بقلم المناضل الأستاذ: أحمد هبتيس - كاتب ارتري، ملبورن أستراليا

يا وطني يا راضي الأحرار،

كم فقدنا فيكِ من شبابنا المغوار،

دماءهم سالت تحت الأشجار،

فأنبتت قمحاً وفخار وأزهار،

عزيمةً على الصمود والإنتصار.

كما هو معلوم لدى الجميع أن فترة القيادة العامه كانت عامي (٢٦ شهراً) وقد مرت بأحداث كثيرة إنجازات واخفاقات بل وخلافاتُ وانشقاقات، وكما ذكرنا بدأت (البعثه الخارجية من مؤتمر عمان) ثم (ثورة المضادة) وفيما بعد صارت (قوات التحرير الشعبية)، ثم توسعت الخلافات إلي مجموعات (مجموعة افورقي) و (مجموعة عوبل) وجميعاً استمدوا القوة في الجانب العسكري من عناصر الذين كانت لهم إتصالات خفية مع مجموعة (البعثه الخارجية) قبل ظهور الانشقاقات، وقد ارسلت القيادة العامه وفد إلي كل الأطراف لفتح حوار معهم وللأسف لم يجدوا تجاوبا.

وعندما تأكد لهم عدم إستعداد المنشقين تفاهمت القيادة العامة فيما بينهم بعقد (مؤتمر عواتي العسكري)، لرسم خُطة عمل قبل دخول في المؤتمر الوطني العام، وبالفعل اتخذت خطوات لتسهيل مهام اللجنة التحضيرية لتحديد عضوية المؤتمر واجراء انتخابات من الجيش والجماهير، في مختلف الوحدات الإداريه والفروع الخارجية.

ولأول مرة تحدث مشاركة الجماهير بشكل رسمي، حضر وفد (حلحل) ضمن الوفود تم انتخابهم من خلال اجتماع جماهيري الكبير في (قبي لبو) للمشاركة في المؤتمر الوطني الأول لجبهة التحرير الارترية، اختير ثلاثة اشخاص من حلحل هم (العم عثمان نافع)، و(الخال قربل عجيل)، و(عمنا ابوبكر يونس) رحمة الله عليهم أجمعين.

هذه كانت أول خطوه نحو تأسيس المنظمات الجماهيرية الطبقية منها والفئوية، تحركت الوفود إلي موقع المؤتمر ووصلت بصعوبة لبُعّد المسافة وعراقيل العدو في الطريق، انعقد المؤتمر في أجواء يسودها الأمل والحراك العام للعودة والجلوس معاً، ولقد ناقش المؤتمر جميع التقارير وطلع بمخرجات جيدة وقيادة جديده، لمواكبة المرحلة المقبلة التي ألقيت على عاتقهم ولاسيما التواصل مع الثورة (المضادة) لإيجاد حلول بأي شكل من الأشكال ولكن لا حياة لمن تنادي.

وبالتالي اصبح الخيار الوحيد التصفية، وهكذا انتهت مرحلة القيادة العامه وسلمت المسؤوليه للقيادة الجديدة المجلس الثوري، يتكون من ٣٤ عضواً بقيادة الشيخ إدريس محمد ادم رئيس جبهة التحرير الارتريه.

(توضيح مهم): في تلك المرحلة قبل أن ننتقل إلي مراحل أخرى حتى لا تختلط الأوراق على القارئ، وليس تحليلاً ولا استنتاجاً ولا انحياداً، هذا كان الواقع المُعاش في تلك الفترة أن القيادة العامه عملت كل مافي وسعها برغم حدوث خلافات حتى في عضويتها، و تمرد بعض العناصر ورفضهم الانصياع للأوامر.

أيضا عندما اُغتيل شخصين تمردوا عن خط الثورة وكانوا يرتادون على القنصلية الأثيوبية في كسلا، وتم استدعاءهم إلي الميدان للتحقيق معهم، ولكن حاولوا الفرار بل الانتقام من رجال الأمن الذين رافقوهم إلي الميدان، و تم إغتيالهم، هنا جاءت تسمية القيادة العامه من قبل المنشقين مجموعة افورقي (عامه حراديت) بمعني القيادة العامه (ذباحه).. انظروا ماذا فعلوا اليوم اصحاب تلك المقولة ذبحوا كافة الناس بل كل الوطن... أين رفاق المجرم الذين وقفوا معه في كل المِحن بل صفوا إخوانهم وأصدقائهم لأجل أن يصل هو إلي ما وصل اليه اليوم؟ سأكتفي بهذا القدر عن مرحلة القيادة العامه.

أنا لم امضي فترة طويلة بعد المؤتمر الوطني الأول في البلد لقد ذهبت إلى السودان من ذاك الحين لم استقر في البلد ولكن بعد كل فترة وأخرى كنت أسجل زيارة لأرض الوطن لم ولن أنقطع عن متابعة أخبار البلد وأحوال الاهل.. مهما طال غيابي... مصيري أرجع لأهلي و أصحابي.

كما يقول المثل ليس من سمعَ كمن رأى، لقد طالت بنا الغربه (الخرطوم) ثم (القاهرة) ومنها إلى (ليبيا).

اخر زيارة للوطن من (ليبيا) قبل التحرير كانت في أكتوبر ١٩٧٨م بعد عودة العدو الأثيوبي إلى المدن الارترية التي كانت محررة من قبل الثورة، أتيت إلى (كسلا) قادماً من (الخرطوم) ونزلت في فندق أفريقيا فوق (محلات دبايوا) وفي اليوم التالي ذهبت إلى مكتب جبهة التحرير وسلمتُ الرساله التي كانت معي وطلبت منهم تصريح الدخول إلى ارتريا، لزيارة الأهل، اعطوني التصريح ولكن قالوا لِي (هذه الايام السيارات غير متوفرة بسبب اوضاع الأمنية فهناك صعوبة فاصبر يومين اوثلاثة أيام).

وفي اليوم الثالث ذهبت إلى (الجراش) مكان الذي تذهب منه السيارات إلى ارتريا، وقد قابلت هناك الشيخ (إدريس حامد سعد الله)، أتي لنفس الغرض ومعه (راكي فكاك) رحمة الله عليهم أجمعين، وعندما سلمت عليهم سألني الشيخ إدريس هل تعرف هذا الرجل، يقصد راكي فقلت له لا ثم التفت إلى راكي وانت تعرفه؟ فرد راكي قائلاً: يبدو أنه من آل هبتيس، فضحك الشيخ إدريس وعرّفني به وضحكنا جميعاً وتبادلنا أطراف الحديث، اللهم اجمعنا بهم في العليين.

الشيخ إدريس كان عنده كُتب أتي بها من الخرطوم ومن الجزيرة والمناضل أستاذ راكي فكاك جاء من الميدان، كان في مكتب الشؤون الاجتماعية في منطقة الإداريه رقم 5، وقد تأكدنا انه لم تأتي من ارتيريا سيارات، فنزلنا إلي السوق ووجدنا المناضل (جابر حامد دافله)، أتي لتوِّهِ من الميدان رحمة الله عليه وأعلمنا بالمعارك العنيفة بين جبهة التحرير وقوات التحرير وأنه لا ممر للسيارات، وأن الأفضل لنا استئجار جِمال فبحثنا على الجِمال فوجدناها، وايضاً صاحبنا في الرحلة الاخ (إسماعيل هنقلا)، وقالوا لنا أصحاب الجِمال تجهزوا للغد بعد الظهر للخروج إلي القريه وعلى هذا الأساس اليوم الثاني أنا في الصباح حاسبت الفندق وأخذت امتعتي ووضعتها في الدكان والجزء الذي لست بحاجة إليه وجواز السفر تركته في المربعات مع عمتي، ونحن في استعداد للخروج قالوا أصحاب الجِمال: الطواحين معطلة فلم نستطيع الخروج من غير دقيق، وبهذا السبب تأجل الخروج لليوم الثاني، وقررت المبيت تلك الليلة في (لَكُندة الشرق) لا أستطيع العودة ل(فندق أفريقيا) لعدم وجود جوازي معي ونزلت في (لكندة الشرق) بالبطاقه الارترية صادرة من مكتب الجبهة التحرير ليبيا، واعطوني غرفة وبيّت في اللكندة تلك الليلة وفي صباح الباكر عند خروجي من الحمام وجدت أمام غرفتي موظف الإستقبال اللكندة واقف فقال لي رجال الأمن في انتظارك تحت في الاستقبات ، فغيرت ملابسي ونزلت إليهم، ووجهوا إليَّ أسألة من أين أتيت والي أين أنت ذاهب ...إلخ من الأسألة، وأخذوا البطاقه والتصريح وقالوا لي نحن معنا (عجلات دراجات) وأنت اركب مواصلات (برنسي) و تعال في مكتب الجوازات، ووجدتهم واقفين أمام مكتب الجوازات، ودخلوني للتحري ووجهت إليّ نفس الأسأله، و آخر سؤال كان إلى اي منطقة انت ذاهب الآن فقلت لهم إلي منطقة رقم 4 في أي مكان في منطقة 4 قلت لهم (حلحل) فالضابط الذي يجلس إلي جانب المتحري معي سمع حلحل فتدخل قائلاً له معسكر المليشيا فقال لي خذ أوراقك واذهب وعند عودتك ائت الينا هنا ممكن نسمح لك بالعودة إلى الخرطوم وممكن لأ، وهكذا انتهى التحقيق معي وذهبت إلي أصحابي في السوق ووجدتهم في أهبة الإستعداد للخروج.

استأجرنا جملينِ أنا والاخ إسماعيل هنقلا كانت امتعتنا قليلة، ولكن الشيخ إدريس كان عنده كُتب وبعض الأمتعة، والحمد لله تحركنا ماشاء الله رحلة ممتعة مع الشيخ إدريس رحمة الله عليه والحديث معه ممزوج بالقديم والجديد من القصص والأحاديث وأحياناً ضحك ونُكات، لم يُحسسنا بطول الطريق ولا بمشقة السفر إلى ان وصلنا منطقة [فأنا] حيث يقيم الأخ إسماعيل هنقلا بعد انسحاب الثورة من [اغردات] وقد تركنا الكُتب هناك وطلعنا إلي حلحل انا والشيخ إدريس وغمرتني السعادة لما رأيت معسكر المليشيا في مركز العدو الأثيوبي سابقاً وعلم ارتريا يرفرف فوق الأرض التي ارتوت بدماء الشهداء البواسل، واستحضرني في هذا المقام قول الظابط السوداني عندما سمع مني حلحل قال معسكر المليشيا، أن هذا الكلام يدل ان السودانيين كانوا يعرفون كل شي في داخل ارتريا!

وقد امضيت ثلاث أسابيع زيارات الأهل والأقارب بين (قبي لبو) و (جنقرين) و(عنسبا) و(سراوا)

وحضرت في حلحل صلاة عيد الأضحى خطبة الشيخ إدريس سعد الله رحمة الله عليه ويجعلها في ميزان حسناته، ورجعت بنفس الطريق الذى أتينا به، ونحن في الطريق إلى السودان عندما وصلنا (انطيناق) شاهدنا من بعيد أن جيش العدو الأثيوبي وصل (عدردي) قادماً من (اغردات) لدخول (كرن) المدينة الوحيده التي كانت متبقيا في سيطرت الثورة من عودة إثيوبية للمدن، ومن (كسلا) أخذتُ أوراقي من البيت والي مكان إقامتي، بالسلام هكذا كانت رحلتي الأخيره لزيارة الأهل في عهد الاستعمار الأثيوبي.

والان نتطرق في حالة لم يسلط عليها الاضواء من قبل وهي مثيرةً للاستغراب !! عليها علامة استفهام كبيرة؟؟؟

(حلحل) واللجوء الرابع والاخيرة إبان الكفاح المسلح عام ١٩٨٨م، لغز لم نجد له تفسير، ولم نجد اسما مناسبا لهذة الكارثه، وهل كان القصد منها الترحيل؟ ام النفي؟ ام الابعاد؟ ام التهجير؟ إلخ من المسميات، يصعب أن نقول لجوء لأن شعبنا ذاق مرارة اللجوء بأنواعها المختلفة فلقد لجأنا إلي الجبال والي الغابات و إلي المدن و من المدينه إلي الريف فليس جديدا علينا اللجوء في حدود ارضنا ومناطقنا المعروفه.

ولكن هذه المرة اختلفت الحاله تماماً لقد صدر من قبل الشعبية انذار عاجل لجماهير المنطقة الإداريه رقم 4 عامة وحلحل بصفه خاصة بمغادرة البلد بأسرع وقت في خلال بضعة ساعات حسب زعمهم أن العدو قادم إليكم عما قريب، دون مراعاة أوضاع كبار السن والمرضى والناس ذوب الحاجات الخاصة، كانت تلك اللحظه بمثابة صدمة قاتلة حقاً قاتلة لم نسبق لها مثيل.

فاجأوا الناس بارتفاع أصوات المدافع فوق رؤوسهم لقد استخدمت الشعبية أسلحتعا الثقيلة على الهواء وأرهبوا الناس للإسف الشديد فخرج الناس من البيوت دون ان تدري ماذا تفعل والي أين تذهب؟و منعوهم الهروب إلي ملاجئهم القديمه لأن الشعبية وجهوا القصف إلي الجبال التي كانوا يلجأون إليها الشعب (يا أيها القاري هنا شد انتباهكَ معي فتخيل هذه السطور).

كانت لحظة الوداع مؤلمة اثناء مغادرة الديار، تاركين خلفهم جميع مدَّخَراتهم: انتاجهم الزراعي (الفول والذرة والشعير وغير ذالك) من محاصيل الزراعة وأشياء ثمينة وممتلكات أخرى وعندما وصلوا الي أطراف مناطقهم الأصليه البعض منهم التفتوا إلي الخلف وألقوا نظرات الأخيره إلي الأرض التي احبوها واحبتهم ، وهم على يقين بأن هذه الرحلة لا عودة منها، وانهمرت دموع الفراق والشعور بالعجز ، فذهب كل الشعب الي مصير مجهول، ومن تلك اللحظات بدأت الوفيات، واحدة تلو الأخرى أعمامنا وعماتنا واخواننا واصدقائنا، سقطوا على الأرض من لحظة مغادرتهم بيوتهم إلي طول الطريق، توفي عدد كبير إثر الفجعة بعض الأسر بكاملها ومجاميع وأفراد، في الطرقات إلي حين وصولهم إلي الحدود السودانية،

لقد وصلوا و معنوياتهم مهبطة و نفوس منهارة بعد ان دفنوا جثامين أسرهم واصحابهم، في الطرقات في (سبر)، (فأنا)، (اغردات) وغيرها من مناطق العبور، وبعض الناس هربت إلي الجبال بعيداً عن المنطقة (جبل دبر سأله) و (اروتا) وغيرها من الجبال الشاحقة، وبعض الناس دخلوا إلي المدن (كرن) (حقات) (اغردات) هكذا توزعت الناس في جميع معسكرات اللاجئين ومعظم الذين وصلوا في تلك الفترة تم استقبالهم في معسكر (ود شريفي) يا لها من رحلة بل هي كانت ترحيل وأخيراً اتضح ان جيش العدو الأثيوبي لم يأتي في المنطقة (المعّنِية) الاَّ بعد فترة طويلة ولكن الشعبية أعطوا لصالحهم مساحة زمن لترحيل ما يمكن ترحيله.

وهناك أكثر من مؤشر من عام ١٩٧٧ في (كرن) و (حقات) (وحلحل) وغيرها في مواقع مختلفه ولكن لكل حدثً حديث، وايضاً هناك عدة أسئلة تطرح نفسها و لم نملك لها الإجابة، و من الناس نسمع حكاوي بشكل واخر عن تلك الواقعة، وأنا اكتفي بهذا القدر و معلوماتي تُعتبر قليلة جدا لحجم المسألة.

وماخفي أعظم كما يقولون...
وفي الختام لكم مني ألف تحية

• التالي