبنا من ضروريات الحياة لأجل تسديد هذه السرقات التي تسمى ديون خارجية. بالإضافة إلى هذا فإن الاموال تهدر في تعيين المحاسيب والسدنة في وظائف لا حاجة لها، وما ذنب شعب البجه ليدفع مرتباتهم ومعاشات المتقاعدين بالجملة وغيرهم من الذين تم تعيينهم بالوساطة والمحسوبية والفساد. إن شعب البجه يدفع ثمن جرائم غيره ويفنى من الجوع والمرض بينما ينعم غيره بخيراته. وفي هذا المجال ليس للبجه أي حل للتحرر من هذه الديون (السرقات) إلا إعلان دولة البجه المستقلة لاخلاء مسؤوليتهم عن الديون التي لم يستشاروا في أخذها والتصرف فيها.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click