محمود محمد صالح الأستاذ الذي نسيناه - الجزء الثاني والأخير
حاوره الأستاذ: صلاح محمد الزين - إعلامي وناشط سياسي إرتري - عمل صحفي ومعد ومقدم برامج بالتلفزيون إريتريا 1992-1997
في الجزء الأول من مذكرات الشهيد الأستاذ محمود محمدصالح توقفنا عند نتائج اجتماعه
مع القيادة الفرعية لحركة تحرير إرتريا بمدينة كرن بشأن الأزمة التي حدثت بين الساسة القدامى والحركة وذلك بسبب رفض الأخيرة كشف النقاب عن قياداتها للساسة الذين خرجوا من إرتريا، وعلى رأسهم السيد/ إدريس محمد آدم. فقد كان موقف فرع أغردات مع ضرورة استجابة قيادة الحركة لمطالب هؤلاء الساسة وتعريفهم بهويتها قبل أن تطلب منهم التعاون أو الإنخراط في صفوفها. رجع الأستاذ من ذلك الاجتماع إلى أغردات آملاً أن يعود إلى كرن وقد بحثت، في غضون شهر، الأمر مع قيادات الحركة بالسودان وتمكنت من رأب الصدع وحل المشكل.
ماذا حدث بعد ذلك؟!
عدت إلى كرن، والكلام للأستاذ/ محمود، بعد إنقضاء الفترة الزمنية المحددة للاستفسار عن ما حدث. فسألتهم إن كان لديهم أي إجابة لتساؤلاتنا، فأجابوا: ”ليس لدينا جواب، ولكن هنالك لجنة برئاسة خيار بيان شُكِّلت لهذا الشأن، وسوف تذهب إلى الخارج لمقابلة قادة الحركة والساسة القدامى للخروج بحل للأزمة“.
التقيتُ في هذا الإجتماع بكل من صالح إياي، الحاج إدريس، محمد كرار وعمر يحيى، حيث أضفت إلى مواقفنا السابقة موقفاً جديداً، وهو أن فرعنا في أغردات سوف يعلّق ارتباطه بالحركة، ونظلّ محايدين إلى حين رجوع هذه اللجنة - لجنة خيار- بنتائج وإجابات لتساؤلاتنا، ونتوقع أن يحدث ذلك في شهر يوليو/تموز.
في تلك الفترة، أي قبل الإجتماع الأول في كرن وحتى وصولنا إلى هذه النقطة، كانت الوفود من اللجنة العسكرية بكسلا تجيء إلينا وتذهب، وذلك في سعي دءوب للحصول على أسلحة. عليه أصبحت علاقتنا بهم عضوية نوعاً ما. علمنا منهم فيما بعد بأن المجندين الإرتريين في الجيش السوداني، والذين كانوا في جنوب السودان، قد انضموا إلى اللجنة العسكرية. أما السلاح فسوف يتم الحصول عليه في المستقبل القريب.
وبناءً على هذه المعطيات التي تشير إلى أن الأجواء أصبحت مواتية لإعلان الكفاح المسلح فقد اتفقنا على عقد إجتماع يضم (11) شخصية مهمة.
أرسلنا الدعوات إلى الشيخ محمد بن داوُد والشيخ سليمان وحامد إدريس عواتي لحضور إجتماع خاص سينعقد في أغردات. وفي الوقت المتفق عليه حضر عواتي والشيخ سليمان وحضر خليفة أبوبكر وكيلاً عن الشيخ محمد بن داوُد.
افتتحتُ الإجتماع باستعراض للموقف العام لوضع المجتمعين في صورة الحراك السياسي في الساحة على هذا النحو:-
الكل يتحرك للحصول على أسلحة، ومن المفترض أن يتحقق ذلك خلال الأشهر القليلة المقبلة. أغلب المجندين الإرتريين في الجيش السوداني قد أعدّوا أنفسهم للإنخراط في الكفاح المسلح. ومع أننا لسنا عسكريين، إلا أننا نقوم بكل ما يتطلب منا الموقف القيام به، ولكن في حالة وصول أسلحة فنحن لا ندري ماذا نفعل بها وكيف نخزنها بالطريقة المثلى.
لم يتحدث الشيخ سليمان كثيراً في هذا الإجتماع، أما محمد يوسف - عضو اللجنة المحلية لأغردات - فقد كان شاباً متحمساً، كثير النشاط، تحدث بحرقة عن وجوب محاربة الإثيوبيين. فقال له عواتي: ”إننا نحتاجك أكثر في المدن لتنظيم الشعب والعمال“. ثم بدأ عواتي يعقِّب على التنوير الذي قدمته في مستهل الإجتماع قائلاً: إذا كان الأمر كذلك، فإنه يبدو أن هنالك جدية حقيقية لفعلِ شيءٍ ما، وإذا كنتَ على ثقة بأن السلاح سوف يصل خلال مدة وجيزة فهذه نقطة البداية لإعلان ثورتنا.
وأضاف عواتي: ”إن إعداد مستودعات للأسلحة في الجبال أو في غيرها من الأماكن أمر لا جدوى منه وغير عملي. فعليه فإن الشيء الوحيد الذي يمكن فعله هو فقط عليكَ أن تخبرني بكمية الأسلحة وأنواعها قبل وصولها إلى الحدود، والطرق التي ستسلكها والنقطة الحدودية المتجهة إليها، والترتيبات الباقية سوف تكون من مسئوليتي. كما أنه من المهم جداً أن تخبرني عن نوعية السلاح القادم مسبقاً، خفيف، آلي .. الخ، لدي رجال خبراء في استعمال جميع أنواع الأسلحة، وبناء على نوع السلاح المتوفر سوف أُحضّر الرجال القادرين على استخدامه“.
واستطرد قائلاً: ”الأمر الثاني، في إمكاني أن أغطي المناطق الجغرافية: القاش، سيتيت وبركة وصولاً إلى الساحل وعنسبة، لأنني أعرفها تمام المعرفة وباستطاعتي قيادة العمل فيها. أما المرتفعات والمناطق الشرقية، حقيقةً، لا أخبرها جيداً، فعليك أن تبحث عن من يعرفون تلك المناطق ولهم القدرة على تنظيم العمل هناك والقيام به على الوجه المطلوب“.
وتابع عواتي حديثه: ”الأمر الثالث، في حالة حضور أي من العسكريين من السودان إلى هنا أرسله إليَّ لمقابلته. وإن لم يأت أحدهم خلال هذه الأيام فأطلب منهم إرسال من يمثلهم“.
ثم أخبرنا عواتي قائلاً: ”والأمر الرابع، عند رجوعي من هنا سوف أجهِّز مجموعة صغيرة من أتباعي لجلب رجال كل واحد منهم قادر على اختيار وجمع أي عدد من الناس عندما تطلب منه ذلك“.
كان عواتي على علم بأن الحكومة الإثيوبية تراقبه حينما حضر إلى ذلك الاجتماع، وقد كَلفتْ السلطات شخصاً يدعى عبدالله إدريس لمرافقته ومراقبته، وكان يزعم أنه من أصدقاء عواتي، ومع ذلك يتجسس عليه لصالح الإثيوبيين، حيث رافق عواتي طوال اليوم، من السابعة صباحاً حتى السابعة مساءً. إلا أن عواتي تمكن من الحضور إلى الاجتماع ليلاً بعد أن أوى إلى فراشه وأوهم مرافقه بأنه قد نام، فانصرف عبدالله بعد ذلك مطَمْئناً نفسه بأن عواتي قد غرق في سباتٍ عميق. ولكن عواتي نهض من مرقده بعد تأكده من أن مراقبه قد ولّى ليتسلل إلى حيث مقر الإجتماع.
اختلق عواتي عذراً لمجيئه إلى أغردات لحضور الإجتماع بتقديم طلب إلى الحكومة لتزويده بعدد (200) قطعة سلاح نوع (أبو عشرة) وذلك لحماية المنطقة بين سيتيت والقاش من شفتة ولقايت حُمَرا. هكذا جعل من قدومه للإجتماع مهمة رسمية. بالطبع لم يتوقع عواتي الحصول على هذا العدد من السلاح ولكن جزء منه، إلا أن مجرد تقديمه لطلب الحصول على سلاح يدل على أن عواتي أيضاً كانت لديه أفكاره وخططه الخاصة به لبداية الثورة.
لم يكن شيخ محمد بن داوُد شخصية عادية بل كان ذو أفكار ورؤى سياسية ثاقبة، وقد بدأ اهتماماته ونشاطاته السياسية قبل الحركة، ففي العام 1958م، وقبل ظهور الحركة، أبدى الشيخ محمد معارضته لممارسات الإثيوبيين، وكان لكلامه وقع خاص وصدىً عند الناس، وأغلب سكان هذه المنطقة يدينون له بالولاء. وفي نفس الوقت، وعلى الرغم من أنه من عائلة ذات زعامة دينية، إلا أنه لم يكن ينظر إلى المسألة الوطنية من زاوية دينية، بل يعامل المسلمين والمسيحيين سواسية في هذا الأمر. إضافة لتحركاته السابقة ضاعف الشيخ محمد نشاطه السياسي بقوة وسرية بعد ذلك الإجتماع لإعداد المواطنين لساعة الصفر. وهو يعدُّ العدة وينشئ شبكات مُحكمة من خلايا العمل أيقن أن الأسلحة سوف تصل وأن عواتي سوف يشارك، وأن الساسة القدامى إلى جانبه.
بعد ذلك الإجتماع حضر سعد آدم من كسلا إلى أغردات، فأرسلته إلى عواتي مشفوعاً برسالة مني أقدمه فيها إلى عواتي بأنه من المجموعة العسكرية التي طلب أن يلتقي بممثل لها، وأن سعد رجل محل ثقة، وقد كتب لي الرسالة بالإيطالية محمد بخيت لأن عواتي كان يقرأ الإيطالية، ولم ألم بعد ذلك بتفاصيل ما حدث بينهما.
عندما رجع حامد عواتي بعد ذلك الإجتماع أرسل أولى مجموعاته والمكوّنة من سبعة أشخاص إلى القاش وفي غضون أسبوع وصل تقريراً من النقيب عبد القادر بمدينة تسني إلى رئاسة الشرطة في أغردات مفاده أن عواتي بعد عودته من زيارة أغردات أرسل مجموعة من الشفتة إلى القاش. بناءً عليه قررت رئاسة الشرطة بأغردات إرسال لجنة للتحقيق مع عواتي والتحري عن القضية، وقد تكونت هذه اللجنة من شخصيات رفيعة المستوى شملت عمر حسن نور، المسئول الكبير في الإدارة الحكومية، و الذي أصبح فيما بعد موظفاً كبيراً في الهيئة القضائية بأسمرا.
رفض عواتي مقابلة اللجنة وخرج من قريته قُبيل وصولهم إليها، وأرسل من يبلِّغهم بأنه ليس لديه وقت لملاقاتهم، فعادوا إلى أغردات. أدرك عواتي أن الحكومة تتعقبه فلذلك ظل في قريته حذراً يقضي فيها نهاره ويخرج للمبيت خارجها. قررت الحكومة، بناءً على تقرير لجنة التحري، إلقاء القبض على عواتي. على الفور تم إبلاغ عواتي بذلك القرار، فما كان منه إلا أن لحق برجاله وأصحابه في المجموعة.
عندما انفصلنا نهائياً من الحركة انحازت معظم فروعها معنا إلى الجبهة، وبعد ذلك الإجتماع مع عواتي اتخذنا موقفاً واضحاً تجاه جبهة التحرير الإرترية فانضمت كل فروعنا في المنطقة إلى الجبهة، وتكونت شبكة قوية البنية من فروع أغردات وما حولها من القرى والمدن.
عندما خرج عواتي كانت أغردات هي المكان الوحيد الذي يدعمه، لأنه لم يأت جندي واحد من اللجنة العسكرية بكسلا ولا أسلحة ولا مؤن كما وعدونا بذلك.
قمنا بدعم عواتي بالمال، وأرسلنا إليه حوالي (400.000) طلقة قديمة و (40) قرانيد إيطالي قديم جمعناها من أرض المعركة المعروفة بموقعة كرن في العام 1941م. وقد تم تنظيف الرصاص والقرانيد في أغردات ثم أرسلناها إلى عواتي، ولكنه أعادها إلينا لعدم صلاحيتها فأصبح الموقف حرجاً، إذ ليس لدى عواتي إلا قطعة سلاح (أبو عشرة) واحدة فقط ، والآخرون يحملون أسلحة إيطالية قديمة، ومئات من القوات الإثيوبية تطاردهم. المكان الوحيد الذي يمكن أن يوجد فيه ذخائر إيطالية هو رئاسة الباندا في أغردات، فلذلك سرقنا من مخازنها، بمساعدة أفراد من البندا مجندين معنا، ذخائر حية ووضعنا بدلاً لها ما بحوزتنا من الذخائر غير الصالحة. تم اكتشاف أمر السرقة فيما بعد ولكن دون معرفة من قام بها، فعزلوا رئيس الباندا من منصبه.
في عام 1965م اضطررتُ إلى مغادرة أغردات متوجهاً إلى كسلا ومنها إلى الخرطوم فقابلت هناك الزين ياسين، وتم تعييننا معاً أعضاءً في القيادة الثورية ثم رجعنا سوياً إلى كسلا والتحقنا بالقيادة الثورية في نوفمبر 1965م، وقد جاء هذا التعيين من قبل المجلس الأعلى. في ذلك الحين كان إدريس قلايدوس وإدريس محمد آدم في الخرطوم، بينما كان عثمان صالح سبي في دمشق.
عندما كنت داخل إرتريا كنت مسئولاً من المراسلات الداخلية إلى القيادة الثورية، وكان عثمان سبي هو الذي يتلقى الرسائل والتقارير التي أبعثها فعرفني من خلالها وأنا في الداخل أكثر من الآخرين (انتهى كلام الأستاذ/ محمود).
إلى هذا النحو انتهت المقابلة - المذكرة باستثناء فقرات في الصفحة الأخيرة، أرجأتها إلى مناسبات أخَرْ لأنها لا تهم مقام مقالنا هذا الذي يحاول تسليط الضوء على جوانب من حياة الأستاذ النضالية، بينما تتناول بقية الفقرات التحاق بعض المناضلين بالقيادة الثورية، وحديث عن حركة الإصلاح داخل الجبهة.. كيفية وأسباب ظهورها، وغير ذلك من الأحداث.
وألحق بهذا الجزء الثاني، وربما الأخير، ملخصاً لمقابلة صوتية مسجلة أجريتها مع الشهيد/صالح إياي – رحمة الله عليه -أثناء تواجده قبل سنوات في الرياض للاستشفاء، خُصِصَت للحديث عن الشهيد الأستاذ/ محمود.
بعد تأكيده للمعلومات الواردة في المذكرة عن لقاءاتهما في أغردات وكرن، أضاف إياي: “من المهام التي كُلف بها الأخ/ محمود تأسيس الحركة في عموم بركة والقاش سيتيت، وقد قام بهذا الدور في تلك الفترة وكانت له اجتهادات كبيرة. في تلك الأثناء تكونت جبهة التحرير الإرترية في القاهرة، ولأن محمود كانت له صلة بحامد إدريس عواتي فقد انحاز إلى الجبهة وانحاز معه أغلب المعلمين. ورغم ذلك لعب دوراً كبيراً في محاولة جمع التنظيمين (الحركة والجبهة). بعد تصاعد العمليات العسكرية للجبهة في الريف والمدن بدأ الإحتلال شن حملة اعتقالات استهدفت أعضاء الجبهة والحركة على حد سواء، فاعتقل محمود ضمن مجموعة اتهمت بتهريب السلاح إلى الثوار، ومورست ضدهم أساليب تعذيب قاسية. اعترف أفراد المجموعة ورفض محمود الإدلاء بأي اعتراف. فبناءً على المادة رقم (10) الخاصة بالاعتقال التحفظي ومدتها ثلاثة أشهر، تم تجديد مدة اعتقال محمود لثلاثة مرات لأنه كان مصراً على عدم الاعتراف. فذاق خلال التسعة أشهر صنوف من التعذيب، ليطلق سراحه بعد ذلك دون تقديمه إلى محكمة وذلك لعدم توفر الأدلة وعدم إقراره بالتهمة“.
وعن الظروف والأسباب التي اضطرت الأستاذ للخروج من إرتريا يقول إياي:-
”عندما بدأ العدو في تنفيذ الاغتيالات كوسيلة لترهيب المناضلين تلقى المناضل محمود أمراً من قيادة الجبهة بالخروج إلى السودان. بعدها أصبح عضواً في القيادة الثورية ومسئولاً لشؤون الثورة حتى مؤتمر أدوبحا. بعد ذلك مندوباً للقيادة العامة في السودان ومقره الخرطوم. وبعد المؤتمر الأول ظل يقود العمل السياسي والتنفيذي حتى تم تعيينه والأستاذ/ جابر سعد مسئولين عن التعليم. بعد تكوين التنظيم الموحد كان الأستاذ/ محمود معنا عضواً قيادياً ومسئولاً عن التعليم، وعندما توجهنا إلى أسمرا سمعنا بوفاته ولولا اعتلال صحته لدخل معنا“.
ورداً على سؤالي عن رأي الأستاذ في شكل وكيفية الدخول أجاب: ”النقاش مع محمود في هذا الشأن كان سيؤثر على صحته لذا لم نناقشه ولكننا كنا مقررين ندخل“.
كما سألته عن ما إذا كانت هنالك اتصالات أجرتها الحكومة الإرترية مع محمود شخصياً فأجاب: ”على حد علمي الأستاذ كان يقابل إسياس في منزل حسن كيكيا، وكان الحديث لا يتجاوز في هذه اللقاءات تناول أوضاع البلد بشكل عام“.
هكذا لخص إياي ما استطاع تذكره عن رفيق دربه محمود. أما طرحي للسؤالين الأخيرين فكان بقصد التحقق من وقائع ومرئيات كونت لدي قناعة، في ذلك الوقت، بأن الجبهة الشعبية شرعت، بُعَيْد التحرير، تفاوض محموداً وتدعوه للدخول بمفرده مقابل منصب رفيع في الحكومة. ولكن، هل قبل الأستاذ هذا الشكل من الدخول بما فيه من عروض ومغريات ؟؟. المشهد التالي يجيب على السؤال أعلاه:
في منزل الأستاذ محمود بالخرطوم ونحن نتابع معه نشرة أخبار العاشرة ليلاً في تلفزيون السودان، جاء خبر وصول أمين أمانة التعليم الإرتري (وزير وزارة التعليم) إلى السودان في أول زيارة له بعد تشكيل الحكومة الإرترية (المؤقتة)، فبدأ الخبر بعرض صوّر نزول الوزير ومرافقيه من الطائرة، فأشار الأستاذ بإصبعه إلى شاشة التلفاز قائلاً: ”المفروض أنا أنزل من هذه الطائرة“. بعد انتهاء نشرة الأخبار سألته: ولماذا لم تكن أنت النازل من تلك الطائرة ؟! أجابني وابتسامته المشرقة تسبق حديثه: ”الإجابة على هذا السؤال ستطول، ولكن ليس الآن ربما أجيبك في وقت لاحق“.
كان موقف الأستاذ من هذا الأمر واضحاً، وهو أن على الجبهة الشعبية أو حكومتها أن تتفاوض مع الآخرين على مستوى تنظيماتهم وليس بصفاتهم الفردية.
عليه نستطيع القول، أنه حينما شدّ البعض رحالهم إلى أسمرا بحثاً عن المناصب والوزارات فإن الوزارة قد أتت بنفسها إلى محمود فركلها برجله، وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدل على بعد نظر الأستاذ، وهي مَيزة من مَيزات وصفات حميدة كثيرة وعديدة يذكره بها الناس، حسبه منها أنه لم يعرف بأنه أثرى واغتنى من الثورة والنضال باستغلال مناصبه وعلاقاته، فقد عاش زاهداً وخرج من هذه الدنيا تاركاً أسرته، التي ناضلت معه بدفع ضريبة غيابه المستمر عنها وتفرغه لقضية شعبه، تركها في منزل إيجار صغير يعرفه الكثيرون بتواضع وقِدَم بنيانه، وتصدع جدرانه، وضيق مساحته، ومع ذلك عُرِف ذلك المنزل بسعة ورحابة صدر ساكنيه.
وأخيراً وليس آخراً لزم التنويه بأن أصل الأوراق المعنونة بـ (مقابلة مع محمود محمد صالح) بالإنجليزية، وقد طبعت في حينها بالآلة الكاتبة، ونتوقع أن يعيد الزميل الأستاذ/ صالح جوهر، إذا أسعفه الوقت، طباعتها ويجري اللمسات التحريرية على بعض أخطائها المطبعية ومن ثم نشرها. وبدوري أعتذر لمن يراني قصرت في حق الرجل، وأحسبني كذلك. ولولا أن الإحاطة بكل صغيرة وكبيرة عن حياة الأستاذ أصبحت عسيرة، واليد قصيرة لألفت عنه كتاباً.
ولكني أعد القارئ الكريم، إن أمد الله في العمر وتوفرت وثائق مماثلة لروادنا ورموزنا، بتسطير حروف ملاحمهم في حلاقات كهذه.. لعلَّها تبعث همم القاعدين اليائسين من شبابنا عن معركة إسترداد الحقوق ورفع المظالم وإرساء دعائم العدالة والحريات والسلام والديمقراطية في ربوع بلادنا الحبيبة.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.