الروائي حامد الناظر في أول حوار له بعد فوزه بجائزة الشارقة
حاوره الأستاذ: محمود أبو بكر المصدر: الجزيرة كوم
حاولتُ خلخلة الزمن كي أعبِّر عن الطرق المعوجة في البحث عن الذات والأحلام
يفتح الإعلامي والروائي السوداني - الإريتري حامد الناظر في أول حوار صحفي له، بعد فوز روايته الأولى «فريج مرر» بجائزة الشارقة للإبداع الروائي العربي، قلبه وعقله لـ(الجزيرة)؛ ليتناول تجربته البكر في الرواية، وكذلك تجاربه في الإعلام والشعر. ويرى حامد في هذا الحوار أن انتماءه لمجموعة سكانية، قسمتها الحدود بين وطنَيْن (السودان وإريتريا)، أمرٌ لا يخلو من المسؤولية، مؤكداً أنه «ليس ترفاً فائضاً عن الحاجة»، دون أن ينفي أنه ميزة يعتز بها مع الكثيرين من المبدعين مزدوجي الانتماء في هذه الخارطة. ويؤكد الناظر أن «الحدود التي لا تظهر إلا في الخرائط عمرها أقل من مائة عام، ويمكنها أن تتبدل في أية لحظة، فتنشأ بلاد جديدة، وتختفي أخرى»!
عرفك الناس من خلال إطلالتك عليهم على شاشات تلفزيون النيل الأزرق وMBC والشروق السودانية ثم تلفزيون قطر، قبل أن يُفاجؤوا بك روائياً، فهل كان الأدب هو العالم الأول المتواري في تجربة حامد أم أنك اكتشفته بعد تجربة الإعلام ؟
- الأدب جزءٌ من حياتي وتاريخ عائلتي بشكل ما. جربت كتابة الشعر في مراحل مبكرة حتى بعد الجامعة، ثم اكتشفت أنني لم أكن إلا شاعراً فاشلاً. توارى الشعر، وتقدم الإعلام في حياتي كثيراً، حتى فاجأتني الرواية ذات صيف، وفرضت نفسها، ولم أجد بداً من الاستجابة، ولم أكن واثقاً ما إذا كنت سأنجح فيها أم لا.
ماذا أضافت التجربة الإعلامية لمسار العمل الروائي؟ وهل ثمة تقاطعات بينهما ؟
- الإعلام يجعلك قريباً من حياة الناس وبعيداً عنها في الوقت نفسه؛ يضعك أحياناً في مسار محدد، يأخذ معظم الوقت، كالأخبار مثلاً، ويشغلك عن الأمور الأخرى. لكنني عندما أعود إلى البيت، أو أجلس في المقهى، أعطي فرصة أكبر للاهتمامات الأخرى. والتجربة الإعلامية أفادتني في النظر إلى تلك الاهتمامات من زوايا مختلفة، أقارن، أحلل، أنتبه إلى التفاصيل وإلى الماوراء، وهذا هو ربما المشترك بين الإعلام والكتابة.
تابعناك في بعض مداخلاتك على وسائل التواصل الاجتماعي وأنت تطرح فكرة «سيطرة المركز على الهامش» على المستوى السياسي السوداني، هل ينسحب ذلك على التجربة الأدبية أيضاً، ولاسيما أنك من سكان الهامش ؟
- أنا أنتمي إلى مجموعة سكانية غير محظوظة من الناحيتين الجغرافية والسياسية. تقسيمات الخرائط وضعتها على التخوم، فانقسمت بين دولتين أو أكثر. وكل مهتم مثلي ومثل غيري لن يجد مفراً من أن يقرب واقعها من دائرة الضوء قدر الإمكان، وإلا اتُّهِم بالتقصير. المراكز دائماً متشابهة، وكذلك الهوامش، ولا بد من الطرق المتصل.
أُعلنت مؤخراً نتائج مسابقة الشارقة للإبداع الروائي العربي، وكنت أحد الذين نالوا جائزة عن روايتك الأولى «فريج مرر»، ماذا تعني الجائزة لأي أديب أو روائي ؟
- الجائزة للأديب محفزة ولا شك؛ تضعه في دائرة الضوء، وتجذبه من الأطراف إلى العمق، وتجذب القارئ إليه؛ وبالتالي تضيف مسؤوليات جديدة؛ لأن ما بعدها مختلف. أسأل الله أن أكون عند حسن الظن. وعلى العموم، لم أكن أتوقع هذا الفوز.
بالرغم من أن الجائزة عادت - كما عرفت اللجنة - للروائي السوداني حامد الناظر، فإن المواقع الإريترية احتفت بذلك باعتبارك روائياً إريترياً - سودانياً.. ماذا يضيف الانتماء المزدوج لوطنين اثنين في التجربة الروائية أو حتى الشخصية ؟
- هو غني ولا شك. لم أختر ذلك، ولم أخيَّر فيه كغيري. الراحل محمد عثمان كجراي عُرف بشاعر القُطرين (إريتريا والسودان)، وتغنى بكلماته الفنان السوداني الكبير محمد وردي، وكذلك غنى له الفنان الإريتري الكبير إدريس محمد علي بأغنياتٍ وطنية لكلا البلدين. وأيضاً الراحل محمد سعيد ناود كان جسراً متصلاً بين السودان وإريتريا، وعضواً ومؤسساً لمؤتمر البجا والحزب الشيوعي في السودان، وكذلك مناضل في الثورة الإريترية. لم يكن ذلك ترفاً أو دوراً فائضاً عن الحاجة، وإنما مسؤولية وواجب. وأنا كذلك، لستُ استثناءً أو طفرة، فالحدود التي لا تظهر إلا في الخرائط عمرها أقل من مائة عام، ويمكنها أن تتبدل في أية لحظة؛ فتنشأ بلاد جديدة، وتختفي أخرى. وأظن أنني أشرت لهذا المعنى في الرواية، وربما أشير في روايات أخرى. لكن الإنسان، وجدانه، ثقافته، إرثه وتاريخه أمور باقية، وتنتقل معه في دمه وملامحه، شاء أم أبى، وهي ميزة، وليست نقصاً على أية حال.
هل تعتقد أن الجوائز الأدبية أضحت تميط اللثام عن الكثير من التجارب التي ظلت تعاني العزلة نتيجة سيطرة «المركز» على الهامش في التجارب الروائية العربية، خاصة إذا ما تحدثنا عن تجارب الكتابة بالعربية في إريتريا والصومال أو غيرهما ؟
- أظن أن الحزام العربي الأسمر عاد إليه وهجه في التجربة الأدبية المكتوبة باللغة العربية كما كان عليه الحال أيام الطيب صالح مثلاً، وفرض نفسه من جديد رغم حالة التهميش على مستوى التناول الإعلامي التي لازمت مثل هذا الإنتاج طويلاً. صديقي الإريتري الجميل حجي جابر أعاد الزخم إلى هذا الأمر مؤخراً، كما دأب صديقي الدكتور أمير تاج السر في رفد المكتبة العربية بمنتوج غزير ووافر. هذه أمثلة قد تجعل التوازن ممكناً إذا ما أُتيح لأسماء أخرى أن تجد حظها من النشر والاهتمام. وأعتقد أننا أمام مرحلة ذهبية، ينبغي الاحتفاء بها ودعمها.
تتمتع بحظ «امتلاك» وطنين (السودان وإريتريا)، لكن عوالم روايتك الأولى تجري في سوق بمدينة دبي بالإمارات العربية، ذلك بالرغم من أن الشخوص قادمون - غالباً - من المنطقة التي تنتمي لها. ما دلالة أن تستدرج شخوصك نحو دبي (منفاك الإرادي سابقاً) ؟
- الهاربون من أوجاع بلدانهم تتشابه أحلامهم، وجهاتهم، كما يتشابه ماضيهم، وليس مستغرباً ربما وجودهم في مكان واحد في المنافي البعيدة. الأمر يحدث تقريباً بلا وعي، لكن بمرور الوقت يبدأ وعي آخر في التشكل، إذ تتماهى المصائر وطرائق التفكير في المستقبل؛ لذلك يبدو في النهاية كما لو كان وجعاً واحداً، ناضجاً وواضح الملامح. وعلى أية حال، المدن الكبرى مثل دبي لا تنتبه كثيراً إلى مثل هذه التفاصيل، لكنها توفر فرصاً جيدة للتأمل فيها، بل تفتح لها آفاقاً ما كان لها أن تدرك إذا بقيت تلك الأوجاع في أماكنها.
المكان والزمان أيضاً يبدوان عبثيين في «فريج مرر»؛ إذ تدور الأحداث في زمن دائري، ما إن يبدأ من نقطة حتى ينتهي إليها، وفي مكان تصفه بـ»غريب»، أو ربما في اللا مكان.. رغم أن الرواية تحمل عنوان مكان بعينه.. كيف تتعاطى مع عاملَي الزمان والمكان؟ وهل هناك محاولة متعمدة للاقتصاص من سطوتهما في سردك ؟
- المكان كأنه مخبأ من ذلك الماضي، من تلك الأوجاع في الرحلة الطويلة إلى الأحلام المطاردة والمستحيلة. حاولتُ أن أجعل الواقع زائفاً مخاتلاً وغير مكتمل الملامح، وحين يحدث العكس (لحظة اقترابه من الحقيقة) يصبح مأساوياً، ويبدو ذلك في نهاية كل حكاية كما جاء في الرواية، لتبدأ حكاية أخرى، ويعود النهر إلى المصب. كان لا بد للحظة أن تتمدد، وتأخذ حيزها الشاهق، وتفصل بين عالمين وزمنين فصلاً كاملاً. فقد خطر لي أن خلخلة الزمن بهذه الطريقة قد يعبّر بشكل أو بآخر عن تلك الطرق المعوجة في البحث عن الذات والأحلام.
الحرب والسلام، الوطن والمنفى، الريف المدقع الفقر والمدينة المتوحشة الثراء.. ثنائيات وتيمات تصيغ مجرى روايتك الأولى.. هل كان ذلك اختياراً لالتقاط فداحة المسافات ؟
- حياتنا كلها ثنائيات متقابلة، تعطي كل منها معنى ووجوداً للأخرى، فلولا الحرب لما كان للسلام معنى، هذا كمثال؛ لذلك فالحاجة إلى قياس المسافات بين تلك المتقابلات ضروري في ظني، كما أن دور الروائي دور كاشف أكثر منه معالج.
في ذات زمن مضى كان الشعر هو «ديوان العرب»، هل أضحت الرواية اليوم هي الفن الأعلى صوتاً قياسا بالوصف الذي أطلقه جمال الغيطاني منذ عقد من الزمن فيما سماه «زمن الانفجار الروائي» ؟
- رغبة الناس في مداواة آلامهم بالحكي أراها تكبر كل يوم، وهذا من شأنه أن يُكسب فن الرواية أرضاً جديدة كلما اتسعت تلك الرغبة. أخشى أن أقول إن هيبة الشعر باتت على المحك، بل باتت مهددة تحت هذا الزحف النثري الذي سيغمر كل شيء بعد حين. وأظن أنه قد آن الأوان أن يتحسس الشعراء كل مرتفعٍ من الأرض.
البعض يرى أن الجوائز الأدبية وتكاثرها الملحوظ أضحت تفرض إشكالات جديدة تتعلق بالنوعية، وعدم الاعتداد بها كمقياس للجودة، فيما يرى بعض الأدباء أنها بمنزلة «حصانة».. أين يقف الناظر من هذه الإشكاليات ؟
- ما زلتُ في أول الطريق كما تعرف، لكن في العموم أظن أن الجوائز الأدبية ورغم محفزاتها التي ذكرتها لك إلا أن فيها إشكالات أيضاً تتعلق بشفافية المعايير المتبعة في اختيار هذا العمل أو ذاك، وما إذا كانت تستند إلى محددات فنية صرفة أم ذائقة المحكمين أم خليط بين هذا وذاك.. وإن كنت أعتقد أنها ستحتاج إلى وقت ريثما تتبع منهجاً واضحاً ومقنعاً.