المحامي الوطني محمد عمر قاضي

بقلم الأستاذ: محمد سعيد - كاتب ارتري

في تاريخ كل الشعوب هناك شخصيات ورموز تقوم بأدوار لا تنسى في كل حقل من حقول الحياة،

محمد عمر قاضي 5تظل هذه الشخصيات والرموز محفورة في وجدان ذاكرة شعوبها، فهي ليست كالشهاب الذي يظهر للحظات ثم يختفي للأبد، بل هم مثل النجوم الساطعة التي يهتدي بها السائرون ليلا في البحر عبر الدهور. وانطلاقا من قاعدة أن الشعوب لن تنسى رموزها وأبطالها بل تقوم بتخليدها وتوريث سيرها ومآثرها لأبنائها ثم لأحفادها، فإنني عبر هذه الحلقات سأسلط الأضواء على البعض من هذه الأسماء البارزة في حياتنا، وسأبدأ هذه الحلقات بالسيد/ محمد عمر قاضي المحامي.

كان محمد عمر قاضي متفاعلا مع عصره ومع زمانه وقضاياه الحقيقية، وقد كان نتاجاً لجيل عاش تحت الفاشية الإيطالية حيث التمييز اللوني والعنصري، ثم جاء الحكم البريطاني كاحتلال أجنبي، وفي الوقت ذاته بدأت تطل برأسها المطامع الإثيوبية التوسعية الهادفة لابتلاع إرتريا، كل ذلك جعل محمد عمر قاضي وجيله يتوقون للحرية التي حرموا منها وحرم منها من قبل آبائهم وأجدادهم، وكان ذلك هو الإطار الذي تحركت فيه هذه الشخصية.

ولد محمد عمر قاضي عام 1909 في حطملوا بسمهر، وكان والده يعمل بالتجارة بين السعودية ومصوع. كانت الدراسة الأولية للأستاذ قاضي في مصوع. درس حتى الصف الرابع حسبما كان يسمح به الإيطاليون آنذاك في سياستهم التعليمية بالنسبة لأي إرتري. انتقل بعد ذلك إلى أسمرا ليعيش مع خاله، والتحق بعمل في مصنع (كامنداتور كاراميلي) لتعليب الفواكه واللحوم بأسمرا، وقد بدأ كعامل بسيط بهذا المصنع وتدرج فيه حتى وصل إلى درجة المدير العام لذاك المصنع. ينتمي قاضي إلى ذلك الجيل العصامي الذي تحدى الحرمان من التعليم وذلك بالاعتماد على نفسه في رفع مستواه التعليمي. فقد بدأ دراسته أولا بالمراسلة، وبعدها التحق بالدراسة النظامية في الكنيسة الكاثوليكية ودرس بها القانون والإدارة. وكانت دراسته سواء كانت بالمراسلة أو الدراسة النظامية باللغة الإيطالية التي أجادها إجادة تامة بالإضافة إلى إجادته للغات العربية والتجرينية والتجري والأمهرية وقليلا من الإنجليزية، كما بدأ في ممارسة مهنة المحاماة.

علاقتي بالأستاذ محمد عمر قاضي:

للأسف لم أكن محظوظا للتعرف به أو اللقاء معه عكس أقرانه الذين لازموه في الحركة الوطنية الإرترية بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة إيطاليا. أما أقرانه فقد تعرفت وشاهدت الكثيرين منهم، بل لازمت بعضهم اتفاقا أو اختلافا. أما معرفتي بالأستاذ محمد عمر قاضي فقد كانت في مناسبتين لا يمكن نسيانهما وهما:-

1) كانت المناسبة الأولى في عام1957 عندما خرج محمد عمر قاضي للمرة الأولى من إرتريا، وتوقف بالسودان حيث عرض قضيته لبعض السياسيين والمثقفين السودانيين. وقدم لهم مذكرة بالتجاوزات الإثيوبية التي تتعارض مع روح ونصوص النظام الفيدرالي المقرر من قبل الأمم المتحدة بين إرتريا وإثيوبيا. وقد قام هؤلاء السودانيين بطباعة مذكرة الأستاذ قاضي في شكل كتيب.
وقد قمت بالاشتراك مع عدد من الإرتريين بمدينة بورتسودان بتوزيع ذلك الكتيب بعد إن اشتريت منه كمية وكان ثمنه زهيداً ووزعته مجاناً على معارفي وأصدقائي من السودانيين والإرتريين. كما قرأت ذلك الكتيب بتمعن حيث تفهمت من خلاله حقيقة الأوضاع السياسية في إرتريا. وكان ذلك قبل تأسيس (حركة تحرير إرتريا) بوقت قصير.

2) أما المناسبة الثانية فقد كانت أيضا في عام 1957 وبوقت قصير من المناسبة الأولى، فحسب برنامجي الذي كنت أنفذه بدقة قبل تأسيس حركة تحرير إرتريا بالذهاب إلى إرتريا والتجول في مختلف مدنها والتعرف على الشخصيات الوطنية، ودراسة الأوضاع السياسية في إرتريا من خلال تلك الشخصيات. أذكر آنذاك إنني كنت بالعاصمة أسمرا في تلك الجولات، ويوم ذاك كنت جالسا في أحد مقاهي شارع الحرية حاليا وكان يسمى آنذاك (شارع هيلا سيلاسي)، كنت جالسا مع الأخ عثمان هنتولاي أطال الله في عمره حيث كان موظفا حكوميا وفي وظيفة مرموقة وبينما كنت أتناقش معه حول الأوضاع السياسية في إرتريا فاجأني بنبأ قائلا: "اليوم عاد محمد عمر قاضي من الخارج بعد أن عرض قضية إرتريا على الأمم المتحدة، وتوجه رأسا إلى أديس أبابا دون أن ينزل بإرتريا وذلك لمقابلة الإمبراطور هيلا سيلاسي بناء على رغبة الإمبراطور". وقد فرحت لذلك النبأ، وبعده عدت إلى السودان وظللت أتابع أخباره من هناك، وإذا بآخر الأنباء كان صدمة عنيفة لي ولغيري من المتابعين الإرتريين عندما علمنا باعتقاله والحكم عليه بالسجن عشرة سنوات.

محمد عمر قاضي مقاتلا من أجل الحرية:

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية التي انتهت بهزيمة دول المحور الثلاثة (ألمانيا ـ إيطاليا ـ واليابان) نهض الشعب الإرتري معلنا عن تطلعاته المشروعة لنيل استقلاله الوطني. ولتحقيق هذه الغاية بادر وشرع في تكوين تنظيماته السياسية المعبرة عن أهدافه وتطلعاته، وضمن الرعيل الأول الذي تبنى وناضل من أجل هذه الأهداف كان الأستاذ محمد عمر قاضي. فقد كان ضمن المؤسسين لأول جمعية يقوم الإرتريون بتكوينها وهي (جمعية حب الوطن) أي (محبر فقري هقر) بالتجرينية. وكان تأسيسها بتاريخ 2مايو 1943م، وهذه الجمعية كانت تضم الإرتريين بمختلف طرائقهم الدينية. وقد تعاهد المؤسسون للجمعية وكان عددهم (12) شخصا، تعاهدوا فيما بينهم للعمل معا في خدمة قضايا الوطن دون تمييز. وعند قيامها ركزت الجمعية اهتمامها بالإصلاحات الاجتماعية والثقافية، إلا أنه بفعل الأصابع الإثيوبية الخبيثة إنحرفت ببعض أعضائها لتبني المطامع الإثيوبية بالدعوة لانضمام إرتريا إلى إثيوبيا. وهنا أخذ الأستاذ محمد عمر قاضي موقفا واضحا بتقديم استقالته من هذه الجمعية والوقوف إلى جانب استقلال إرتريا. ونشرت تلك الاستقالة بصحيفة (صوت الرابطة الإسلامية الإرترية) الصادرة في 18نوفمبر 1947م بعددها رقم (16). وبعدئذ كان الأستاذ محمد عمر قاضي من مؤسسي الرابطة الإسلامية، ثم بعد ذلك مؤسسا ورئيسا لحزب الرابطة المستقلة بمصوع. وكان معه في قيادة الحزب الأستاذ محمد عثمان حيوتي الذي كان أيضا من مؤسسي حزب الرابطة الإسلامية في كرن، كما كان معه الشيخ ياسين محمود.

عند بروز التيار الوطني الساعي من أجل استقلال إرتريا كانت الإمبراطورية الإثيوبية آنذاك أول من بادر بقمع ذلك التيار، ومحاولة القضاء عليه في مهده. ووسيلتها التي بدأت بها كانت استهداف تيارات ورموز الرابطة والقضاء عليها. كان ذلك في عهد الحكم البريطاني لإرتريا باسم دول الحلفاء الأربع وهي (بريطانيا، الولايات المتحدة، الاتحاد السوفييتي، فرنسا)، وكان في مقدمة بل وأول من تمكنت منه الشهيد عبد القادر كبيري الذي كان ضمن الوفد الإرتري المتوجه إلى أمريكا لعرض القضية الإرترية أمام الأمم المتحدة، ولكن في الليلة التي سبقت تحرك الوفد وفي تمام التاسعة ليلا في الحادي والثلاثين من مارس 1949م تمكنت أيدي الأعداء الإثيوبية الآثمة من اغتيال الشهيد عبد القادر كبيري في قلب العصمة أسمرا. وقد خرجت مدينة أسمرا بشيبها وشبابها لدفن ووداع هذا الثائر إلى مثواه الأخير في مقابر الشيخ الأمين بأسمرا. وكان ضمن المشيعين له الأستاذ محمد عمر قاضي والذي ارتجل كلمة قصيرة عصماء تؤكد ارتباطه بقضية شعبه من أجل الحرية والاستقلال. ولأهمية ذلك أقوم بتسجيل الكلمة القصيرة التي أشرت إليها خدمة للتاريخ. والجدير بالذكر بأني في كتاب (عمق العلاقات العربية الإرترية) نشرت قصيدة رثاء للشهيد عبد القادر كبيري بقلم الأديب الإرتري محمد سرور والتي نشرت في حينها (بالجريدة العربية الأسبوعية) الصادرة بتاريخ 10 أبريل 1949م.

الأيدي الإثيوبية تحاول إسكاته للأبد:

بعد التصفية الجسدية للأستاذ عبد القادر كبيري بواسطة العصابات الإثيوبية وقيام الأستاذ محمد عمر قاضي برثائه في المقابر وأمام الأشهاد والإشادة به وبمبادئه الوطنية، قررت تلك العصابات التخلص من هذا الصوت الوطني، فتمت محاولة اغتيال الأستاذ محمد عمر قاضي بتاريخ 18/9/1949م. حدثت المحاولة أمام منزله الكائن بحي (قزا برهانو) بأسمرا، بالقرب من منزل (ديجيات حسن) أول رئيس لبلدية أسمرا. وقد جرت المحاولة في تمام الساعة التاسعة ليلا عندما قدم الأستاذ محمد عمر قاضي إلى منزله. وعند اقترابه من باب المنزل قام شخصان بإطلاق ست طلقات نارية من مسدسين كانا يحملانهما باتجاهه ثم هربا. كتبت له النجاة لأنه وبالصدفة عند لحظة إطلاق الرصاصة الأولى سقط على الأرض وظل مستلقيا دون أن يصاب، واعتقد الجانيان بأنه أصيب، وبالتالي وليا هاربين. وفي نفس الوقت خرجت زوجته من المنزل وهي تصرخ لإنقاذه كما خرج الجيران لنفس الغرض عندئذ تحرك محمد عمر قاضي سالماً ونهض واقفاً دون أن يتمكن منه أولئك القتلة المجرمين بعناية الله ورعايته.

ويرد بالمزيد من التحدي والثبات على المبدأ:

إن محاولة الاغتيال في المرة الأولى ثم التهديد المتواصل بالقتل مرات لم تثن الأستاذ محمد عمر قاضي بالتراجع عن أهدافه الوطنية، بل استمر ضمن رعيل ذلك الزمان وهو يطالب بالاستقلال، الأمر الذي وقفت إثيوبيا ضده عقبة كأداء بتدخلاتها المستمرة ومحولاتها الدءوبة لشق الصف الوطني الإرتري. وكما هو معروف فقد كانت النتيجة النظام الفيدرالي الذي قررته الأمم المتحدة حسب المشروع الأمريكي بدلا من الاستقلال الذي كان يطمح إليه الشعب الإرتري.

والأستاذ محمد عمر قاضي وبحكم دراسته للقانون ومن خلال متابعته لما كان يجري بشأن الفيدرالية من خروقات تقوم بها إثيوبيا فقد اكتشف خطورة ما يجري وخطورة السكوت عليه. ولذا بادر في وقت مبكر ولم يمضى عام واحد على دخول الفيدرالية إلى حيز التنفيذ حتى سارع بالإقدام على التحدي للإمبراطورية الإثيوبية. فقام بالتعبئة والاتصال بالقيادات السياسية طالبا التحرك والتصدي للمخططات الإثيوبية التي تهدف لابتلاع إرتريا. كما يقال فان الحق ما شهد به الأعداء. فالذي يؤكد ما نقوله هو ما كشفه الأرشيف البريطاني الذي تم الإفراج عنه مؤخرا، ويعود تاريخه إلى 12 سبتمبر 1953م.

إن هذه الوثيقة لها أهميتها القصوى، حيث تأكد بان الشعب الإرتري وعبر قيادته لم يكن غافلا عن مخططات إثيوبيا ، كما أنه لم يكن متقاعسا أو متلهفا لمكاسبه الوقتية الضيقة، ويكشفها ويتصدى لها في حينها. إن تلك الوثيقة التي كشف عنها مؤخرا في الأرشيف البريطاني وبعد مرور ما يزيد على نصف قرن من الزمان نسجلها كما هي بالنص لأهميتها التاريخية.

كلمة المحامي محمد عمر قاضي

نص الوثيقة مترجمة من اللغة الإنجليزية من الأرشيف البريطاني سبتمبر 1953م:

إلى ممثل الأمم المتحدة ـ أسمرا

سيدي العزيز

لقد مضى عام منذ أن دخلت إرتريا في النظام الفيدرالي مع أثيوبيا وإن السنة الثانية على الفيدرالية قد بدأت الآن. ومنذ بداية الفيدرالية وحتى الآن فان إرتريا قد وقعت في مشاكل كبيرة، حيث أنها لم تنل حقوقها المنصوص عليها في قرار الأمم المتحدة، وبما أن الشعب الإرتري لا يتحمل اكثر من هذا فإننا نناشد بالنظر في الآتي:-

أ) كل السلطات الداخلية التي انتزعتها واستولت عليها إثيوبية يجب إعادتها لإرتريا كما هو منصوص عليها في النظام الفيدرالي.

ب) تمدد وتوسع صلاحيات المحاكم الإثيوبية لتشمل إرتريا، والتي تعتبر غير ديمقراطية، لذا يجب إيقافها فورا.

ج) الجنود الإثيوبيون الذين يفتقرون إلى الانضباط، والذين يسيئون للنساء الإرتريات، ويهينون الشعب الإرتري يجب إعادتهم إلى أثيوبيا.

د) يجب عدم تدخل ممثل جلالة الإمبراطور في الشئون الداخلية الإرترية. فهو يتسبب في مضايقات للإرتريين الذين يحاولون عمل ما هو صحيح من أجل وطنهم. وإذا لم يتم النظر في النقاط المذكورة أعلاه، وبعدم الوصول إلى نتائج مرضية بشأنها، فأننا من المؤكد سنقف ضد حكومة هيلا سلاسي، والتي تؤمن بأنها ضد الحريات الفردية وحقوق الإنسان.

بالاعتماد على حماية الله، فقد قررنا الوقوف ضد هذه الحكومة من أجل وطننا وشرفه. بما أننا نكتب لكم هذه المذكرة من أجل أن تعرفوا ما قررنا مسبقا، فنحن ننتظر من الأمم المتحدة النتائج الصائبة.

بكل احترام

التوقيعات:
1. محمد عمر قاضي/ رئيس الرابطة الإسلامية المستقلة.
2. احمد عبد القادر بشير/ الأمين العام للحزب الوطني الإرتري.
3. إبراهيم سلطان علي/ السكرتير العام للرابطة الإسلامية.

صورة إلى:
الجمعية الإرترية (البرلمان).
ممثل جلالة الإمبراطور.
القنصل البريطانـي ـ الأمريكي ـ الفرنسي ـ الإيطالي

Top
X

Right Click

No Right Click