البجة شعب وحَّدَهُمْ الأرض والتاريخ وجزأهم الاستعمار
بقلم البروفيسور الدكتور: جلال الدين محمد صالح
يُجْمِعُ كافة الباحثين، الشرقيين منهم والغربيين، المعنيين بتاريخ البجة، والمهتمين به،
على أن البجة هم من أعرق الشعوب، وأقدمها، في تاريخ القرن الأفريقي.
يمتد وجودهم المكاني، من جنوب مصر، إلى حدود الحبشة، على ما ذكر الإسواني، والإدريسي، واليعقوبي، والمسعودي، والمقريزي، وابن حوقل الذي زارهم في العصر الفاطمي.
ويعود وجودهم الزماني إلى العهد الفرعوني، وإلى ما قبل نشوء حضارة أكسوم ومملكتها، عام (٦٠ ق. م) أو (٦٠٠ ق. م).
وهم في الأصل حاميون، عند بعض المؤرخين، إلا أن قبائل عربية هاجرت إليهم، وامتزجت بهم، فأكسبتهم دمها وملامحها، ولسانها، وثقافتها.
وكانت القبائل الحميرية، من جنوب الجزيرة العربية، أقدم من امتزج بهم، وخالطهم، قبل الاسلام.
ومنهم قبيلة (بلي) أو (بلو) الحميرية، حيث إنها تعود إلى (قضاعة) تلك القبيلة الحميرية، من جنوب الجزيرة العربية، على ما رجحه ابن خلدون في مقدمته.
ثم وفدت إليهم في العهد العباسي تحديدا، قبيلة (ربيعة) و (نزار) و (قحطان).
وصاهرتهم ربيعة؛ لتتقوى بهم على (نزار) و (قحطان).
حتى إن المسعودي، يقول في (مروجه): وتقوت ربيعة بالبجة، على من ناوأها، من نزار، وقحطان، وصاحب الذهب في أيامنا هذه، هو (بشر بن إسحاق) أبوه من (ربيعة) وأمه من (البجة).
ويذكر ابن بطوطة، الرحالة الشهير، أن حاكم سواكن، يوم جاءها، كان من أشراف الحجاز، من أبي نمي، ويقول: البجة أخواله.
وإذا كان البجة أخواله، فبالضرورة هم حُماتُه، برضاهم حكم سواكن.
ويعد اسم (البجة) من أقدم الأسماء، وأعرقها، في المنطقة، حيث وجد في ذلك النقش الذي اكتشفته البعثة الألمانية، في حفرياتها، بأرض أكسوم، ويعود إلى الملك الأكسومي (عيزانا بن اللاعميدا).
حيث يقول فيه: أنا عيزانا بن اللاعميدا، حاكم أكسوم، والكوش، والبجة، وسبأ، وصالحة، وريدان.
والأخيرة مناطق في اليمن، امتد إليها نفوذ عيزانا.
ويؤكد المؤرخون، أن (البجة) مثلوا أكبر تحد واجهه عيزانا، في توسعاته الأكسومية، حيث قاوموه، وقاتلوه بشراسة، وعناد منقطع النظير.
من هنا تفاخر في نقشه هذا، بهزيمتهم، وإخضاعهم، وحفظ لنا التاريخ نقشه هذا.
ومع ذلك، ونتيجة لهذا الصراع المستمر والحاد بين (البجة) و (الأكسوميين) لم يتردد (البجة) من الانقضاض على (أكسوم) وإسقاطها عام ٦٤٠م، تقريبا، إن لم تخني الذاكرة، بزعامة البلو، وقيادتها، مستغلين ضعفها، إثر خروجها من اليمن، بسبب تحالف سيف بن ذي يزن، مع الفرس، وسقوط اليمن تحت القبضة (الفارسية) بعد (الحبشية).
واختلف الباحثون، فيما يعنيه اسم (البجة) وأصله.
فبعض المؤرخين العرب قالوا: إنه جاء من كلمة (بداة) العربية، ثم قلب (الدال) (جيما) فأصبحت (بجاة).
إلا أن باحثا بجاويا، لا تحضرني اسمه الآن، ينفي هذا، ويذكر أنه اسم نابع من المجتمع البجاوي نفسه، معناه بالتبداويت الرجل الضخم.
وفي (التجرايت) وهي إحدى لغات البجة، يقال أيضا، لمن يضطرب فيه لحم بدنه، من ضخامة جسمه، عند جريه، أو سيره (بجبجة).
وكذلك لمن يرتجف فجعا وخوفا، يقال له: بجبجة.
وفي لسان العرب لابن منظور: قال ابن السكيت: إذا كان الرجل سمينا، ثم اضطرب لحمه، قيل: رجل بجباج، وبجباجة.
إذن هو مجرد وصف للبجة، تتميز به هويتهم، عن الهوية النوبية، والأكسومية.
وربما جاء من طول قامتهم، في بعض منهم، مع ضخامة بدنهم.
وأيا كان، فهو اسمهم التاريخي، به يعرفون، وينعتون.
ويعني الانتساب إلى الأرض قبل العرق، فكل من سكن أرض البجة، أيا كان عرقه، وحمل هم البجة، وخالطهم، وتشابكت مصالحه بمصالحهم، فهو واحد منهم.
وللبجة أكثر من لغة، وهي: التجرايت،التبداويت، البلينايت، الباريايت، الكنامايت، العربايت، حيث بات الرشايدة جزءا لا يتجزأ من البجة، باستيطانهم على أرض البجة، كما استوطنت عليها من قبلهم (بلي) ثم لاحقا (ربيعة).
وكل لغات البجة تنتمي إلى العائلة (الحامية) بإستثناء (التجرايت) و (العربايت) فهما من اللغات السامية.
وما عرف البجة في نظامهم السياسي حكما مركزيا، بل كانوا ممالك عدة.
ومع ذلك ظل البجة بمختلف قبائلهم، وممالكهم، وتنوع لغاتهم، وتعدد قبائلهم، يدا واحدة، على من عاداهم، واعتدى على أرضهم.
من هنا هجموا على أكسوم، فأسقطوها وراء قيادة واحدة، هي قيادة البلو.
وواجهوا جيش الخلافة العباسية الذي قاده ضدهم (عبد الله بن الجهم) وهم يومئذ جميعا يد واحدة، خلف قائدهم الأشم (كنون بن عبد العزيز).
وهو الذي تسميه وثيقة الاستسلام التي وقعها مع العباسيين، بعد هزيمته (عظيم البجة) وأحيانا (ملك البجة).
ونشر الوثيقة كاملة المقريزى في خططه، وشهد عليها رجلان من مكة، أو جدة، يتكلمان لغة البجة، أحدهما مخزومي، والآخر قرشي، طبقا لإفادة الوثيقة.
وربما تصلهم بالبجة وشائج قرابة، أو علائق تجارة، أجادا لغة البجة، (التبداويت) أو (التجرايت) أو كلتيهما معا.
ونصت الوثيقة، أنهما من قاما بترجمة بنود الوثيقة، حرفا حرفا، لعظيم البجة (كنون بن عبد العزيز).
ويذكر المقريزى، أن مقر حكم ملك البجة، يسمى (هجر).
و معلوم أن (هجر) تقع في الساحل الشمالي، من إرتريا، وما زالت كما كانت تحمل الاسم نفسه.
وعلى الرغم من الهزيمة التي لحقت بهم، أبى البجة أن يستسلموا للحكم العباسي ويستكينوا له هونا.
رفضوا أن يرضوا بهذه الاتفاقية المجحفة والمذلة بالنسبة لهم، فثاروا ثانية على الجيش العباسي، بقيادة زعيم لهم اسمه (علي لباب) أو (أولباب) الذي واجه هو الآخر، ومن ورائه قومه البجة، الجيش العباسي، بقيادة (القمي).
ومع حنكة الخطة العسكرية التي رسمها هذا القائد البجاوي العظيم، في مواجهته لجيش القمي - كما ذكر ابن كثير في تاريخه - هُزِم، واقتِيد أسيرا إلى بغداد؛ لِيُوَقِّعَ هو الآخر اتفاقية الاستسلام، والخضوع للخلافة العباسية.
وفي هذه اللحظة من تاريخهم، عم الإسلام (البجة) وانتشر بينهم، وأصبح عقيدة لهم، من بعد وثنية عاشوها، في جاهليتهم.
كما أن بعضا منهم اعتنق لاحقا المسيحية، بسبب الإرساليات التنصيرية.
وهكذا بقي البجة يدافعون بعزيمة الأبي، وعناد القوي، عن أرضهم، وكرامتهم، وثرواتهم، حتى جاء المستعمر الأوروبي، فكانت معارك (عثمان دقنة) ضد الانجليز.
وهو من أصل كردي، أمه بجاوية، وأُسِرَ هو الآخر، وأُعْدِمَ شهيدا، رحمه الله.
ومعروف الذين أسروه، وأسلموه للغزاة المستعمرين.
وبهذا جَزَّأ الاستعمار الغازي البجة، وتوزعهم بينه، كما تقاسم أرضهم، حيث صارت جماعات منهم، ضمن المستعمرة البريطانية، التي عرفت باسم (السودان).
بينما أصبحت جماعات أخرى جزءا من المستعمرة الإيطالية، باسم (إرتريا).
وبعد هزيمة الطليان واستيلاء الإنجليز، على المستعمرة الإيطالية، طرح الإنجليز، دولة (البجة الكبرى) على حد قول أبي القاسم حاج حمد - رحمه الله - مستشار الرئيس الارتري.
وفي هذا يقول أبو القاسم حاج حمد، في مقالة له منشورة بمجلة (الدراسات الاستراتيجية) الصادرة في الخرطوم عدد (١٦) ١٩٩٩م: لولا اعتراض مصر على إنشاء هذه الدولة، لمصالح لها في سواكن؛ لكانت دولة (البجة الكبرى) التي أعلن عنها من إرتريا، السكرتير البريطاني، في السودان (دوجلاس نيوبولد) أثناء زيارته إرتريا عام ١٩٤٣م، حقيقة قائمة اليوم، ولفقد السودان سواحله الشرقية، وإرتريا شمالها وغربها.
ثم جاء الإمبراطور الأكسومي، هيلي سلاسي متحالفا مع الإمبريالية العالمية، ومع جزء من الجماعة الأكسومية التجرنيوية، إنشقت عن الإجماع الوطني، بتأسيس جسم سياسي نادى بالوحدة مع الإمبراطور.
عرف هذا الجسم (بآندنت) ورفع شعار إثيوبيا أو الموت.
وصب مع حليفه الإمبراطور، جام غضبه على البجة، بكل قبائلهم، وعلى الايفاتيين، بكل مكونهم، العفر، والساهو، والعساورتا، والجبرتة، سكان مملكة إيفات التي أنهى وجودها منيليك متحالفا مع الطليان، وكانت عاصمتها (جبرة) ومنها جاءت نسبة (جبرتي) كقاهري، ودمشقي.
ذلك لأن البجة والإيفاتيين، وقفوا ضد هذا المشروع بصلابة، أولا بتأسيس حزب الرابطة الاسلامية، ثم بإعلان (جبهة تحرير إرتريا) رائدة الكفاح المسلح، التي انطلقت شرارتها الأولى، من فوق جبال وسهول بجاوية، في الغاش، وبركة، والساحل.
وكان ما كان، من قتل البجة، والإيفاتيين معا، وتشريدهم، وتشتيتهم.
وبعد سقوط العرش الإمبراطوري، عام ١٩٧٤م، تدفقت أعداد كبيرة، من الجماعة الأكسومية التجرنيوية، في الثورة الارترية (جبهة تحرير إرتريا) وجناحها الآخر المنفصل عنها باسم (قوات التحرير الشعبية).
وكان هؤلاء المتدفقون في جزء منهم، من رجال الكماندو، المدربين في إسرائيل.
وفي جزء منهم آخر، من الانتلجنسيا المتعلمة، في أمريكا، وأوروبا، بابتعاث إثيوبي، والتي شغلت بعد عودتها، مناصب رفيعة، في حكومة الإمبراطور هيلي سلاسي، أمثال (البروف برخت هبتي سلاسي).
وضمن صراعات جبهة تحرير إرتريا، وقوات التحرير الشعبية، جناح الجبهة الآخر، المنفصل عنها، والمختلف معها، كان قد ظهر منذ وقت مبكر تنظيم سري، بقيادة الشاب الأكسومي التجرنيوي، (ويقال التجراوي) في آن واحد، الحاكم حاليا (إسياس أفورقي).
وغير بعيد أن تكون وراءه جهة أو جهات خفية، لها استراتيجيتها البعيدة
كل ذلك محتمل، وأيا كانت الحقيقة، فقد عرف هذا التنظيم، في تاريخ الثورة الإرترية (بسلف ناطنت).
وأصدر وثيقة تظلمية بعنوان (نحنان علامانن) (نحن وأهدافنا).
اتهم فيها جبهة تحرير إرتريا باضطهاد الجماعة الأكسومية.
وطالب كل الأكسوميين التجرنيويين، بالالتحاق في الثورة، وحَمْلِ السلاح، ضمن صفوفها، دفاعا عن الذات ومصالحها، المهددة من الجبهة، حسب زعمه، ومشاركةً في تحديد مستقبل إرتريا، ووجهتها الحضارية، إن لم يكن إنفرادا بها، كما هو واقع الحال.
وفعلا حدث هذا التدفق.
وفي هذه المرحلة، من تاريخ نموه، استغل أفورقي؛ لصالح مشروعه الاستحواذي، المد اليسار ي الماركسي، الذي طرح نظرية تقسيم المجتمع الارتري إلى قوميات تسع.
حيث تمكن بموجب هذا التنظير، من تقسيم كيان البجة القبلي، إلى ما أسماه اليسار الماركسي (قوميات).
و بالطبع يعد هذا، بالنسبة لأفورقي، كسبا عظيما، مهما كانت دواعيه، حيث يُمَكِّنُهُ من إضعاف، وبعثرة، أكبر قوى اجتماعية، ذات تاريخ، وثقافة، وأرض مشتركة، تبطل طموحاته الاستيلائية الإقصائية، لو أنها اتحدت أمامه، على اسم جامع، هو (البجة).
والعجيب، أن أول وثيقة سياسية، نصت على اسم (البجة) في تاريخ النضال الارتري - في حدود اطلاعي طبعا - هي تلك التي كتبها ونشرها الشاب الطموح، إسياس أفورقي، بعنوان (نحنان علامانن) (نحن وأهدافنا).
ولكن بالتأكيد، لا يتجاوز مدلول البجة، في مشروع أفورقي، دائرة أهلنا (الحدارب) عكس مدلوله التاريخي.
وبهذا استطاع، أن يمرر مشروعه التفكيكي، عبر وهم الواهمين، من اليسار الماركسي الساذج، الذين يجهلون تاريخ البجة، ولا يعرفون من التاريخ الارتري، إلا الحقبة الاستعمارية، إن أبعدوا المسافة.
يعرفون عن ماركس، ونتف من نظريته (الطوباوية) معرفة مقلد منبهر، متماه، يهتف بالشعارات، لا معرفة مفكر ناقد، وسياسي حذق، له تنبؤاته، وتأملاته، وتوقعاته.
ولا يعرفون عن كنون بن عبد العزيز، عظيم البجة، شيئا، مما يُفترض أن يعرفوه.
وربما سخروا من كنون هذا، وضحكوا منه، ونعتوه بالتخلف القبلي، ووصفوا تاريخه هذا بالتاريخ الرجعي، وكأنهم نبتة ناشزة شاذة، على هذه الأرض، ليس لهم فيها تاريخ عميق.
أوهمهم بأن ليس شيء اسمه (بجة) غير الحدارب.
وإنما هناك جزر متناثرة، وقوميات متناحرة، لا يجمعهم أرض، ولا تاريخ مشترك، ولا مصلحة مشتركة، أرضهم أرض دمنيالي، مستباحة، من حق الدولة استغلالها، وتوظيفها، وتوزيعها، كما تشاء، وكيفما تشاء، ولمن تشاء، ومتى تشاء، فصدقوا، وصفقوا، حتى نَكَبُوا، ونُكِبُوا، جماعات وفرادى.
وها هو الآن - بعد الاستقلال - يشق طريقه بأمان، حاكما متفردا، جبارا عصيا، حتى اللحظة، يولي، ويعزل، ويفعل ما يشاء، ملقيا كل الرفاق الماركسيين الذين حالفوه، ومجدوه، وصفقوا له، وراء السجون، في الكهوف المظلمة، وحاويات الشحن الملتهبة، بما نظروا له، وحلموا به، من يوتوبيا.
وآخرون منهم مهملون، يجوبون طرقات أسمرا، وكلهم حسرة وألم، إن بقيت في ضمائرهم خانة للألم والحسرة.
وكان من قبل قد انقلب عبر تحالفاته الانتهازية، مع هذا اليسار الماركسي على الزعيم عثمان صالح سبي، رحمه الله، الذي هو الآخر، ذهب ضحية استغلال أفورقي له، بعد امتصاصه، وتوظيف إمكاناته، وعلاقاته الخارجية، في بناء الذات وتقويتها.
كما تمكن من إنهاء وجود جبهة تحرير إرتريا، القوي الفاعل، وظن بعض حلفائه، من اليسار الماركسي، في الجبهة الشعبية، أن هذا انتصار لهم، حيث أعرب المناضل بادوري، في كتابه (إرتريا رحلة في الذاكرة) عن فرحته اللامتناهية، بنهاية جبهة تحرير إرتريا، وانهيارها، وكأنه ظل ينتظر هذا اليوم، ويعمل له، حتى وقع.
وما درى هذا المسكين، أن هزيمة الجبهة، وخروجها من المسرح، هو في النهاية هزيمته، وهزيمة من معه، وهزيمة كل الشعب الارتري، وهزيمة المشروع الوطني العادل.
ولو كانت الجبهة اليوم على ما كانت عليه، قوية عريضة، تبسط جناحيها، لما كان هو على هذا الوضع المزري، ولكن هو اليسار الماركسي، فتك بها شر فتكة.
ما أقصر أعين (الكربلائيين) التي لا ترى أبعد من الثأر، و ما أضيق عقولهم التي لا تفكر إلا بمنطق الانتقام.
ما درى السيد بادوري، أن تغييب الجبهة وإضعافها يعني سيطرة (أجندة مهلكة) على حد وصف المناضل أحمد القيسي، حيث بات السيد بادوري، ورفيقه القيسي، من ضحاياها، بعد السيطرة الكلية، من أفورقي، على الجبهة الشعبية نفسها.
وها هي المحصلة، من ضرب الجبهة، وإنهائها، نراها رأي العين، إذ ألغى أفورقي بعدها الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا، من الوجود نهائيا، وألغى معها حزبها الماركسي الماوي، السري، الذي قادها باسم (حزب الشعب الثوري الارتري) والذي كَمُنَ إسياس أفورقي، في أقبيته، كُمُونَ المُتَوَثِّبِ الحذر، إلى اللحظة المناسبة؛ ليتفرد هو بمشروعه الإلغائي، وليبقى بادوري، والقيسي، منفيان عن السلطة.
ولأن إسياس متيقن تمام التيقن، من أن البجة جزء أساس في حسم الصراع معه، ظل حريصا على إضعافهم، فقد اشترط على جبهة (البجة) في شرق السودان، حين حالفها ضد الإنقاذ، أن لا تضم إلى صفوفها غير الهدندوى، وبالذات البني عامر، أشد من يعاديهم أفورقي، ويتحالف مع كل الشياطين الحُمُرِ، والصُّفُرِ في سبيل دحرهم، وقهرهم.
وعند التفاوض مع الإنقاذ، سحب ملف جبهة البجة من عبد الله جابر، وأسلمه إلى يماني جبر مسقل، الشهير (بمنكي) خوفا من أن تكون لعبد الله جابر ميولات بجاوية، بحكم أصله البجاوي.
ثم اعتقل عبد الله جابر، متهما إياه بتدبير محاولة انقلابية فاشلة، قادها (ولد حجي) عرفت بعملية فورتو ٢١ يناير ٢٠١٣م.
وجاء سحب الملف منه أيضا تجاوبا مع رغبة مصطفى عثمان، وزير خارجية السودان حينها، خشية انحيازه إلى البجة، حسب إفادة عضو قيادي مفاوض، في جبهة الشرق.
وحاليا أثار أفورقي قضية البجة مع عبد الفتاح برهان، قائد الانقلاب العسكري، في السودان، في زيارته لأسمرا، معترضا على (حميدتي) تجنيده أبناء البجة، في شرق السودان، محتجا أن ذلك يهدد أمن إرتريا، حسب إفادة أحد المغردين السودانيين.
وليس للبجة في إرتريا والسودان من خيار، أمام كل هذه المكايدات، إلا أن تتحد مشاعرهم، وكلمتهم، في المطالبة بحقوقهم، في إطار الدولة القطرية المعترف بها.
وعلى البجة السودانيين الدفاع عن حقوق إخوانهم البجة الارتريين، في مواجهة المشروع الأكسومي، المتفرد بالهيمنة، وذلك بالضغط المتواصل على حكومات الشمال المتعاقبة، وبالاحتجاج عليها، إذا ما تمادت في تمتين علاقتها مع المشروع الأكسومي الحاكم في إرتريا، على حساب حقوق مصالح البجة، والإيفاتيين، من العفر، والساهو، والعساورتا، والجبرتة.
ففي اتحاد البجة، وتكامل البجة، هزيمة هذا المشروع الاستحواذي، وكل المشاريع المماثلة، وانتصار كل الشعب الارتري، البجة منهم، وغير البجة، مسلمين منهم، ومسيحيين.
وكل الثقافات الإرترية، عربية، وغير عربية.
كما فيه استقرار المنطقة، وتعايشها، وتسالمها، وتكاملها.
وليعلم البجة قاطبة، أنهم شعب واحد، جزأهم المستعمر، وتوزعهم.
أصحاب أرض واحدة، ومصلحة مشتركة واحدة، وتاريخ بطولي عظيم واحد.
واجهوا متحدين معا عيزانا الأكسومي، والرومان، والعباسيين، والإنجليز، والطليان، وهيلي سلاسي.
وأنهم أكبر من أن يقسموا إلى حبيبات متناثرة، وجزر قبلية متنافرة، وربما متناحرة، كما يخطط لهم أن يكونوا، باسم القوميات.
إنهم أكبر من ذلك كله بكثير، لو عرفوا قدر أنفسهم، وعظيم تاريخهم، وعلو شأنهم، وقوة بأسهم، فاليرتقوا، وليرتفعوا إلى مقامهم البطولي، وليستردوا مجدهم التليد.
إنهم فوق القوميات، وفوق القبليات، ولو أنهم أفاقوا، ففي إفاقتهم استرداد كافة الحقوق المسلوبةمنهم، ومن غيرهم، وبناء وطن متسامح، يسع الجميع.
وفي قوتهم بتوحدهم، قوة كل المهمشين، وكل المستضعفين.
وليعلم أولئك الذين يعملون في إضعاف البجة وعزل البجة، ومحاولة تعميق الخلافات بينهم، وتحريض النوبة عليهم، واستفزازهم بالرشايدة، أن الرشايدة، في أرض البجة، وهم حلفاء البجة بالمساكنة، وطيب المعاشرة.
وأن النوبة ضيوفهم، وإخوانهم في المواطنة، ولن يجدوا من البجة شرا وسوءا، ما احترموا كرامة الانسان البجاوي، وأحسنوا إقامتهم، على أرض البجة، ولم ينساقوا لأصوات الفتن، ونداءاتها الماكرة.
وأن لا سلام يتحقق في المنطقة، من غير إشراك (البجة) في توزيع السلطة والثروة، وترتيب أوضاع المنطقة.
إن البجة مواطنون سودانيون، كما هم مواطنون إرتريون.
وكل منهم في البلدين، يتكامل مع الآخر، عقيدة، وثقافة، وتاريخا، ومصلحة.
أدري أن بعض من لا عهد له بتاريخ (البجة) من الارتريين بخاصة، ممن صاغته ثقافة الجبهة الشعبية، وأَلِفَ تقسيمها القومي، وتشبع بتنظيرها الماركسي البائد، الآفل، وعميت عليه فلسفة مختطفيها، من قيادة (سلف ناطنت) ربما تضايق من مصطلح (البجة) ونفر من تحليل كهذا.
ولكن مهما كانت مشاعره نحو هذا المصطلح، ونحو هذا التاريخ، فإني أقول له:
نعم نحن ناطقون (بالتجرايت) ولكن في إطار قبائل (البجة).
ونعم نحن قبيلة (البلين) ولكن ضمن قبائل (البجة) ناطقون بالبلينايت.
ونعم نحن قبيلة (نارا) ولكن في كيان البجة العام، ناطقون بالباريايت.
ونعم نحن كوناما، ولكن في صلب جماعة (البجة) ناطقون بالكنامايت.
ونعم نحن رشايدة، ولكن في أرض (البجة) وفي تحالف مصيري، مع البجة، ناطقون بالعربية العدنانية.
ونعم لنا أكثر من لغة بجاوية، ولكن نحن على وفاق تام، ووئام كامل، مع اللغة العربية، نراها جزءا منا، ثقافة، وحضارة، وتاريخا، وعقيدة، نعتز بها، ونعتني، جنبا إلى جنب مع سائر لغات البجة.
ونعم نحن مسلمون، ومسيحيون، ووثنيون، ولكن في تآلف مجتمعي، لا تناكر فيه، وفي حوار ديني لا إكراه فيه، وفي تجاور سكني، لا تدابر فيه، وفي أمان لا إرهاب فيه.
ونؤمن جميعنا بوحدة مصيرنا المشترك، ضمن وحدة إرتريا، بحدودها الجغرافية الموروثة عن المستعمر، وضمن وحدة السودان، أرضا وشعبا.
ونعمل في ازدهار كلا البلدين، واستقرارهما، وتكاملهما، ثقافيا، واقتصاديا، على أساس من العدالة الشاملة، والحقيقية، في توزيع السلطة والثروة.
ونتطلع إلى كونفدرالية تجعل من السودان، وإرتريا، وإثيوبيا، وجيبوتي، والصومال، كيانا متكاملا.