المهاجر الحضرمي بين أرض المهجر وأرض الآباء والأجداد الشيخ سالم عبيد باحبيشي
بقلم الدكتور: مسعود عمشوش المصدر: مـهـارات
منذ أقدم العصور ظل الإنسان الحضرمي يعشق السفر والترحال. وأينما اتجه أخذ معه قيمه وعاداته الثقافية
والإنسانية العريقة التي مكنته من النجاح في التعامل مع الآخرين وكسب ثقتهم واحترامهم، وهذا ما مكنه من الإسهام في نشر الإسلام في بقاع كثيرة من العالم، ومن تكوين ثروات ضخمة استطاع بواسطتها المشاركة في تنمية وطنه والبلاد التي هاجر إليها.
وهناك كثير من الأسماء التي نجدها لمغتربين يمنيين استطاعوا بفضل نجاحهم الباهر أن يتركوا بصماتهم في كل أرض نزلوا بها، وأصبحوا رموزاً هناك وفي وطنهم. فمن منا لم يسمع عن ابن محفوظ أو بقشان أو العمودي أو الكاف؟
وإيمانا منا بضرورة الانتقال من الحديث العام عن تاريخ الهجرة الحضرمية ودور المغتربين في التنمية إلى تسليط الضوء على بعض النماذج البارزة من المهاجرين اليمنيين الذين جسدوا نجاح المغترب اليمني في خدمة بلاد المهجر ووطنه اخترنا في هذه الدراسة التركيز على دور الحاج سالم عبيد باحبيشي في الإسهام في التنمية الاستثمارية والخيرية في كل من أثيوبيا (وتحديدا أسمرة التي أصبحت عاصمة لدولة ارتريا) ومصر، وحضرموت.
في كتابه (المستوطنات العربية في الأرخبيل الهندي) يذكر فان دن بيرخ ”أن غالبية المهاجرين في جميع المستعمرات العربية يأتون من منطقة واحدة في وادي حضرموت تمتد من شبام غربا إلى تريم شرقا. بينما يحبذ سكان وادي دوعن الذهاب إلى مستعمرات عدن وجيبوتي وسواكن والقرن الإفريقي أو القاهرة“.
فمنذ منتصف القرن التاسع عشر شهدت مناطق القرن الإفريقي هجرات يمنية واسعة، لاسيما من حضرموت وعدن وتعز وزبيد. وقد ”كوّن بعض المهاجرين الجدد نفوذاً تجارياً لهم في بعض مدن وموانئ ارتيريا وجيبوتي والصومال وخاصة في زيلع وبربرا وأسمره وكسمايو ومصوع، واشتغل البعض الآخر بأعمال عضلية في تلك الموانئ أو على ظهر السفن التجارية بين الساحل الآسيوي والساحل الأفريقي للبحر الأحمر.
وظل الكثير من المهاجرين الجدد على صلة بوطنهم الأم، عكس الذين سبقوهم في الهجرة في القرون الثلاثة السابقة لبداية القرن العشرين، فقد اندمج السابقون في مجتمعهم الأفريقي وذابوا فيه كما هو حال الذين هاجروا إلى بلاد الحبشة في التاريخ القديم“. (أ. د. صالح علي باصرة: الهجرة اليمنية إلى شرق أفريقيا حتى منتصف القرن العشرين).
ومن أبرز الحضارم الذين سافروا في مطلع القرن العشرين من منطقة حوفة في دوعن واستقروا في أسمرة: الشيخ عبيد باحبيشي، الذي أصبح هو والشيخ محمد باخشب والشيخ سعيد عبدالله العمودي والشيخ حسن بامشموس من أكبر التجار في الحبشة. وحينما توفي عام 1930 خلفه في إدارة أعماله التجارية والخيرية أبناؤه (الأربعة) محمد و احمد و سالم... وجميعهم من مواليد أسمرة.
في عام 1943 قام سالم عبيد باحبيشي وإخوانه ببناء وتوسيع جامع أسمرة وجناحيه، ودار الكتب العلمية ومسكن الطلاب الملحقين به، وكذلك المعهد الديني الإسلامي الذي أفتتح رسميا في عام 1944. كما أوقفوا أرضا للمقبرة الإسلامية هناك وأسسوا مدرسة بالقرب منها.
وقد انتخب الأخ الأكبر احمد عبيد باحبيشي عام 1951 رئيسا للجالية العربية في أرتيريا كلها. وبعد وفاته في اكتوبر 1959 أشرف الحاج سالم على أعمال (مجموعة سالم عبيد باحبيشي وشركاؤه) التجارية والخيرية. وقد قامت المجموعة مع أنجال سعيد عبدالله العمودي بترميم جامع الخلفاء في أسمراء في عام 1967.
ومن المعلوم أن الارتيريين من ذوي الأصول الحضرمية قد ساهموا - مثل غيرهم من العرب والمسلمين في الصومال واثيوبيا - في حركة التحرر الوطني المحلية في البلدين ضد الاستعمار الايطالي والفرنسي والانجليزي، قبيل وبعد الحرب العالمية الثانية. و”لكن الجزاء لم يكن من نوع العمل، بل كان مغايراً لمعنى الوفاء، وخاصة في زمن الحرب، وبعد ظهور الدول الوطنية في بلدان القرن الأفريقي.
فقد واجه العرب عامة والمسلمون خاصة، بعض الاضطهاد من قبل السكان المحليين بمن فيهم المسلمون، وشمل هذا الاضطهاد في بعض المناطق منع الهجرة وإيقاف التحويلات النقدية وتقليص فرص العمل أمام المهاجرين. واندمج البعض في مجتمعاتهم الجديدة وغادر البعض الآخر بلد الاغتراب وعادوا إلى وطنهم الأصلي اليمن.
وقد زادت الهجرات اليمنية المعاكسة في عهد النظام الاشتراكي لسياد بري في الصومال والعهد الماركسي لحكم منجستو هيلا ماريام في اثيوبيا. وعانى المهاجرون الجنوبيون الأمرين بسبب جحيم الاشتراكية في وطنهم الأصلي وجحيم الاشتراكية في بلدان اغتراباهم. ومع هذا عاد بعضهم إلى وطنهم الأصلي حفاظاً على كرامتهم ولحماية أعراضهم، ونقل ما خف وزنه وغلا ثمنه من مدخرات العمر.
وجاءت الحرب الصومالية الأخيرة واضطراب الأوضاع في اثيوبيا بسبب حرب الاستقلال الارتيري لتلقي بظلالها الكئيبة على المهاجرين القدامى والجدد، بل أن بعض المهاجرين ممن لم يعد يجيد اللغة العربية أو يتذكر أصله سعى إلى مغادرة جحيم الحرب بالذهاب إلى اليمن. وفي اليمن سعى بعض هؤلاء إلى البحث عن أصولهم القديمة”.أ.د. صالح باصرة (الهجرة اليمنية إلى شرق أفريقيا حتى منتصف القرن العشرين).
وقد كان للحاج سالم عبيد باحبيشي مشاركات فاعلة في نضال أبناء الجالية العربية في اثيوبيا لنيل حقوقها. لاسيما تلك التي حدثت إثر إحراق طائرة الخطوط الأثيوبية في مطار مدينة فرانكفورت بألمانيا بعد إنزال جميع من كان فيها من الركاب وذلك في يوم الثلاثاء 11 مارس 1969. وقد نسبت الإذاعات العالمية حينها، ومنها صوت أمريكا، الحادثة إلى جبهة التحرير الإرتيرية، ونقلت على لسان الجبهة التهديد بالاستمرار في حرق أي طائرة أثيوبية يجدونها في مطارات العالم إلى أن تتحرر أرتيريا بالكامل من الحكم الأثيوبي.
وقد نسبت الصحافة الأثيوبية الحادثة إلى الحكومة السورية، وظلت تكرر هذا الاتهام وتنشر الدعايات المضادة لسوريا وجبهة التحرير الإرتيرية، رغم نفي الحكومة السورية أي علاقة لها بهذه الحادثة. وقد استغللت اثيوبيا هذه الحادثة فاستمرت في شن حملة دعائية ضخمة عبر وسائل إعلامها ضد سوريا، و ضد العرب الارتيريين ”الخارجين على القانون“، والعرب عموما مدة أسبوعين من الزمن، ثم قامت اثيوبيا بتدبير مظاهرة جمعت لها الأفواج من كافة المديريات الثمانية في ارتريا في 22 من مارس 1969 في مدينة أسمرة. للمطالبة بالانتقام من سوريا وطرد الارتيريين من ذوي الاصول العربية من أثيوبيا.
وفي صباح الجمعة 27 من مارس 1969 قام أبناء الجالية العربية من كافة المديريات الأرترية بمظاهرة في شوارع أسمرة، اتجهت إلى دار الحاكم العام حيث ألقى هناك الشيخ سالم عبيد باحبيشي كلمة باللغة العربية ترجمها إلى الأمهرية مدير مديرية ”أكلى غوزاي“ الأستاذ على حيقوا، ونشرت الصحافة أخبار هذه المظاهرة وكلمة الشيخ سالم ”مع زيادات لم يقلها“ هو، ثم أرسل أبناء الجالية العربية تلغرافات إلى عدة جهات منها: سكرتير الجامعة العربية بالقاهرة، سكرتير مؤتمر العالم الإسلامي بجدة، ملك المملكة العربية السعودية بالرياض، رئيس الجمهورية العربية اليمنية بصنعاء، ورئيس جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بعدن.
وقد نشرت جريدة (الوحدة) الحكومية نص التلغراف كاملا، وفيها استنكار للاعتداء السوري، وطلب من هذه الجهات المذكورة بمنع سوريا من ممارسة عدوانها ضد أثيوبيا باسم العرب والإسلام. ونتيجة لهذه الحملة المسعورة فقد سادت في البلاد أجواء معادية وخطيرة للجالية العربية، ولذلك أصدرت الجامعة العربية بيانا تحذر فيه أثيوبيا بأنه إذا حصل أي ضرر تجاه العرب في أثيوبيا فإنها لن تقف مكتوفة اليدين وسترد بالمثل.
وقد اضطرت الحكومة الأثيوبية عبر وزير استعلاماتها إلى التأكيد بأن العرب في أثيوبيا لن يصابوا بأي ضرر. وكانت الجالية العربية - تحسبا لما قد يحدث - قد جهزت حوالي 300 شخص من أفرادها الفقراء لإعادتهم إلى أرض الأجداد، وجمعت التبرعات لذلك الغرض، وقدمت أسماء هؤلاء الأشخاص إلى إدارة الجوازات الأثيوبية بأسمرة للسماح لهم بمغادرة أرتيريا، ولكن هذه الإدارة رفضت منحهم تأشيرات السفر خوفا مما قد يترتب على ذلك من ردود الفعل في الخارج ولاسيما في العالم العربي. ورغم مزاعم وزير الاستعلامات الأثيوبي تلك، فإن الدولة ظلت تضايق الجالية العربية وتبتزها بشتى الوسائل الممكنة.
ولما شعر الشيخ سالم عبيد باحبيشي بتغير الأحوال السياسية في اثيوبيا نقل جزءا من ثروته الى مصر واشترى فيلا في أحد أحياء القاهرة واستقر بها. وأسس بها أعمالا تجارية وعقارية. وعندما استولت الحكومة الشيوعية في الحبشة على أموال آل باحبيشي هناك مثل جميع المهاجرين الحضارم هناك، احتضنهم الشيخ سالم وساعدهم على الاستقرار عنده وفي بعض دول الخليج. كما واصل القيام بالأعمال الخيرية. حيث أنشأ عددا من مراكز العلاج الخيري في مصر والسودان وعدد من الدول الإفريقية وحضرموت. واشترى أرضا بالقاهرة وجعلها مقبرة لليمنيين يوافيهم الأجل هناك. وقد دفن رحمه الله في هذه المقبرة.
منذ مطلع الخمسينات بدأ الشيخ سالم عبيد باحبيشي في التردد على سيؤن وتزوج في حي القرن، وشيد له فيه بيتا جميلا (وفي الستينات شيد بيتا آخر وقد أممت تلك البيوت في عام 1968). و أنشأ فيه اأول محطة كهرباء بوادي حضرموت. وقد أحضر لها معدات حديثة وعالية الجودة واستقدم عدد من المهندسين الإيطاليين لتركيبها. وقرر صرف جميع الايرادات للكهرباء في الصدقة وأعمال الخير ولم يقبض فلسا واحدا الى جيبه الخاص.
وفي دوعن قام الشيخ سالم عبيد باحبيشي بتمويل مشروع نقل الماء من أعالي الجبال الى مسقط رأس والده (حوفة)، التي كان أهلها يمضون ساعات طويلة من أجل إحضار قربة واحده من الماء. وفي الجحي أسس مستشفى كبيرة تأخر افتتاحه بسبب بعض الاشكالات.
أما في مجال التعليم فقد أسهم الشيخ سالم عبيد باحبيشي في تشييد مدرسة القرن الأهلية. وأسس على نفقته الخاصة أول مدرسة بنات بسيئون. ومن الأخبار السارة التي أرسلها الصحفي علي الصبان من سيؤن إلى صحيفة (فتاة الجزيرة) في عام 196 خبر عن تبرع المحسن الشيخ سالم عبيد باحبيشي بمبلغ 40 ألف شلن لإعادة تعمير مسجد طه بسيؤن. كما قام باحبيشي بتمويل التعمير الأخير (بالحجر والأسمنت) لجامع تريم في حضرموت سنة 1976/1395.