المربي محمد حامد حمد هداد آل ركا - رحمه الله
بقلم الأستاذ: حسين رمضان
"من الناس من هو مفاتيح للخير ومغاليق للشر" فبعد موت الإنسان وبلى الأجساد تبقى فضائل
الأعمال شاهدة ودالة على صاحبها ومنها فضيلة العلم والتعليم والفرق بين العلم والجهل كالفرق بين النور والظلام. وبُعد المشرق عن المغرب.. والثرى والثريا.. وفي ذلك قال الله تعالى "شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير".
"أفضل الصدقة أن يتعلم المرء المسلم علماً نافعاً ثم يعلمه أخاه المسلم". ورسول الله رغم الاصطفاء الإلهي له فإن عباداته تنقطع بموته ولكن العلم الذي بلغه وورثه للناس يستمر الأجر له "كصدقة جارية" إلى أن تقوم الساعة فهكذا هو العلم الذي لا ينقطع أجره بموت المخلوق. فهنيئاً لك أيها المعلم هذا الفضل العظيم وأي فضل أعظم من هذا لقوم يعقلون.. ومن تذرع بسلاح العلم فقد تبوأ أعلى المناصب وتزين صدره بأرفع الأوسمة ودوّن اسمه بمداد من نور في سجل الخالدين عبر التاريخ فعندما يُذكر يُشكر وعندما يغيب يُفتقد ومن ثمّ تتناقل الأجيال سيرته الحسنة فيصعد له في كل ذكرى عمل صالح عند الله.
الحديث في هذه الخاطرة عن نجم كان يتلألأ في الأفاق لا يخبو له شعاع وهو من حقل رجالات التربية والتعليم ومن الرعيل الأوائل في أرتريا ألا وهو المعلم والمربي الكبير بحجم الوطن الأستاذ محمد حامد حمد هداد آل ركا، وهو من مواليد عام 1932م ومسقط رأسه "جانتكا" وأصل أسرته من "بركنتيا" وهذا الأستاذ الجليل فاح عطره وفاض ثناؤه وعمّ خيره محافظات وقرى كثيرة في الوطن الكبير "أرتريا" فهو ينحدر من أسرة مباركة طيبة الأثر ويُشهد لها بالتقوى والصلاح وترعرع في كنف والديه حتى شب عن الطوق وشق طريقه وسط ظلمات الجهل المطبقة في عصره بحثا عن العلم وفي وقت مبكر من عمره بالرغم من قلة فرص التعليم وغلبة الجهل في زمانه سيما الريف والقرى وكان التعليم حصراً في المدن الكبيرة..
مؤهلاته وجانب من بصماته في مجتمعه ووطنه:
تخرج من مدرسة قرقيس ثم تلقى الكثير من الدورات التدريبية والتأهيلية فحصل على عدد من الدبلومات خاصة في مجال التربية والتعليم فتم تعيينه في عام 1947م مدرساً في مدرسة بركنتيا، وبعد فترة ليست بالقصيرة نُقل إلى قرية منصورة ثم عدردي ثم حلحل حتى استقر به الترحال إلى مدينة كرن.
ومن مميزاته كان يجيد التحدث بعدة لغات مثل (البلين، التقري، التقرنية، الأمهرية، والعربية، والإيطالية، والإنجليزية) ومن روعته يجذب محدثه وعباراته دائماً منتقاة وسلسة فلا يمله جلسه أبداً مهما أطال وأسهب في الحديث لأن له حلاوة وطراوة وله ملكة لربط الأفكار وترتيبها قبل أن يتحدث بها.
الأستاذ محمد حامد من خيرة المعلمين الأرتريين ويمتاز بالقوة والجرأة ولا يخشى إلا الله كما كان ذكي فطن وربما أستطيع أن أقول عنه عبقري وله كثير من المواهب التي تميزه عن غيره خاصة في المخاطبة والبديهية السريعة وله قدرة فائقة في الاستدراك واسلوبه لطيف وصادق ولا يداهن مهما كان الأمر بمكان من الخطورة.
ومن المواقف النبيلة التي تذكر عن الأستاذ محمد حامد أنه تصدى بقوة للقرار الظالم الذي صدر في عام 1964م بحق المعلمين الارتريين في المديريات الغربية في ارتريا من مكتب مصلحة المعارف الإثيوبية لحصر من تحول حولهم الشبهات في دعم الثوار وأن ينفوا بعيداً من بلادهم إلى الأقاليم الإثيوبية حتى يحولوا بينهم وبين ثورتهم وكانوا يسمونهم في حينها "الخارجين عن القانون" ومن ضمن هؤلاء المعلمين أخيه يوسف حامد وابن عمه الأستاذ عبدالرحيم خليفة محمود وآخرون غيرهم حيث بلغ عددهم 54 معلماً تقريباً وهم من أفضل النخب العلمية في ذلك الوقت، وجمعوهم من مناطق مختلفة من مدارس المديرية الغربية مثل "أديبره، قرورة، كرن، هبرو، نقفه، تسني، منصورة"، وغيرها من المدن.
والملتقى كان في مكتب إدارة التربية والتعليم في اسمرا حسب التوجيهات وهناك كانت أخبار وارهاسات متداولة بين الناس منهم من يقول سوف يسجنون والبعض يقول سوف ينفون بعيداً عن بلادهم وآخرون يقولون سيقتلون.. الخ وقد وقع قرار نقلهم إلى الأقاليم الأثيوبية كالصاعقة على نفوسهم لأنهم سوف يُبعدون عن وطنهم وأولادهم وذويهم . وبفضل الله تم تأخير تنفيذ القرار بحجة عدم وجود طائرات تنقلهم إلى أديس أبابا نظراً للحروب التي كانت مستعرة في الجبهات الجنوبية من البلاد حيث تسببت في وقف حركة الطيران وكما يقال ولعل في كل تأخيرة خيرة وأيضاً من الأمور التي ساعدت على تأخير السفر إن وزارة التربية والتعليم في أثيوبيا لم تستطيع أن توفر نفس هذا العدد من المعلمين المؤهلين والمدربين من الأثيوبيين في وقت قياسي كبديل لهؤلاء المعلمين الأرتريين ليحلوا محلهم في المديرية الغربية في ارتريا.
ونظراً لإلغاء القرار السابق بنقل المعلمين إلى اثيوبيا صدر مكانه قرار آخر في 1965م من نفس الوزارة بتحويل المعلمين الأرتريين إلى مديريات المرتفعات الارترية بدلاً من الأقاليم الأثيوبية وهذا يعتبر فرج في حد ذاته لهؤلاء المعلمين حيث سيبقون في بلادهم على الأقل ثم كانت عقبة أخرى تواجه تطبيق هذا القرار ألا وهي إن هؤلاء المعلمين يحتاجون إلى تأهيل والالتحاق بدورات تدريبية مكثفة لإجادة اللغة الأمهرية و الإنجليزية في كلية المعلمين وقد تمت الموافقة على التحاقهم بالدورات التأهيلية لمدة عام كامل في اسمرا وبعد إكمالهم الدورات المطلوبة طالب المعلمون الجهات المختصة بالعدول عن قرارهم وإعادتهم إلى مدارسهم السابقة ولكن رُفض طلبهم وتم توزيعهم في محافظات المرتفعات فتم توجيه الأستاذ محمد حامد حمد إلى مدرسة "زاقر" في حماسين وابن عمه الأستاذ عبدالرحيم إلى سراي "عدي منقونتي" وهكذا بقية زملائهم المعلمين إلى مناطق مختلفة في تلك المديريات.
وقد كانت تلاحق المباحث الاستعمارية الأستاذ محمد حامد بزعم إثارة الشغب والتمرد على سياسة الاستعمارالإثيوبي البغيض ومن ثم دعم ثورة التحرير الإرترية "جبهة التحرير الإرترية" فتم سجنه أكثر من مرة واطلقوا سراحه أيضاً أكثر من مرة ولكن عين المباحث لم يغمد لها جفن فكان تحت الأنظار والمراقبة المستمرة.
ومن الواقف النبيلة التي تذكر عنه أيضاً أن الحكومة الأثيوبية كانت تتهم كرن بأنها معقل الثوار ومنها ينطلقون ويتمولون فهي الأرضية والحماية للثورة ولذلك كثيرا ً ما كانوا يخافون ويهابون سكانها وصدقوا في ذلك وفي إحدى المرات أرسلوا وفد كبير إلى مدينة كرن جاء رأساً من أديس أبابا ويتكون من رتب عسكرية كبيرة وسياسيين واداريين وفي تلك الفترة كان الثوار محاصرين مدينة كرن من جميع الجهات وبعد انتهاء الوفد من حديثهم في اللقاء الجماهيري الحاشد وقف الأستاذ محمد حامد متحدثاً فأول ما قال لهم إننا لم نسمع بحكومة تتوعد شعب بالانتقام والذي نعرفه أن الحكومة تحمي الشعب وتساعده وتحافظ على أمنه وسلامته أما الذي نسمعه منكم الآن هو غير مألوف وأن جيشكم الأن في وسط كرن في سكانته وحصونه والأصل أن يخرج إلى الثوار ويواجههم خارج المدينة حتى لا يتأذى الأبرياء من الشعب فليس من الحكمة والعقل أن يتحصن ويتخندق الجيش في وسط المدينة ويعرض حياة الشعب للموت وممتلكاته للتلف فقال لهم بالحرف الواحد إذا لم تغيروا سياستكم نحو الشعب فسوف يهزم جيشكم ويولون الدبر ويكون مصيرهم بين أسير وقتيل وهارب وفعلاً بعد دخول الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا كرن تعرض الجيش الاثيوبي لنفس المصير الذي توقعه الأستاذ محمد حامد وفي خلال ثلاثة أيام فقط تحررت المدينة من جحافل الجيش الأثيوبي وآلياته وهم في وضع لا يحسدون عليه.
ومن المواقف.. ونتيجة لشجاعته ومواجهته للحكومة الإثيوبية في تصرفاتها العشوائية وانتقاده لسياستها العنجهية تم اعتقاله وبرفقته مسؤول هيئة المياه في مدينة كرن (تسفا مكئيل) وهو ابن أخ مدير مديرية كرن السابق (أباي هبتي) فأخذوهم إلى رئاسة الجيش الأثيوبي "الفرقة الثالثة" في شيشتا "كرن لعالاي" ولم يُعرف مكانهم بعد اعتقلوهم والناس في قلق شديد ومن يعتقل في ذلك الوقت كان مصيره الموت ولن يخرج بسلام ولكن يبدو أن الأستاذ محمد حامد بجرأته وثقته بنفسه وحسن ظنه بالله وتوكله عليه كان سبباً في اطلاق سراحه وزميله بعد عدة أشهر من اعتقالهم وأول ما يقتل الإنسان هو الجبن والتردد والخوف الزائد مهما كان على حق.
ومن المواقف أيضاً.. وأثناء فترة الاستعمار الإثيوبي كانت كرن جغرافياً مقسمة إلى لجان شعبية تسمى "قبلي" فتم تعيين الأستاذ محمد حامد رئيس كل القبليتات في المدينة فمن نافلة القول كان يقول للحكومة أنتم لستم الحكام الحقيقيون وهذا التصريح كان يعرضه للإعتقال والسجن والتنكيل به وبالرغم من ذلك لم يفارق مدينته وكان يؤمن بعدم الخروج منها.
الأستاذ محمد حامد - رحمه الله - كان مثالاً يحتذى في التدريس والإدارة ويشهد له بذلك الجميع ممن عاصروه من زملائه وأصدقائه وأثبت جدارته في مجال عمله ثم طلب أن ينقل من "حماسين" الى أسمرا أو كرن فوافقوا على نقله إلى أسمراء، فدرس في مدرسة أكريا الاسلامية، فكان رائعاً في رسالته وأداء أمانته المهنية وبعد تحسن الأحوال السياسية والاستقرار النسبي في البلاد عاد إلى مدينته كرن والتي كان يحبها ويعشقها كثيراً واستمر فيها حتى حررتها الجبهة الشعبية لتحرير أرتريا في عام 1977م.
وبعد التحرير ذهب إلى اسمرا وطالب أن يتقاعد ثم أحيل إلى المعاش فعاد إلى كرن ولكن الجبهة الشعبية لم تتركه وشأنه بعد كل تلك الجهود التي قدمها لوطنه وتخرج على يديه أجيال كثيرة متذرعة بسلاح العلم والمعرفة والتربية، وكان - رحمه الله - حقانياً ولا يسكت عن قول الحق ومن مواقفه الجريئة التي كانت تحرج كثيراً الجبهة الشعبية انتقاده لإدارتهم البلاد بطريقة غير نظامية وأيضاً سوء معاملتهم للمواطنين ونتيجة لذلك تم سجنه مع ابن عمه الأستاذ بشير خليفة محمود، ثم أرادوا ان يطلقوا سراحهم بدون أي اعتذار لهم، فرفض الاستاذ محمد حامد المثول أمام محاكمهم قائلاً أنه لن يبرح السجن حتى يخبروه أسباب سجنه وأخيه فأعادوهم إلى السجن تارة أخرى إلى أن جاء الاعتذار من الجهات المسؤولة فأطلقوا سراحهم.
يقول عنه ابن عمه الأستاذ ورفيقه دربه الأستاذ عبد الرحيم خليفة محمود
"المعلم أساس المجتمع ومربي الأجيال" تعلمت من ابن عمي الأستاذ محمد حامد أن للنجاح قيمة ومعنى وللتفاني والإخلاص في العمل ثمرة. فلك مني كل الثناء والتقدير، بعدد قطرات المطر، وألوان الزهر، وشذى العطر، على الجهود الثمينة والقيمة، التي بذلتها من أجل إسعادي بل كنت سببا في ارتقائي في مسيرة حياتي، وضعت وسام الأخلاق الحسنة والصفات الحميدة على صدري ولك جزيل الشكر و مهما قلت فلن أوفيك حقك الكبير علي ومهما أبعدتك المنية سيظل حبك ساكناً في قلبي ممسكاً بكل مشاعري.
لقد عشت للعلم والتعليم فلم تقصر على إيصال المعرفة إلى ذهني، وفي وقت مبكر من عمري إنك عمود بناء التعليم الأساسي الناجح وأنت الوالد والمربي والمعلم وأنا كنت بالقرب منك منذ انتقلت من مدرسة بركنتيا إلى كرن فكان لتوجيهاتك ومتابعاتك وإرشادك تأثير كبير في تحصيلي العلمي ليس هذا فحسب بل في جميع مراحل التعليم من المرحلة المتوسطة ومروراً بالثانوية وحتى الجامعة ثم التخرج من كلية المعلمين فأصبحت معلماً مثلك، فأنت المثال والقدوة الأروع فاستقريت في فكري ومخيلتي، استاذي الفاضل روحك المرحة وصفاء قلبك وعطاؤك القيّم وتبسمك في وجه الآخرين، هو عنوان إبداعك. فأنت والد ومعلم للجميع وفي زمانك الزاهر لا يمكن أن ينازعك أحد في القيادة كمربي ومرشد، كنت واضحاً في كل شيء فالوضوح هو فضيلة المعلم. علمتني كيف أتعلم من الآخرين، لأحيا حياة طيبة. فحتى الملوك قد تمنوا مهنتك، وفي المثل؛ "لو لم أكن ملكاً لكنت معلماً". نعم للنجاحات أناس يقدرون معناه، وللإبداع أناس يحصدونه، لذا أقدر جهودك المضنية، فأنت أهل للشكر والتقدير فلك مني كل الثناء".
وكثيراً ما كان يتردد على السودان في كسلا ليطمئن على أفراد أسرته الذين استقروا فيها بعد خروجهم من كرن إبان فترة الحروب ولكن لم يطول المقام به في كسلا حيث عاوده الحنين إلى بلاده وشعبه فآثر العودة وعاش في مدينته ومحبوبته كرن حتى جاء أجل الله وتوفي إلى رحمة الله بعد تحرير ارتريا في القرن الماضي بعد صولات وجولات في ميادين التربية والتعليم والإدارة ومواجهة الحكام الأثيوبيين وغيرهم. وقد قدم الكثير لشعبه ووطنه رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.