صديق الثورة الإرترية أحمد أبو سعدة في حديث صريح مع موقع ناود للكتاب - الجزء الاول
حاوره الأستاذ: محي الدين علي المصدر: ناود للكتاب
(مشبوه مومباسا) هو عنوان الرواية الجديدة للأديبة السورية الشابة "آداب عبد الهادي" والتي تتناول فيها مغامرات "المشبوه"
في عدد من البلدان الأفريقية التي كانت تضج بالثورات في مطلع ومنتصف ستينات القرن الماضي، وذلك بحثا عن الثائر ألأممي (أرنستو تشي غيفارا) الذي قضى فترة من نضالا ته الأفريقية في الكونغو إلى جانب "الثائر" باتريس لوممبا الذي اغتيل في العام 1961م.
و "المشبوه" هنا وحسب الرواية المذكورة، هو الثائر العربي الكبير (احمد أبو سعده) والتي أهدت إليه الروائية (آداب) مؤلفها، وهي تؤرخ لبعض من جولاته وصولاته في أتون تلك الثورات، بأسلوب أدبي رشيق لايخلوا من السخرية والدعابة، ولا شك أن الثورة الإرترية قد استحوذت على النصيب الأكبر في فكر وممارسة المناضل والثائر العربي أبو سعده منذ فترات مبكرة لمسيرة الثورة الإرترية، وكانت أداته وسلاحه المضاء هي الكاميرا الفوتوغرافية والسينمائية والتي من خلالها نقل أشرس المعارك التي احتدمت بين الثورة الإرترية وجيش الاحتلال الأثيوبي، بالإضافة إلى نقله لمآسي وجرائم الاحتلال، وما من شك، أن عمله هذا كان له أبلغ التأثير في عكس صورة وخلفية النضال الإرتري وعدالته، واكتسابه المشروعية الثورية التي أهلته إلى أن تتبوأ الثورة الإرترية موقعا متقدما في صفوف حركة الثورة العالمية المناهضة للإمبريالية والاستعمار.
وفي هذا الصدد لابد من الإشارة إلى أن المناضل "كريستيان سباتيه" الفرنسي الجنسية والمعروف باسم "هلال" (هلال هو الشهيد أحمد محمد نور هلال أحد قيادات قوات التحرير الشعبية عقب انعقاد مؤتمر سدوحاعيلا التاريخي الذي عقد في العام 1970م ومن أبرز قيادات حزب الشعب الثوري، أستشهد في مطلع السبعينات)، قد قام بتسجيل معارك نقفة وكرن الخالدة في السبعينات، وقد أطلقت عليه مجلة "عدوليس" التي كان يصدرها المكتب المركزي للعلاقات الخارجية في الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا، (سينمائي الثورة الإرترية)، علما أن المناضل "سباتيه" قد ألتحق بصفوف الجيش الشعبي لتحرير إرتريا في منتصف السبعينات، وهنا وإحقاقا للحق ولرد الجميل لأهله نقول بأن الأستاذ أحمد أبو سعده هو مصور الثورة الإرترية منذ مطلع الستينات ومكتبته عامرة بمختلف الأفلام التسجيلية الوثائقية والصور الفوتوغرافية التي يمكن أن تعتبر معينا يمكن الرجوع إليها لكل باحث أو مؤرخ يود التوثيق لتلك المراحل المبكرة والوسيطة من تاريخ الثورة الإرترية. ومن محطاته الهامة على مستوى الأعلام العالمي ماكتبته عنه صحيفة "الهيرالد تربيون" بتاريخ 1970/12/31م وفي الصفحة الأولى من الجريدة مرفقا بتحقيق صحفي ونشر صورته ولكل ذلك مغزى هام.
وعلى الرغم من جراحه التي لم تندمل، نفسيا وعضويا، فأبو سعده يعيش هموم أمته العربية وجرحها النازف في العراق وفلسطين، وفي كل بقعة يوجد فيها من يطالب بحقه، على الرغم من متاعبه الصحية، فعندما فاتحته في أجراء لقاء يفتح فيه قلبه وعقله للقراء بمناسبة أعياد الثورة الإرترية، (خاصة وأنه انزوى لفترات طويلة عن متابعة الشأن الإرتري وأن كان أنتاجه في التدوين والكتابة عن إرتريا وبلدان القرن الإفريقي وصل لعدة مؤلفات)، وكأول لقاء يجريه موقع (ناود للكتاب) مع أحد من أبرز الرموز التي لعبت أدوار هامة عبر مختلف الحقب، لم يتردد بل تحمس وأبدى استعداده، لعله يقول كلمته للتاريخ، وهو الذي يمكن أن نطلق عليه وبكل ثقة، أحد الذين يعول عليهم في عملية التوثيق والتأريخ والتسجيل، لذا حملت أوراقي وتوجهت إلى مكتبه الكائن في جادة "الشهبندر" بدمشق، وبمجرد أن تدلف إلى مكتبه وأنت تتأمل جدرانه وأركانه لاتستطيع إلا أن تقنع نفسك بأنك في مكتب ارتري أو دار إرترية، حيث تطالعك الصور والملصقات الإرترية , صور الأمس لرفاق رحلة العمر النضالية جمعته مع كوكبة خالدة من الشهداء محمود حسب، سعيد صالح وآخرين. ولايمكن أن تخطئ العين صورة المناضل الكبير صالح أياي بابتسامته المعروفة، والتي تحتل مكانا مميزا في مكتبه ضمن أطار مميز أيضا.
بعد السلام والعناق وأنا أتهيأ للجلوس، بادرته وأنا أشير نحو صورة المرحوم صالح أياي قائلا:
هل يحتل المرحوم أبو أياي كل هذه المكانة في دواخلك ؟ تنحنح قليلا قبل أن يبادرني بالسؤال وبنبرة خجولة أجاب، وهل يمكن أن تكون تلك بداية لحوار تجريه معي ؟
فأجبت: بعيدا عن البروتوكولات والمقدمات، قصدت من ذكر أبو أياي أن أستثيرك وأنبه فيك ذلك العصب الذي ربط بينكما لسنوات طوال، ذلك الرابط الوجداني الذي جمع بينكما لعلك تنداح وتكون هذه المقابلة بمثابة وجبة دسمة يمكن أن يستفيد منها الكثيرين ونحن نحتفل بالذكرى الـ 47 لانطلاقة الكفاح المسلح، وبرغم ذلك دعنا نؤجل الحديث عن علاقتك بأبو أياي وأسألك، عن بواكير العلاقة السورية الإرترية، وهل العلاقة بين الثورة الإرترية وسوريا، بدأت مع قيام ثورة حزب البعث العربي الاشتراكي والمعروفة بثورة آذار في العام 1963م ؟
بدا وكأنه كان يتوقع مثل هذا السؤال، برغم ما أثاره سؤالي عن صديقه ورفيقه أبو أياي من انطباعات متناقضة، لأنه هز رأسه ثم أجاب قائلاً:
الكثيرين يعتقدون أن العلاقة مع الثورة الإرترية كانت مع قيام الثورة في سوريا وحتى أكون دقيق معك العلاقة سبقت قيام ثورة آذار في سوريا في العام 1963.
بادرته: لا أقصد العلاقة التاريخية التي تعود إلى فجر المسيحية الأول حيث وصول القس "فرمنتيوس" وشقيقه، القادمين من بلدة صدنايا القريبة من دمشق إلى إرتريا لنشر الديانة المسيحية.
ولكنه قاطعني قائلا ً: دعني أكمل من فضلك
وأضاف: في عهد رئيس الجمهورية الأستاذ ناظم القدسي، كانت تلك البدايات للعلاقات السورية الإرترية، وكان ذلك في العام 1962م، وكان يرأس مجلس الوزراء في ذلك الحين الأستاذ المرحوم خالد العظم إلى جانب توليه وزارة الخارجية، وفي أحد الأيام استدعيت إلى مبنى رئاسة مجلس الوزراء.
قاطعته: وهل كنت تتولى مسئولية ما ؟
فأجاب: كنت في تلك الفترة موظفا في التلفزيون العربي السوري، حيث أقوم بالتصوير في المناسبات الرسمية، وأحيانا أقوم بمهام تحريرية للأخبار، وفي ذلك اليوم استدعيت لتغطية زيارة رسمية، لم أكن أعلم أنها ستغير كل مجرى حياتي، وعند وصولي إلى البروتوكول الخاص بالمجلس أفادني مديره، بالدخول إلى مكتب رئيس الوزراء المرحوم خالد العظم، حيث وجدت عدد من الأشخاص علمت فيما بعد أنهم زعإرتريا وقادة ثورتها، وهم، المرحوم إدريس محمد آدم، المرحوم عثمان سبي، المرحوم محمد صالح حمد، المرحوم إدريس عثمان قلايدوس، الأستاذ سيد أحمد محمد هاشم (يقيم حاليا في السعودية)، قمت بتصوير اللقاء فوتوغرافيا وسينمائيا، وتنحيت جانبا أتابع مجريات اللقاء.
سألته: ماذا دار من حديث بين الوفد ورئيس الوزراء ؟
أجاب: لقد بدأ المرحوم إدريس محمد آدم الحديث شارحا تاريخ ونضال الشعب الإرتري، ثم تلاه المرحوم عثمان سبي الذي كان ملفتا في حديثه من خلال ماسمعته من مطالب ومساعدات يطلبها للثورة الإرترية، أيضا تركيزه على عروبة إرتريا وأنها جزء لايتجزأ من النضال العربي.
قلت: هل سبق وأن سمعت بالثورة الإرترية قبل تلك المقابلة ؟
أجاب: لم أسمع بها من قبل خاصة وأن انطلاقة الثورة الإرترية لم تتجاوز السنة قبل هذا اللقاء، وأن كنت أتواجد في منطقة أفريقيا، حيث ذهبت إلى الكونغو في مطلع العام 1960، أيام باتريس لوممبا.
اعتذرت للمقاطعة، وطلبت منه الاستمرار في رواية تفاصيل ذلك اللقاء: واصل حديثه مضيفا ً:
وهنا كنت ألاحظ الاهتمام باديا على محيا المرحوم خالد العظم وذلك من خلال متابعته الدقيقة واستفساراته عن كل شيء، ومن المعلوم عنه حتى في مراحل لاحقة كان شخصا متحمسا للثورة الإرترية ويريد نصرتها بأي شكل من الأشكال، فقام بالاتصال بمدير مكتبه طالبا استدعاء قائد الجيش، وبعد لحظات دخل علينا، اللواء عبد الكريم زهر الدين، وكان قائدا للجيش وقتها، حيث قام بتعريفه على أعضاء الوفد الزائر، ودعاه للوقوف إلى جانبه أمام خارطة للوطن العربي كانت معلقة على الجدار، وأخذ يوجه كلامه للواء عبد الكريم زهر الدين قائلا أننا نريد معاونة هؤلاء الشباب وإرسال الأسلحة لهم، وفي تلك اللحظة كان يتأمل الخارطة ويؤشر نحو السودان تارة وعلى جنوب البحر الأحمر تارة أخرى، وكرر السؤال لقائد الجيش، كيف يمكن أن نقدم الأسلحة للثورة الإرترية، وأردف هل بإمكاننا أن نسقط الأسلحة لهم بالطائرات ؟؟.
هنا استوقفت أبو سعده قائلا ً: هل كان رئيس الوزراء جادا في فكرة إنزال الأسلحة من الجو للثورة الإرترية بالطائرات ؟
ضاحكا، أجاب قائلا ً:
قلت لك قبل قليل أن المرحوم خالد العظم كان رجلا سياسيا محنكا ووطنيا مخلصا حتى الثمالة، فهو كان يتعاطف مع ثورة إرتريا من منطلق أنهم عرب ويجب نصرتهم، وهم تقدميون في مواجهة نظام هيلي سيلاسي الإمبراطوري الكهنوتي المدعوم أمريكيا وإسرائيليا، لذا من الطبيعي أن يبدي التعاطف، ويريد تقديم العون والمساعدة دون أن تكون له فكرة في الجوانب العسكرية واللوجستية، وكل ماكان يشغله هو أن تصل شحنات الأسلحة للثورة الإرترية.
قلت لأبوسعده، هل يمكن أن نقول على الإطلاق، لم يسبق تلك الزيارة أي اتصالات أو تزكية من أي جهة كانت للثورة الإرترية لدى سوريا ؟
فأجاب بكل ثقة: لدي قناعة أن تلك الزيارة كان لها ماقبلها ربما من خلال الوسائل الدبلوماسية أو المذكرات التي كانت ترفعها جبهة تحرير إرتريا، أيضا من الحديث الذي جرى أمامنا بين رئيس الوزراء وقائد الجيش هناك مايؤشر على سابق علاقة ومعرفة بالثورة الإرترية، قبل ذلك اللقاء.
قلت: وكيف كانت نهاية اللقاء ؟
رد أبوسعده: طلب رئيس الوزراء من الوفد متابعة الاتصالات.
قلت: أذن، تلك اللحظات كانت حاسمة، والأقدار كانت تتجه لربطك بهؤلاء (الزوار) في ذلك اليوم لعقود طويلة، هل هناك شيء علق بالذاكرة عن ذلك اللقاء، غير الجوانب الرسمية ؟
رد علي، وهو يبتسم قائلا:
دون شك تلك اللحظات في ذلك اللقاء هي التي غيرت مجرى حياتي، حيث تعرفت على أولئك المناضلين وآمنت بقضيتهم وثورتهم، وكان لذلك اللقاء مابعده من ارتباط مصيري جمعني بالشعب الإرتري الوفي الذي أعطيته كل عمري وجهدي حتى ينال استقلاله، وأقولها بتواضع، هناك من قدم حياته وسكب دمائه، وأنا قياسا بهؤلاء لم أقدم شيء قياسا بتضحيات الآخرين، ولكن عزاؤنا اليوم أن إرتريا بلد مستقل ويحكمه أبناؤه، بغض النظر عن اتفاقي أو اختلافي مع شكل وطبيعة الحكم في إرتريا، نحن جيل الرواد وكنا طلائع للثورة، أما ماتبقى من أنجاز فهو من مسئوليتكم كشباب في صياغة شكل بلدكم ونظامكم الذي ترتأون.
قلت: دورك أستاذ أبو سعده بكل تأكيد مقدر ومشهود ولا يحتاج إلى تأكيد أو أثبات، وسيذكر التاريخ أن سوريا كانت حاضرة في قلوب ووجدان أبناء الشعب الإرتري من خلال مواقفها المبدئية ومن خلال نضالات أحد أبنائها البررة إلى جانبنا، ولكنني سألتك عن ماعلق في ذهنك من أمور في ذلك اللقاء ؟
بعد الانتهاء من اللقاء ونحن نهم بالخروج تنحى بي جانبا المرحوم عثمان سبي وبأدبه الجم وبلباقته المعهودة، سألني أذا كانت هناك أمكانية الحصول على نسخ من الصورة الفوتوغرافية التي ألتقطها في اللقا ء وأيضا من الشريط السينمائي، فأجبته باستطاعته الحصول على نسخ منها عبر الاتصال بالتلفزيون، وفيما بعد علمت أنه تحصل على مايريد، أما ماعدا ذلك الحوار السريع مع"سبي"لايوجد ما أذكره.
قلت: أذن في أي عام أفتتح مكتب جبهة التحرير الإرترية في دمشق ؟
رد أبو سعده: غير متأكد بدقة، ولكن أرجح 62 ـ 1963، ويمكن أن نقول في أجواء قيام ثورة آذار في العام 63. وقد تعلم أنه أول مكتب للثورة الإرترية في الخارج يأخذ الطابع الرسمي والشرعي المعترف به في ذلك الحين.
قلت: ألم يسبق مكتب الصومال مكتب دمشق ؟
رد وبحزم: مكتب مقديشو صحيح كان سباقا ولكنه لم يكن رسميا فقد عمل تحت أسم"جمعية الصداقة الصومالية الإرترية"أما هنا فالأمر كان مختلفا، حيث توجد لافته على مدخل المكتب كتب عليها"مكتب جبهة التحرير الإرترية بدمشق".
وأضاف أبو سعده: بقيام ثورة آذار في سوريا أصبح الدعم والمساندة يأخذ أشكالا مختلفة، والاعتراف بإرتريا وثورتها أخذ أبعادا كبيرة في المجتمع السوري الذي هو بطبيعته يتعاطف دون حدود مع قضاياه القومية، وبقيام الحركة التصحيحية التي قادها الرئيس حافظ الأسد في عام 1970، كانت الثورة الإرترية قد تبوأت مكانا هاما في فكر حزب البعث العربي الاشتراكي.
قلت: سوف نأتي لدور الحركة التصحيحية التي قادها الأسد وعلاقتك الشخصية به، ولكن كيف تتابعت الزيارات إلى دمشق من قبل قيادة جبهة التحرير الإرترية بعد اللقاء الأول ؟
أجاب أبو سعده، وكنت ألاحظ حالة الانسياب والتلقائية التي كانت ترسم حديثه وهو يحكي عن تلك الأيام:-
الزيارة الثانية لوفد الجبهة كانت في عام 1963، حيث وصل المرحوم عثمان سبي، وإذا لم أكن مخطئا كان في معيته المرحوم عثمان قلايدوس، وكان الهدف من تلك الزيارة تقديم طلبات للقيادة السورية من أجل قبول طلاب عسكريين في دورات سريعة، وفي ذلك الوقت كان لدى سوريا ماعرف بـ "كلية ضباط الاحتياط" ومن ضمن طلائع تلك الدورات من الإرتريين المناضلين محمد علي عمرو ورمضان محمد نور وعثمان عجيب، (وآخرين). ويمكن أن تقول انفتحت الأبواب على مصراعيها للثورة الإرترية، فقد وصلت أعداد كبيرة من المقاتلين للدورات العسكرية، وكان أمرا مألوفا في شوارع دمشق وبالقرب من الحميدية وسوق "الساروجة" أن تشاهد الشباب الإرتري وهم يسيرون بزيهم العسكري، وهنا أتذكر الفندق الذي كان يحوي هؤلاء الشباب وهو فندق "الزهور" عند سوق السروجية بالسنجقدار، وفي تلك الأثناء كنت أعمل أيضا في أحد الأستديوهات القريبة من الفندق الذي ينزلون به هؤلاء العسكريين، وحتى اللحظة تتداعى إلى ذهني صورهم والتي التقطت في ذلك الأستديو وكثيرا ماكانوا يأخذون الصور التذكارية وهم بلباسهم العسكري.
أيضا، أضاف: بعد ثورة آذار صدر مرسوم رئاسي يقضي بإعفاء الطلاب الإرتريين للدخول إلى الكليات العسكرية من شهادة البيكالوريا "الثانوية العامة"، وقد استفاد الكثيرين من ذلك المرسوم.
قلت: هل تتذكر أسماء بعض الطلاب في تلك الفترة من الذين درسوا بدمشق ؟
رد: بكل تأكيد، يحضرني الآن أسم الطالب عزت قلايدوس (شقيق إدريس قلايدوس) وهو أول من دخل الطب في سوريا، وتخرج في العام 1968م أيضا الطالب إدريس أندراي وهو أول طالب في كلية الحقوق بدمشق وقد تخرج في العام 1971م.
قلت: دعنا ننتقل إلى محور آخر، نحن الآن في العام 1966 ولم تذكر لي عن دخولك إلى ارتريا شيء حتى اللحظة ؟
بدا أبو سعده وهو يتهيأ على مايبدو لسرد مرحلة وأحداث هامه، ولاحظت التغير الواضح في نبرته، وكأنه يسترجع صعوبة تلك المراحل والظروف التي خاضها وفي سره يردد وباللهجة السورية المحببة "تنذكر وماتنعاد":
أجاب: في العام 1966 كلفت من القيادة في سوريا للدخول إلى الميدان وهي كانت المرة الأولى بالطبع، ويمكنك أن تتصور مشاق ومتاعب تلك الرحلة ومصاعبها بل وخطورتها، والمتاعب واجهتني قبل الدخول إلى الميدان، وأنا في الطريق إلى كسلا، وكان ذلك زمن الخريف حيث لاطرق ولا وسائل مواصلات ميسرة، وبعد الوصل إلى كسلا، أخبرت بصعوبة أمكانية الدخول إلى الميدان وعدت إلى دمشق، وتكرر نفس السيناريو بعد سنتين حيث وصلت إلى الخرطوم في طريقي إلى الميدان عام 1968م ولكنني لم أستطع الدخول. أما العام 1969هو العام الذي شاهدت فيه الميدان والتقيت بالثوار، ويمكن أن تتصور صعوبة تلك المرحلة التي تجاوزتها الثورة، حيث المخاطر تحدق بنا من كل صوب وحدب، لاوسيلة مواصلات، وخريف يمكن أن يبتلعك بأمطاره وسيوله في أي لحظة، وحياة قاسية، وهناك الخطر الأكبر جيش الاحتلال الأثيوبي الذي أمتهن القتل والتقتيل والإبادة للشعب الإرتري، وحملاته ومطارداته للثورة التي لم يقوي عودها بعد، وهنا، أود أن أشير لنبل الرفاق في الجبهة من مقاتلين وقيادات الذين كانوا يتحملون أكبر من طاقتهم لتأمين وجودي في الميدان من المخاطر، وكنت أحس أنني ضيف من الوزن الثقيل يتحملونه خوفا من حدوث مكروه له، ويسهرون على راحته وهم الذين يواجهون المخاطر والموت في أي لحظة.
أما المرة الثانية لدخولي الميدان كانت في العام 1970، وهذه الذكرى تظل محفورة في الوجدان لأنني وأنا وسط الأحراش مع المقاتلين علمت من الإذاعة بالتغيير الذي حدث في سوريا وقاده وزير الدفاع في ذلك الوقت اللواء حافظ الأسد وبماعرف بالحركة التصحيحية في 16 تشرين، وطبعا هذه الأحداث وأنا في الميدان بعيدا عن بلدي وشعبي كانت مصدر قلق بالنسبة لي، نظرا لافتقاري لأي معلومات عن ماهية تلك الحركة وخلفيتها، ومايمكن أن يتمخض عنها، خاصة ونحن في سوريا شهدنا مسلسلات لتغييرات وانقلابات، حكومات تنهض وأخرى تسقط في ساعات، لذا القلق كان شريكي في تلك الأيام.
أيضا ماتختزنه ذاكرتي من أحداث، انه في تلك الفترة كان الصراع محتدما بين القيادة السياسية للجبهة والتي كانت معروفة بالمجلس الأعلى وأقطابه عثمان سبي، وإدريس قلايدوس ونزاعاتهم التي كانت على كل لسان (يرحمهم الله)، أيضا الصراع داخل القيادة العامة من ناحية وخلافاتها مع المجلس الأعلى، وانقسام المجلس على نفسه وخلق امتدادات لذلك الانقسام في صفوف القاعدة العسكرية والجماهيرية للثورة. وبروز قوة جديد والتي عرفت فيما بعد بقوات التحرير الشعبية، بعد أن عقدت مؤتمرها التأسيسي في منطقة دنكاليا. ثم القرار الذي اتخذته القيادة العامة بطرد عثمان سبي، بعد مؤتمر"أدوبحا"، ومن جانبه"سبي"أيضا عقد اجتماعه المعروف باجتماع"عمان للمكاتب الخارجية، وانبثاق "الأمانة العامة" وهنا أصبح الفرز واضحا وأصبح هناك تنظيم جديد في الساحة الإرترية.
*وهنا لاحظت الحالة العاطفية التي انتابت أبو سعده وهو يسترسل في حديثه عن تلك الفترة، وقد أصيب بغصة في حلقه، وهو يسترجع تلك الذكريات، ربما مر من أمامه طابور أولئك الأبطال الذين عمدوا بدمائهم مسيرة الجبهة.
سألته قائلا: أذا لم أكن مخطئا ماهو دور سبي في إبعاد وفد القيادة العامة لجيش التحرير الإرتري الذي وصل إلى دمشق إلى الحدود اللبنانية بما يشبه الطرد، ومن المعلوم أن الوفد كان قادما إلى دمشق في مهمة رسمية، وكان يرأسه المناضل محمد أحمد عبده رئيس القيادة العامة، بالإضافة إلى المناضل عبدا لله إدريس ؟
أجاب: كما أسلفت هناك التناقضات التي عاشتها الجبهة في تلك الظروف، والصراع الذي مثله كل من "سبي وقلايدوس" في مسيرة الجبهة والذي كانت نهاية انقسام جسم الثورة الواحد إلى فصيلين، "سبي" رجل كانت لديه طموحات وتطلعات سلطوية وربما كان يرى في نفسه هو أبو الثورة وهو رائدها ومفكرها، وبالمثل المرحوم"قلايدوس"لم يكن قليلا في تطلعاته فهو أكثر بعدا من سبي في طموحه القاتل.
قلت: وماذا عن شيخنا المناضل الكبير إدريس محمد آدم ؟
فرد أبو سعدا: الرجل كان وقورا وكبيرا حجما وعمرا، وكان له رصيده الشعبي المعروف، وكما هو معروف أنه كان رئيسا للبرلمان الإرتري قبل تأسيسه لجبهة التحرير الإرترية مع رفاقه في القاهرة عام 1960م، ودون شك كانت لديه أيضا سقطاته في أتون ذلك الصراع غير المفهوم، ولكن ظل الجميع يحفظ له وقاره، وأن اختلفوا معه، وعلى العموم أعفيني من الخوض في تلك المرحلة وصراعات قياداتها فالجميع هم حاليا في ذمة الله وليس لدي غير أن أتضرع إلى الله أن ينزل عليهم شأبيب الرحمة، وأن تكون سيرتهم ومسيرتهم عبرة للأجيال الإرترية الصاعدة، وربما هناك من هو أقدر مني في رواية تفاصيل تلك الفترة.
وهنا لاحظت الدبلوماسية التي أطلت برأسها في سياق حديثه، أيضا احترمت طلبه بعدم الخوض في متاعب ذلك الزمان الذي ولى. ولكن مصير وفد القيادة العامة الذي أبعد إلى لبنان كان يلح علي بإعادة السؤال عنهم وبمصيرهم، برغم عدم رغبته في الخوض عن تلك المرحلة، لكنه أشعرني من خلال تقاسيم وتعابير وجهه التي تنضح بالطيبة، أنه لابأس سؤال واحد وأخير عن مصير وفد القيادة العامة:
أجاب: بعد عملية الإبعاد التي قام بها سبي لوفد القيادة العامة إلى الحدود اللبنانية، توجه الوفد إلى العراق ثم إلى السودان.
وهنا قاطعته وبلهجة فيها كم من الاستغراب، قائلا ً: يبدو أن الشهيد سبي كان يتصرف أحيانا دون أن يحسب حساب للنتائج ؟ أضفت: ولكن أحيانا من صفات القائد أن يتصرف حسب ما تقتضيه الحاجة المرحلية ؟
وبهدوئه المعهود رد أبو سعده: قد تعلم أن المرحوم سبي وطيلة فترة وجوده في سوريا تميز باتصالاته العديدة والنشطة وعلى مختلف المستويات وكانت تلك طبيعة المرحوم سبي أينما حل يتمكن من نسج شبكة من العلاقات العامة لكي تعينه في تذليل العقبات التي يمكن أن تعترض سبيله، ولكن دعني أقول لك أن تلك الزيارة لوفد القيادة العامة برئاسة المرحوم محمد أحمد عبده لم تكن رسمية وأنهم حضروا دون تحديد موعد مسبق ووصولهم إلى الشام لم يكن فيه تنسيق على مستوى القيادة هنا، وعلى العموم فعلة سبي تلك ارتدت عليه وبشكل صاعق، فقد حضر وفد القيادة العامة للمرة الثانية ولكن هذه المرة بشكل رسمي واستقبلتهم الجهات الرسمية، وقد تمكنوا من مقابلة السلطات وربما أثاروا ماحدث لهم في المرة السابقة بالإضافة للمهمة النضالية التي جاءوا من أجلها، وعلى ما أذكر في ذلك الحين كان المسئول عن مكتب العلاقات الخارجية في القيادة القومية للحزب هو الرفيق عمار الراوي وهو عراقي الجنسية ومسئولا أيضا عن ملف حركات التحرير في القيادة، وكان رجلا جادا وحازما وصلبا في الوقت نفسه، حيث قام على الفور بطرد عثمان سبي من دمشق وفي صحبته كل العناصر التي كانت موالية له، وربما كانت عملية الطرد ردة فعل لتصرف سبي تجاه الأخوان في القيادة العامة، بالإضافة إلى الموقف الذي أخذته القيادة القومية إلى جانب القيادة العامة في الميدان واعتبار المرحوم سبي مارق ومنحرف عن الخط الوطني، وكلنا مع الأسف كنا فريسة لتلك المفاهيم الثورية المغلوطة، تعاملنا مع سبي على أنه عميل للغرب والإسلام والرجعية، متأثرين بل ومشدوهين للشعارات الماركسية والتقدمية التي أعمت بصيرتنا مع الأسف لسنوات طويلة، وبذلك التصرف من القيادة غادر سبي سوريا إلى غير رجعة ولسنوات طويلة بناء على تقديرات يمكن أن أقول اليوم وبالصوت العالي أنها لم تكن دقيقة.
ولكن، قلت، عادت سوريا واعترفت بقوات التحرير الشعبية وتم افتتاح مكتب لها.
أجاب أبو سعده وكان الإحباط باديا على محياه: صحيح ولكن بعد سنوات، وبعد دخول الساحة الإرترية كلها في نفق مظلم، وبعد اختلاف الموازين وتغير القوى، وبعد دخول الجبهة إلى السودان.
هيأت نفسي لسماع إجابات هامة وربما دقيقة وضرورية حول علاقة ابوسعده بالرئيس الراحل حافظ الأسد وكنت أعلم قد ربطته به معرفة سابقة، وكنت ألحظ العرق الذي يتصبب منه وحرارة الطقس في تلك الفترة من السنة، ألم يقل السوريون (آب اللهاب) كناية عن ارتفاع الحرارة فيه، وفي تلك اللحظة كانت تترامى إلى أذني أصوات قهقهات المناضل الكبير محمد عمر يحي الذي يقضي فترة استشفاء في دمشق وهو يجالس بعض الضيوف في الغرفة المجاورة. ومع صوت محمد عمر يحي يعقب أبو سعدا: هل يجوز أن يكون أمثال الأستاذ محمد عمر يحي خارج وطنهم وهم في هذه الظروف بعد أن أفنوا زهرة شبابهم من أجل وطنهم وشعبهم ؟
هنا: شعرت أن أبو سعده سوف تتلبسه الحالة الانفعالية التي أعرفها جيدا ومايمكن أن تنسف معه الحوار بيننا من جذوره، فعاجلته مكررا السؤال عن الرئيس حافظ الأسد ربما يعود لهدوء وسكينته.
وبعد صمت قصير أجاب: سبق أن قلت لك الحركة التصحيحية التي قادها الرفيق حافظ الأسد تمت وأنا في الميدان وقد علمت بها من خلال أجهزة الإعلام، وحقيقة كنت مستبشرا بها بعد عودتي إلى دمشق ومعرفتي بعناصرها وأهدافها، خاصة كانت لدي معرفة سابقة بالرئيس الأسد عندما كان قائد للقاعدة الجوية لمطار "الضمير" قرب العاصمة دمشق وكان ذلك في العام 1964 م، أما ظروف معرفتي به، فقد طلب منا القيام بالتصوير من الجو بركوب واحدة من الطائرات وتصوير سرب مقاتل كان يؤدي عروض عسكرية بمناسبة أعياد الجلاء، وبعد أن أقلعت الطائرة التي كنت بها وأنا أهم بالتصوير حدث عطل بالمحرك، واضطررنا للعودة إلى القاعدة وكانت تلك خيبة أمل كبيرة بالنسبة لي خاصة وأنني موفد لتلك المهمة من التلفزيون، وعلى الفور عدنا إلى الأرض، وعلم القائد الأسد بماحصل باعتباره قائدا للقاعدة الجوية وأمر على الفور بتجهيز طائرة أخرى وأقلعنا من جديد وشرعت في التصوير من الجو لسرب الطائرات وكانت مهمة ناجحة، وعند العودة إلى القاعدة طلبني القائد الأسد وتغدينا سويا وكانت تلك الخطوات الأولى لمعرفتي به عن قرب ودون شك تركت في أثرا كبيرا، وما لاحظته في شخصيته المرح والجدية في نفس الوقت والتصرف السريع في المواقف التي تتطلب السرعة. وقد توطدت العلاقة بيننا ورافقته في الكثير من رحلاته الداخلية والخارجية ومن أشهرها عند ذهابه للتعزية في وفاة الرئيس عبد الناصر وكنا برفقة رئيس الجمهورية نور الدين الأتاسي، أيضا رافقت الرئيس الأسد في زيارته لدول الخليج، كذلك عند حضوره لمؤتمر القمة الإسلامي الذي عقد في مدينة لاهور الباكستانية.
هنا قلت: وصول الأسد إلى قمة السلطة يعني أنك أصبحت من المقربين ومن رجالات العهد أيضا، كيف استفادت الثورة الإرترية من علاقتك بالرئيس الأسد ؟
أهتم بهذا التعقيب والسؤال، لكنه ربما كان مستاء من طريقته صياغته، لذلك أجابني وبحدة:
لم أكن يوما مواليا أو طرفا في محور ولكن قناعاتي وأفكاري ومبادئي هي التي تحدد مسيرتي ومن هنا ومن منطلق تلك الحالة تماهيت في الثورة الإرترية وكنت على استعداد لتقديم مايمكن تقديمه للثورة الإرترية مهما كلف ذلك من مصاعب.
ثم تابع حديثه وهو يصوغ عباراته بعناية ودقة:
في العام 1970 كان يرأس مكتب جبهة التحرير الإرترية في دمشق المرحوم صالح أياي، وعند عودتي من الميدان فورا توجهت لمكتب الجبهة، وعرضت على أياي أن نقوم بزيارة للرئيس حافظ الأسد وكان وقتها رئيسا للوزراء، ولا أنسى اندهاش أبو اياي من هذا الطلب، نظرا لكونه لايعرف طبيعة علاقتي بالرئيس، على العموم توجهنا إلى مبنى المجلس فورا ودون سابق موعد وقابلنا مسئول البروتوكول في حينها وكان المرحوم خليل سعداوي، وفي دقائق معدودة دخل للرئيس وكانت الموافقة على طلب الدخول، ولكن كانت هناك الملاحظات من البروتوكول على المرحوم صالح أياي الذي لم يكن (مهندما) وكان يرتدي قميص خاكي تنقصه زرارة وربما اثنتين، وصندل متهالك أيضا، وكان تعليق مدير المراسم لايخلوا من الطرافة إذ وجه كلامه لي قائلا: هل تريد أن تشحذ الرئيس وأنت تسطحب ذلك الرجل، نظرا لحالة أبو أياي التي ينضح منها الفقر والبؤس.
المهم دخلنا لمكتب الرئيس الذي رحب بنا بحرارة حيث عرفته على صالح أياي باعتباره ممثلا للثورة في الشام، وتحدثنا مطولا وقد أستغرق اللقاء به حوالي الساعة والنصف، والاهتمام والمتابعة كانا باديين على الرئيس الأسد من خلال الأسئلة والاستفسارات التي قدمها لأبو أياي، وفي نهاية اللقاء قدمت له ألبوم صور يتضمن مشاهد من الميدان هدية كنت قد أعددته خصيصا له.
سألت: ماهي طبيعة الملاحظات التي أبداها الرئيس الأسد في هذا اللقاء ؟
رد أبو سعده محاولا اعتصار ذاكرته التي كثيرا مايردد أنها بدأت تشيخ خاصة وأن تلك الأحداث قاربت على العقود الأربعة:
قال: عندما كنت أطلعه على الصور من خلال الألبوم كان يدقق في الصور ويسأل عن الأسلحة التي يحملها المقاتلين، وكانت من الأسلحة الخفيفة والمتواضعة، وفي بعض الصور كان بعض المقاتلين غير مسلحين، أيضا كان يسأل عن وجود ألغام أو كميات من الديناميت لدى الثورة، وعندما أجيبه كان يهز رأسه وكأنه يفكر في عمل شيء في تلك اللحظة.
خطر في ذهني أن أسال أبو سعده: هل يمكن اعتبار المرحوم أبو أياي أول مسئول ارتري يقابل الرئيس الأسد ؟
فرد وبثقة: بالطبع أبو أياي أول قيادي إرتري يستقبله حافظ الأسد وكان ذلك بعد قيام الحركة التصحيحية.
وتابع أبو سعده تداعياته: وبعد 24 ساعة على اللقاء بالرئيس الأسد أتصل بي مدير الاستخبارات العسكرية هاتفيا علي ظاظا، وكان شخصية مقربة جدا من الرئيس الأسد، وسألني عن طبيعة النضال الإرتري وعن الثورة وماهيتها، فحكيت له وكان قد أخذ علم مسبق عن مادار بيننا من أحاديث مع الرئيس، وماهي إلا لحظات حتى كنت وأبو أياي في مكتب السيد علي ظاظا الذي عرض علينا قوائم بالأسلحة المهداة للثورة الإرترية وكانت بكميات كبيرة وربما تفيض عن حاجة الثورة في حينه، ومنذ تلك اللحظة بدأ الجسر الجوي ينقل تلك الأسلحة إلى الخرطوم ومنها إلى الميدان ولا يخالجني أدنى شك أن ذلك العتاد كان له أعظم الأثر في نفوس الإرتريين من المقاتلين، ومنذ ذلك الحين يمكن أن نقول أن الثورة الإرترية أصبحت أمرا لايمكن تجاوزه في سوريا من خلال الحزب والدولة، فقد تدفقت المعونات والمساعدات إلى إرتريا، أيضا فتحت الجامعات والمدارس للطلاب الإرتريين وكان القبول استثنائيا لدخول الجامعات، أيضا إضافة القضية الإرترية إلى المناهج التعليمية في المدارس السورية، وتثبيت خارطة إرتريا كجزء من الوطن العربي في منهاج التثقيف الحزبي. وقد تبنت سوريا النضال الإرتري في المحافل الدولية والمؤتمرات أيضا سمح لمكتب الجبهة بتنظيم المهرجانات والمسيرات التي تؤيد وتؤازر النضال الإرتري والقيام بالمهرجانات الخطابية والفنية خاصة في أعياد الثورة، وقد تعلم أن دمشق كانت ساحة للنضال العربي والعالمي حيث حركات التحرير والمنظمات والأحزاب التقدمية وكل ذلك خلق حالة من الاندماج بين الثورة الإرترية وذلك الزخم الذي كانت تشهده دمشق.
وأضاف: طبعا كل ذلك التأييد والمساندة، كانت له متاعبه ومشاكله فكثيرا ما تذمر الأثيوبيون من وقفة سوريا تلك حيث قدمت الشكاوي للمنظمات الدولية والإقليمية من وقوف سوريا إلى جانب الثورة ومحاولتها تفتيت وحدة أثيوبيا واقتطاع ارتريا من حضن أمها أثيوبيا وبيعها للعرب وما إلى ذلك من ادعاءات باطلة. وهناك موقف يجب أن يظل في أذهان الجميع وهو يعبر عن الموقف المبدئي السوري، ففي المحادثات التي كان يجريها الرئيس الأسد مع الرئيس برجنيف والقيادة السوفيتية حول القرن الأفريقي وإرتريا بالذات قال الرئيس الأسد لمضيفه برجنيف: (أن سوريا لاتؤيد الاعتداء على أرض الغير ولكن القضية الإرترية تختلف تماما، وأوضح أن إرتريا ضمت قسرا إلى الإمبراطورية الأثيوبية وان الثورة الإرترية هي حركة تحرر وطني تناضل ضد الاستعمار).
قلت لأبوسعده: يمكن أن نقول وبجدارة أنك كنت البوابة التي من خلالها عبر الإرتريين إلى سوريا ؟
رد وبنوع من العصبية: لم أكن مدخلا ولا أريد أن أذكي نفسي، قناعاتي هي التي أملت علي القيام بالوقوف إلى جانب الثورة، ولو عادت عجلة التاريخ مرة أخرى، سوف يكون لي نفس الدور لأنني راض عن ماقمت به تجاه شعب إرتريا الوفي.
أضفت: وتوالت اللقاءات بين قيادات الثورة الإرترية والرئيس الأسد ؟
أجاب: في سنوات لاحقة بالطبع فقد أستقبل الرئيس الأسد معظم القيادات الإرترية ولاسيما قيادة جبهة التحرير الإرترية، ولكن ما أذكره جيدا أن ثاني لقاء بالرئيس الأسد قمت بترتيبه شخصيا ولم أحضره، وهذه المرة ضم محمود إسماعيل الذي كان ممثلا للجبهة في بغداد إلى جانب صالح أياي ممثل الجبهة بدمشق.
قلت: هل انقطعت صلتك بالمرحوم سبي أثر خروجه من دمشق ؟
أجاب: نعم، إلى أن التقينا في الكويت سنة 1970، وكانت المناسبة هي ندوة فلسطين العالمية التي عقدت هناك في تلك الفترة، وكنت أمثل الجبهة في تلك الندوة وكان معي الأخ إدريس أندراي الذي كان عضوا في مكتب دمشق للجبهة وكان يواصل دراسته للحقوق في نفس الوقت، وقد لحق بنا من بغداد ألأستاذين محمود إسماعيل وحامد تركي. ومن جانب قوات التحرير الشعبية المرحوم سبي وآدم بيك ممثلهم في الصومال ومحمد علي الأمين ممثلهم في الكويت وطه محمد نور رحمة الله عليه.
سألت أبو سعده: ماهي أبرز أدواركم في تلك الندوة، وهل كان هناك تنسيق بينكم وبين سبي، خاصة وأن الانقسام لم يمضي عليه شهور معدودة ؟
أجاب وهو يبتسم (تنسيق وين) سبي الله يرحمه وجماعته تصرفاتهم كادت أن تنسف الندوة.
متلهفا، سألت، كيف ؟
وهذه المرة الابتسامة تحولت إلى ضحكة لكنها غير مجلجلة، رد وهو يحدق نحو البعيد، محمد علي الأمين ممثل الشعبية في الكويت، وعندما كنا نهم لعرض الفيلم السينمائي عن الثورة الإرترية وهو أول فيلم بالمناسبة وقد أنجزته في عام 1969، قام الأمين بقطع الصوت عن الفيلم في عملية (تخريبية) قصد بها عرقلة عرض الفيلم، وهنا حدث ارتباك والحضور كان مميزا ورائعا، وعلى الفور أمرنا الأستاذ حامد تركي أن يصاحب عرض الفيلم بتعليق مرتجل نظرا لانقطاع الصوت وللحق كان موفقا وصوته المجلجل في جنبات القاعة تمكن من إفشال مخطط محمد علي الأمين، وقد تدخل الأخوة الفلسطينيين معتبرين هذا التصرف غير لائقا، على العموم تداركنا الأمر ونجحنا ولكن بصعوبة.
وفي المساء دعاني سبي على العشاء فلبيت، وقال كلاما طيبا، واعتذر عن الذي حصل قائلا إن الفيلم هو لإرتريا ولا يجب أن يحدث ماحدث من عرقلة، ولم ينسى أن يعاتبني بقوله "أنك متحزب مع جماعتك" (وهو يقصد موقفي إلى جانب الجبهة)، وأضاف: لا تود أن تزور قواتنا في الميدان ؟ فقلت ولم لا ؟.
وأضاف أبو سعده: وقد كلفني المرحوم سبي لزيارة الميدان وقام بتغطية نفقات الرحلة ذهابا وعودة، وكان ذلك نهاية عام 1971م.
توجهت من دمشق إلى عدن، واستقبلني هناك أحمد جاسر ممثل الشعبية في اليمن الديمقراطي وماهي إلا أيام حتى ركبنا البحر متوجهين إلى دنكاليا وكانوا معي عدد من المقاتلين مجرد مرافقة وإدلاء، وبعد رحلة مضنية مليئة بالخوف من "الحيوانات البشرية" والحيوانات البحرية التي كانت تتلاطم و(سفينتنا) أقصد مركبنا المتهالك ومن مناورات القوات البحرية الأثيوبية، وصلنا إلى الشاطئ الإرتري وكانت درجة الحرارة عالية جدا، ونزلنا في منطقة "بوري" وهناك مكثت أربعة أيام منتظرا لمسئول قيادي في قوات التحرير الشعبية لعله يسهل مهمتي ولكن دون جدوى، ثم أخذوني إلى منطقة ثانية فيها عدد قليل من المقاتلين عددهم 11 مقاتلا.
قلت: ولكن أين قوات التحرير الشعبية، علما أنها كانت للتو عقدت مؤتمرها التأسيسي في دنكاليا ؟
فرد والأسى كان باديا عليه: لم أجد شيئا.
قلت: العلاقة بين سبي وجهازه الخارجي لم تكن مبلورة مع قيادة "سدوحاعيلا" في ذلك الوقت، لذا ربما لم يكونوا على علم بقدومك بل وربما غير راضين عن موقف سوريا إلى جانب جبهة تحرير إرتريا بعد الانقسام ؟
أجاب: لا أعلم، والسؤال أين القوة التي يتحدثون عنها ؟
قلت مازحا: ربما المرحوم سبي قصد من تكليفك بهذه المهمة، أن تكون طعما لأسماك البحر الأحمر أو أسيرا لدى الأثيوبيين، أو هالكا من العطش، لعله، يرد على خصومه في قيادة الجبهة من خلال تقديمك ككبش فداء ؟
رد أبو سعدا وبنبرة فيها التأثر واضحا: سبي لايتآمر على تصفية (نملة)، كان متسامحا لأبعد حد، وكان كريم النفس، وعلى الرغم ماسببته له من متاعب ومقالب في مراحل لاحقة كان يلقاني بالترحاب.
الى اللقاء فى الجزء الثاني...