خاطرة هو وفاء الأحياء للأموات وفاء طاهر بلا مصالح لا يسمعه إلا الله
بقلم الأستاذ: حسين رمضان
وفاء لأناس تحت التراب لا نراهم ولا يروننا.. هم سبقونا إلى أول منازل الآخرة... غادرونا خفافاً ولم يقولوا وداعاً...
لم يغلقوا الباب خلفهم.. لم يأخذوا معهم شيئاً من متاع الحياة الدنيا حتى أسماءهم تركوها لنا... بل تركوا أثراً في أصواتنا... وجروحاً تقاوم الألم في قلوبنا.. بين الحنين والأنين.. فمن البر بهم والوفاء أن نذكرهم ولو بدعوة.. لعل وعسى أن تقبل من قلب تقي نقي فهي خير زاد لهم في بطون الألحاد اللهم ارحمهم وأنزل عليهم الضياء والنور والفسحة والسرور... آمين
نتحدث اليوم عن رجل عملاق في مجاله عظيم في عطائه فذ في بذله مقدام في عمله رجل ومعلم ومربي لا تخطئه العيون ولا يظن به الظنون إنسان في مواقفه وفهيم في تخصصه لم يكن فارس في ميدان التعليم فحسب بل له سجلات حافلة في ميادين الإدارة والشؤون الاجتماعية والإنسانية وصدق الله في عطائه فما تلك الأشبال إلا من ذلك الأسد فقد ورثهم علماً نافعاً وعملاً إدارياً صالحاً فأتى أكله وحسن عقبيه، ذلك المعلم الهميم نحسبه من نوادر أترابه وفريد عصره لأنه جاد في وقت عزّ فيه طلب العلم، رجل ذاع صيته في المنخفضات والمرتفعات بل الوطن كله فهو كالغيث أينما هطل يأتي بخير فأخرج لنا أجيالاً هنا وهناك وقد تسلحوا بنور العلم والمعرفة فكانوا مشاعل علم ومبصرين ومستبصرين فأضحوا خير خلف لخير سلف وهكذا كما ورثوا الأنبياء العلم فأستاذنا هو ذلك الشعلة الوقادة التي استنار بعلمها خلق كثير ولم يخبو أوارها مع تقادم الأيام والسنون بل إزدادت اشعاعاً واتقاداً وبصيرة وإبصار، هو المعلم الجليل والمربي الكبير الأستاذ بشير خليفة محمود حمد هداد آل ركا. وهو من مواليد 1928م فهو "بركنتياوي" الأصل "جانتكاوي" الميلاد إرتري العطاء والبذل وتربى في بيت ملؤها حكمة وعز وشرف رفيع فاستقى من منهله العذب العلم والأدب والمعرفة فشق طريقة في الحياة عصامياً فصار نوراً يستضاء به ونجماً يهتدى به وعالماً يقتدى به فاكرم به من رجل.
من إنجازاته العملية:
في عهد الانتداب البريطاني بعد أن استولت بريطانيا على مقاليد الحكم في البلاد من الاستعمار الإيطالي في عام 1940م أول ما بدأوا به هو تشجيع العلم والتعليم فتوسعوا في فتح مزيد من المدارس في شتى أنحاء البلاد ولتذليل عقبة نقص المدرسين احضروا معلمين من السودان والصومال بالإضافة الى تشجيع وتوظيف الارتريين الذين كان لهم قسط من العلم، بإعطائهم دورات مكثفة ثم يتم تعيينهم كمدرسين في المدارس الابتدائية. وكان هذا المربي الكبير ضمن تلك الكوكبة الاولى في سلك التعليم فتم تعيينه إبتداءً في مدرسة قلوج ثم انتقل منها الى مدينة كرن مديراً في عام 1948م الى أن ترقى الى نائب مفتش لمدارس المديرية الغربية وعندما انتقل الاستاذ المرحوم سعدالدين محمد مفتش التعليم لمدارس المديرية الغربية western Province تولى الاستاذ بشير الذي كان نائبا له ادارة المديرية ونجح في مهمته نجاحاً باهراً وهي تضم كل من كرن والساحل وبركا والقاش ثم أصبح مرشداً ومراقباً عاماً بمسمى "Inspector Beshir" فشهدت له المنطقة جولات وصولات في مجال التعليم والإدارة، وتوسعت خلال تلك الفترة مدارس المديرية إلى قرى نائية.
وفي عام 1955م وفي أثناء فترة غياب مدير مدرسة كرن الوسطى لأخذ دورة تأهيلية تم اختيار الشخصية الإدارة التي لا يعلو عليها الأستاذ بشير مديراً لمدرسة كرن الوسطى حتى يعود مديرها فقام بمهامه خير قيام.
في عام 1973م تم نقله الى مديرية "دقي محري" بقصد إبعاده عن منطقته وذلك لاتهامه بمساعدة الثوار "جبهة التحرير الإرترية". فقد ادهشت ادارته ومقدرته في تلك المديرية السكان واستفادوا كثيراً من أدائه التعليمي والإداري وأثنوا عليه كثيراً وهذا دليل يبرهن على الفجوة الثقافية والحضارية والعلمية التي كان يتميز بها سكان المرتفعات عن المنخفضات ولكن لم يحلو له الاستقرار في تلك المنطقة فطلب من إدارة التعليم التقاعد وذلك لظروفه العائلية حيث وجد مشقة في التواصل معهم وهو الذي لم يفارقها طيلة حياته إلا في تلك المرة، فعاد إلى كرن ثم بدأ يعمل في مجال تقديم الخدمات الخيرية والإنسانية والمجتمعية في القرى والأرياف في مديرية كرن، وكان موفقاً في ذلك حيث كان يقدم التوجيهات والاستشارات في مجال حفر الآبار والزراعة والرعي والاصلاح الاجتماعي خاصة إصلاح ذات البين.
ماذا قالوا عنه من عاصروه من رفقاء دربه:
يقول أخيه وتلميذه الأستاذ عبدالرحيم خليفة محمود في "لمسة وفاء": (أنه المعلم الكبير وخبير التربية والتعليم في عصره فيصعب أن يجود الزمان بمثله ويكفيني شرفاً أن أتحدث عن هذه الشخصية ولكن يقف فكري حائراً.. وقلمي عاجزاً.. عند البحث عن مفردات أو كلمات لأسطر أروع العبارات وأبلغ الجمل عن إنسـان عظيم.. ولا أبالغ إذا وصفته بأوصاف بليغة.. فهو أهل لذلك.. لأنه أخ ومربي وأكن له كل تقدير ومحبة واحترام بـل وإعجاب، فله الفضل الكبير بعد الله.. سبحانه وتعالى. على أبناء كرن وضواحيها في التربية والتعليم والإدارة وأنا أولهم، فهو لم يكن أستاذي فحسب بل إنه بمكانة الوالد فقد ضمني الى نفسه من بركنتيا حتى كرن و ذلك في عام 1950م وأنا في الصف الثاني ابتدائي حتى اكملت المتوسط، ثم انتقلت إلى أسمرا للمرحلة الثانوية حيث لم يكن في كرن مدرسة ثانوية في ذلك الوقت. وبعد التخرج تزوجت في بيته العامر في نهاية عام 1964م.
كان الأستاذ بشير،معلماً و إدارياً محنكاً وقوياً وحريصاً على أن يستزيد الطلاب من ضروب العلم المتعددة وأمتاز بالتفاني والإخلاص في عمله ولا تأخذه لومة لائم في إحقاق الحق، وكان من القلائل الذين كانت لهم لمسات وبصمات واضحة في التعليم وتشجيع الطلاب فكثيراً ما يفرح لنجاحهم وتفوقهم ويحزن لعثراتهم ويتابع التحصيل العلمي بشكل مستمر وأنا أحد ثمراته واستثماراته الحقيقية في مجال التعليم.. فكان نعم الأب و المعلم والمربي. يعشـق العلوم كلها بالإضافة الى مادته. يحب طلابـه بل يحـرص عليهم كأنهم أبناؤه الحقيقيون ومن شدة حرصه ومتابعته لهم داخل وخارج المدرسة فما أروع "أبو جمال".. وما أجمل وفاءه.. وما أكـرم عطــاءه وما أنبــل مشاعـره... في تلك الحقبة من الزمن..
فمهما قلت لن أستطـع أن أوفيه حقه غير الشكر والتقدير والثناء.. ومن حرصه للتدريس كان يتقاسم الحصص مع المعلمين رغم تحمله مهام الناظر لمدرسة كرن الابتدائية بنين.
فأقول له جزاك الله عنا كل خير، حيث رحلت عن دنيانا الفانية فجعل الله ما قدمت لنا في موازين حسناتك .. وأسأل الله العلي القدير.. أن يتغمدك بواسع رحمته.. وأقول مرة أخرى أستبيحك عذراً شقيقي وأستــاذي الوفي إن كنت قد قصرت معك.. فلا أملك لك إلا الدعاء.. وأنا أقف لك احتراماً وتقديراً لشخصك المعطاء)..
وقال عنه تلميذه وزميله في التدريس الأستاذ عيسى محمد سيد (الحديث عن الأستاذ الجليل الكريم المتواضع المحترم الكبير بعقله صعب جداً لأنه نادر من نوعه لمن يعرفه وله أيادي بيضاء على أسرته وكل أبناء منطقة كرن ووطنه وكان بار بوالديه يتعامل معهم بكل احترام وكلما دخل على والده يقبل يديه ورأسه ورجله ومن نافلة القول أن عائلة آل ركا التي ينتمي إليها نسباً، إن احترام وتوقير الكبير يجري في دمائهم فيُقبِلون يده ورأسه ومن أي قبيلة كان وهذه سمة وسجية تميزوا بها دون غيرهم فما أجمل هذه العلاقة الرابطة الجميلة بين الأباء والأبناء... وبالنسبة لي أنا عيسى محمد سيد فالخال بشير - رحمه لله - له فضل عظيم عليّ فهو سبب قبولي في مدرسة كرن الابتدائية وعمري حينها لا يتجاوز 6 سنوات وحسب نظام القبول للطالب المستجد يبدأ من عمر 7 سنوات فرغم اعتراض الإدارة قبلوني تجاوزاً بتوجيه منه، وبعد أن تخرجت عام 1967م من كلية المعلمين في اسمرا عدت إلى كرن للتدريس فوجدت الخال والأستاذ بشير في نفس المدرسة وهو في منصب نائب المدير الأٍستاذ سعد الدين محمد وبعد أن بدأت بالتدريس لمدة ثلاثة أشهر تمت الموافقة على انتدابي لمدرسة "هبرو" لوجود عجز في المدرسين ولمدة محددة 21 يوم فقط.. وبعد انتهاء المدة تمسكوا بي الطلاب والآباء في "هبرو" على الاستمرار معهم ولكن لم أقبل هذا الطلب فاشتكوني إلى ناظر المدرسة الأستاذ -عبدالله محمد علي - وهو بالإضافة إلى اشرافه على المدرسة كان عضواً في المحكمة العليا في أسمرا فحاول معي بشتى الطرق أن يثنيني عن رأي تارة بالتحفيز وأخرى بالتهديد فلم ارضخ له فاحضر موافقة مكتوبة من مدير الإدارة العليا في اسمرا واسمه "ود ودواندو كاشو" وهو أكبر رأس في إدارة التعليم فأصدر هذه بدوره الأوامر لمسؤول التعليم في كرن واسمه "أسواره كحسا" وهو أيضاً اتصل على الأستاذ سعد الدين ونائبه الأستاذ الخال بشير ليأمروني بالعودة إلى "هبرو" حسب التعليمات ولكن الخال الرؤوم الأستاذ بشير عندما رأي تمسكي بعدم العودة صعب عليه الموقف فذهب إلى صديق له دكتور في مستشفى كرن وطلب منه إعداد تقرير طبي بأسمي يذكر فيه إن حالتي الصحية لا تسمح بالعمل خارج مدينة كرن وتم رفع التقرير إلى الجهات المختصة في إدارة التعليم فوافقوا على بقائي في كرن ولولا هذا التقرير الطبي لتم فصلي من سلك التعليم في ذلك الوقت.
ومن المواقف التي أذكرها ولا تنسى للأستاذ بشير أثناء تحرير مدينة كرن كان القتال على أشده في ضواحي وأطراف المدينة والقذائف تصل إلى داخل كرن وبحكم موقع منزلي في وسط المدينة وبالقرب من الفورتا كان الوضع مخيف ومرعب وعلى ذلك أخرج الأستاذ بشير أولاده من المدينة حفاظاً على أرواحهم وطلب مني أن أُخرج أولادي أيضاً ولكن لم افعل فأتى بنفسه في اليوم التالي وأخرجهم والقذائف تتساقط من حوله وهو لم يبال فهذا اعتقد كان قمة المخاطرة والتضحية والفداء.. وكان كثيراً ما يؤثر على نفسه لأنه إنسان يحب الخير للناس أجمعين.. ولا يُعرف عنه التفرقة والعنصرية البتة يعتبرالكبار إخوانهم والصغار ابناءه..
وأيضاً من المواقف النبيلة كان كثير البر بوالديه خاصة والده لأن أمه توفيت وهو صغير جداً وكان رحيم وشفيق بإخوانه خاصة (هداد وخديجه) فنشأوا في حضنه وقام برعايتهم وتربيهم وتعليمهم حتى مراحل متقدمة، وكثيراً ما كان يلح على والده أن يأخذ معه إخوانه لتعليمهم ولكن والده كان يرفض أن يأخذهم جميعاً بحجة أنه يحتاج إليهم في خدمة البيت والزراعة ومن هؤلاء الخال عبدالرحمن وعبدالقادر ومحمد إبراهيم، وبالمقابل سمح له أن يأخذ الخال عبدالرحيم ومحمد علي ومحمد عثمان، وهؤلاء ولله الحمد أخذوا قسطاً وافراً من التعليم، فكان الأستاذ بشير لا يألوا جهداً في تقديم الدعم والنصح والتوجيه لأسرته الصغيرة و الكبيرة بل جيرانه وكل مواطنيه استفادوا من عطائه، فإذا ذكر بينهم يذكر الفضل والكرم والدعم العيني والمعنوي. وكان كثير البر بعمته "سعدية بركة" وقد لازمها كثيرا بل سكن معها في منزلها لكي يقوم بخدمتها على أكمل جه وفعلاً قام بكل الواجبات نحوها حتى توفيت - رحمها الله.
وبعد تحرير قوات الجبهة الشعبية مدينة كرن في نهاية السبعينات اعتقلوه مع أخيه الأستاذ محمد حامد حمد وأرسلوهم إلى سجن بليقات وبعد فترة اطلقوا سراحهم وعادوا إلى كرن سالمين معافين.. والأستاذ بشير لم يعجبه الوضع في كرن بعد ذلك فالتحق بأهله في كسلا بالسودان، وأثناء وجوده هناك أصابته وعكة صحية مرض "اليرقان " ولم يمهله كثيراً وفي صبيحة إحدى أيام عام 1986م أسلم روحه الطاهرة إلى باريها فخيم الحزن الشديد على أهله وذويه ومحبيه في كل من السودان وأرتريا وبقية أنحاء العالم وانطوت بذلك صفحة بيضاء من تأريخ رجل معطاء).
فمن حق الرجال الأفذاذ الذين سطروا بأنامل ذهبية تاريخ أمتهم وعلينا إن نعطر ذكراهم بأحسن ما كانوا يعملون فهذا من الوفاء لما قدموا وقاموا به من أعمال وأقوال رائعة وجليلة فمن حقهم علينا أيضاً أن نرفع أكف الضراعة وندعوا الله أن يجزيهم عنا خير الجزاء كما ورد في الحديث "وولد صالح يدعو له".. وأن يسكنهم فسيح جناته ويتغمدهم بواسع رحمته وكلنا يعلم أن الموت مكتوب على الجميع لا مفر منه (كل نفس ذائقة الموت) فهم السابقون ونحن اللاحقون.