حوار مع المناضل محمد أمان - رغم اللجوء ومعاناة الغربة كان شعبنا بمثابة صمام أمان للثورة
حاوره الإعلامي الأستاذ: أبوبكر عبدالله صائغ - كاتب وصحفي ثقافي مهتم بالتأريخ
في بداية حواري معه سألته عن الأسم ومكان الميلاد؟
فقالً: إسمي محمد أمان أدم عبدالقادر، من مواليد مدينة "عدي خوالا".
وعاش سنوات الشباب بمدينة تسني، التى هاجر إليها عام 1952م عندما إجتاحت قوات الإمبراطور/ هيلى سلاسي إرتريا، تركت أهلي ورحلت إلى مدينة تسني الحدودية، وكانت رغبتي الهجرة إلى مصر بحثاً عن العلم والدراسة، ولكن لم أتمكن من المغادرة لأن الأجهزة الأمنية الإثيوبية كانت تترصد حركة كل الإرتريين وخاصة فئة الشباب، وكانت الأجهزة الأمنية تضيق الخناق على حركة الشباب، ورغم ذلك عمت المسيرات العمالية والطلابية المدن الإرترية، كان لها صدى واسع في أوساط الإرتريين في تسني، وإن ظهور تنظيم حركة تحرير إرتريا، وإنتشاره بسرعة البرق في أوساط الإرتريين ساهم في نشر الوعي السياسي لدى عامة الناس، وفي تلك الفترة إلتقيت بعدد من الشباب الإرتريين بمدينة تسني طلبوا مني الإنضمام إلى الحركة وعدم التفكير في المغادرة، وقبلت طرحهم وأصبحت عضواً في حركة تحرير إرتريا، حيث كنت أقوم بتوزيع ولصق المناشير الثورية التي تدعو الشعب الإرتري للمقاومة أمام المحلات التجارية والمقاهي.
شهدت فترة نهاية الخمسينيات نشاطاً سياسياً ملحوظاً ومحموماً، ساهم في خلق وعي سياسي متقدم بضرورات المرحلة وكيفية مواجهة الإحتلال الإثيوبي المدعوم من الغرب عموماً. وأذكر في إحدى الليالي وزعت وألصقت أكثر من خمسين بيان ومنشور سياسي في شوارع تسني.
بعد مرور إسبوع إكتشفت القوات الإثيوبية أسماء الذين قاموا بتوزيع تلك المنشورات، وأذكر منهم شخصي الضعيف، إبراهيم، برهي ولد ماريام الموجود حالياً في تسني وآخرون كثر، بلغ عددهم حوالي 60 ناشط.
ولم نكتف بتوزيع المنشورات والبيانات في الأسواق ،بل كنا نقوم بتوزيعها أمام مراكز الشرطة، وبدأت القوات الإثيوبية بشن حملة إعتقالات واسعة في تسني، بلغ عدد الذين تم إعتقالهم حوالي 60 شخص، وحين سمعنا خبر الإعتقالات ذهبنا نحن الثلاثة، أنا، وإبراهيم، وبرهى ولد ماريام إلى مركز الشرطة وإعترفنا لهم بأننا كنا نوزع المنشورات، حيث أعتقلتنا الشرطة ودخلنا السجن وأثناء التحقيقات سألنا المحققون لماذا فعلتم ذلك؟
قلنا لهم نحن نعترض على الوجود الأثيوبي ولا يمكن أن يعيش الشعب الإرتري تحت الإحتلال مهما كانت قوته، إن إعترافاتنا ساهمت في تخفيف العقوبة، حيث حكم علينا بالسجن مدة 40 يوماً، وبعدها تم إطلاق سراحنا بحجة إننا صغار في السن، ودفعتنا جهات ما لفعل ذلك. وكانت أعمارنا في تلك الفترة لا تتجاوز السبعة عشرة عاما. خرجنا من السجن ورجعنا إلى منازلنا.
وحين إندلعت الثورة عام 1961م بقيادة القائد الشهيد/ حامد إدريس عواتي إنتشرت الأفراح في ربوع بلادنا، وإشرأبت الأعناق وتهيأت النفوس للإلتحاق بالشهيد القائد/ عواتي. وبعد حادثة إغتيال الوزير/ حسنو في أغردات قررت الإلتحاق بالثورة وكان ذلك في عام 1962م وبلغت الخلية بأنني ذاهب إلى الثورة، فقالوا أحمل معك هذه الأواني وكانت عبارة عن صحون وأكواب وطناجر، حملت الأواني، وقابلني المناضل/ محمود محمد صالح وإستلم مني الأواني وقال لي إرجع إلى تسني، وسوف نستدعيك بعد ثلاث سنوات، ورجعت إلى تسني وغادرتها إلى منطقة أم حجر ثم إلى حمرا.
وصل إلى المنطقة أيضاً المناضل/ إبراهيم إدريس توتيل، وأذكر طلبوا مني الإنضمام إليهم، وهم لا يعلمون نشاطي السابق، وافقت على العمل معهم والإنضمام إلى خلاياهم في مدينة أم حجر وحُمرا، كان هناك عدداً كبيراً من شباب كرن في أم حجر وحُمرا. وفي عام 1964م إلتحقت مرة أخرى بالثورة وقابلت المناضل/ محمود محمد صالح الذي طلب مني حمل رسالة وإيصالها إلى أسمرا للسيد/ عبدالقادر شمباش، وكان ذلك في عام 1964م.
وسلمت الرسالة ورجعت إلى حُمرا مرة أخرى للبحث عن السيد/ محمد برهان نقاش، ولكن بلغنى بأن محمد برهان نقاش غادر قبل ثلاثة أيام من قدومي إلى أسمرا، وإلتقيت بشخص إسمه/ برهي وركبت معه في شاحنته وأوصلني إلى بارنتو، ومنها عبرالبصات وصلت إلى تسني وواصلت نشاطي السياسي متنقلاً بين أم حجر وتسني وحُمرا.
وبعد المجزرة التي إرتكبتها القوات الإثيوبية في مدينة أم حجر عام 1967م قررت الإلتحاق بالثورة وكان ذلك عام 1967م حيث تلقيت التدريب العسكرى في المنطقة الثانية، وبعد الإنتهاء من التدريب إستدعاني الشهيد/ عمر إزاز وقال لي سوف تذهب إلى المنطقة الخامسة التي بها عدد من المناضلين من أبناء المرتفعات، وأنت ستكون عوناً لهم لأنك تجيد اللغة العربية والتقرينية والتقري، وسوف تساعدهم في الترجمة، وذهبت إلى المنطقة الخامسة.
وأذكر أن سكرتير المنطقة الثانية كان الشهيد/ محمد سعيد باره، وحصلت مواجهات دامية بين المقاتلين في المنطقة الخامسة والقوات الإثيوبية، ونفدت على إثرها الذخائر من الثوار، وقررنا أرسال وفد من المنطقة الخامسة لمقابلة الشهيد/ عمر أزاز ولطلب الدعم بالسلاح والذخائر، لأن أوضاع المقاتلين بالمنطقة الخامسة كانت صعبة بسبب عدم وجود ذخائر، وكنت ضمن الوفد القادم من المنطقة الخامسة لمقابلة الشهيد/ عمر أزاز، ووصلنا إلى مقر القيادة في المنطقة الثانية، وطلبنا الدعم والذخائر، ولكن الرد كان سلبياً بعدم توفر إمدادات عسكرية كافية نتقاسمها معكم.
وقلت لهم ماذا نفعل إذاً؟
لا يمكن أن نحارب القوات الإثيوبية بالسلاح الأبيض، وأخيراً تدخل المناضل الشهيد/ محمد سعيد باره وقال للشهيد/ عمر أزاز إذا لم تدعمهم بالسلاح ليدافعوا عن أنفسهم ستقضى عليهم القوات الإثيوبية وتصل إلينا هنا.
وقال له هذا الأمر لا يحتاج إلى نقاش يجب أن ندعمهم بالسلاح، وأخيراً إقتنع الشهيد/ عمر أزاز براي الشهيد/ محمد سعيد باره وفتحوا لنا مخازن الأسلحة وأعطونا كميات لا بأس بها ورجعنا إلى المنطقة الخامسة.
دور المنظمات الجماهيرية والشعب الإرتري في دعم الثورة؟
يقول: الجماهير الإرترية في بلاد المهجر عموماً والسودان خصوصاً لعبت دوراً بارزاً في دعم الثورة الإرتري وحمايتها وإستمراريتها، والشعب الإرتري كان بعيداً جداً عن أجواء القبلية والعنصرية، وكان متحمساً للوقوف مع الثوار ودعمهم،أذكر حين كنت في المنطقة الخامسة في نهاية عام 1967م أن الشهيد/ صالح "ططو" والشهيد/حليب ستي، جاؤا إلينا في المنطقة الخامسة للاطلاع على الاوضاع،لأن الإمبراطور/ هيلى سلاسي كان يهدد بأنه سوف يقضي على الثورة الإرترية وهي في مهدها، وأن الذين تجاوزوا المنخفضات ووصلوا إلى المرتفعات مصيرهم الموت المحتوم، خلال زيارة الشهيدان أنا كنت أقوم بدور المترجم، والشهيد/ حليب ستي لاحظ وجود شخص كبير في السن من الجماهير يتعقب خطواتنا ويستمع الينا، إلتفت الشهيد/ حليب ستي نحوي وقال لي كن حذرا من ذاك الرجل وراقبه، وفجأة إلتفت إليه وقلت له السيد/ برهي ماذا تريد؟!
وقال لي: هناك موضوع خاص أرغب في الحديث حوله معك؟
قلت له: ما هو الموضوع؟
قال لي: هيلى سلاسي صديقي وأرسلني إليكم لكي أبلغكم رسالة معينة؟
قلت له: ما هي؟
قال لي: هيلى سلاسي يقول لكم إذا تركتم ميناء عصب لإثيوبيا سوف نمنحكم إستقلالكم.
قلت له: نحن فقط مجرد مقاتلين وهذا الكلام ترد عليه القيادة السياسية العليا والجهات التنفيذية، والأمر متروك للشعب الإرتري، دوري سوف يقتصر فقط في تبليغ القيادة بهذا الطرح، ثم بلغت الشهيدان/ صالح "تطو" وحليب ستي بذلك، ضحك حليب ستي من طرح الرجل.
وقال: أجمعوا السرايا الثلاث، وعقد لنا إجتماع ثم طلب مني مخاطبتهم وتنوير المقاتلين بالطرح الذي سمعته من السيد/ برهي، شرحت لهم ما قاله لي بالتفصيل متضمنا أبعاد التهديد الإثيوبي.
بعد خلافات حادة ولدت قوات التحرير الشعبية من رحم المعاناة وأعطت أملاً جديداً، وكنا في تلك الفترة نتعرض للملاحقة من قبل الشرطة السودانية، ونتيجة لذلك تعرضت للأعتقال عدة مرات في السودان، ورغم الظروف المادية القاسية التي كنا نعيشها كان الإخلاص والوفاء ديدننا.
والجماهير في السودان لعبت دوراً بارزاً في دعم الثورة الإرترية عن طريق التبرع بكل ما تملك، والمنظمات الجماهيرية التي كانت تشمل كل قطاعات وفئات الشعب الإرتري كانت تمثل ركيزة أساسية إستندت عليها الثورة حتى وصلت السفينة إلى بر الأمان بتحرير كامل التراب الأرتري.
لم ينقطع دعم الجماهير يوماً ما عن الثورة، بل زحفت الجماهير الإرترية من الريف الإرتري للوقوف بين الفئتين المتحاربتين إبان الحرب الأهلية المشؤومة.
حين سألته اين كان بعد تلك الرحلة؟
قال المناضل/ محمد أمان (قبل): من اليمن دخلت إلى إرتريا عن طريق البحر في منطقة "حليمة" في دنكاليا، وثم دخلت إلى السودان وعملت في مكتب الإقتصاد بالخرطوم.
ويقول المناضل/ محمد أمان (قبل) عن مواقف ذكريات خلال مسيرته النضالية:
بمناسبة عيد الإستقلال أرغب في الحديث عن الدور البطولي والدعم الغير محدود الذي قدمه الشعب الإرتري في السودان، والتاريخ سوف لن ينس مواقفهم الشجاعة تجاه الثورة، والشعب رغم اللجوء ومعاناة الغربة كان بمثابة صمام أمان للثورة.
الآن وبعد مرور ما يقارب العقدين من الإستقلال، ماذا تقول للشعب الإرتري في هذه المناسبة وأيضاً للشباب الإرتري لمواجهة التحديات التي تواجه دولتنا الفتية؟
الشعب الإرتري صنع المعجزات في السابق بوقوفه مع ثورته، والدولة الإرترية شهدت تطوراً ملموساً في كافة مناحى الحياة، والمنجزات التي تحققت يجب المحافظة عليها، رغم محدودية الإمكانات والمواد إستطعنا خلال العقدين الماضيين أن نحقق مالم تحققه دول كثيرة في المنطقة والعالم، نحن شعب يفتخر بمنجزاته وبإنتمائه لوطنه، ولولا ذلك لما وصلت الدولة الإرترية إلى هذه المرحلة الهامة، والتي تطلبت مضاعفة الجهد لصنع أمجاد ومعجزات أخرى.
المناضل محمد أمان (قبل) كان رجلا صادقاً مؤمناً بعدالة قضية الشعب الارتري، كان شجاعاً صبوراً مثابراً تحمل الصعاب والاخطار التى تعرض لها حيث حكى لى عن فترة المفاصلة بين قيادة جبهة التحرير الارترية وبين الرافضيين لنهج تلك القيادة وعن التصفيات التى تلت مرحلة بعد مؤتمر أدوبحا حيث كان المناضل محمد أمان قبل وعدد من رفاقه في قائمة المطلوبين لدى قيادة الجبهة حيث هرب من كسلا ووصل الى داخل الاراضي الاثيوبية وعبر منطقة الحمرة وصل الى داخل ارتريا.
خلال فترة وجوده في الخرطوم في منتصف السبيعنيات من القرن الماضى ضمن أعضاء المكتب الاقتصادى سرد لى الكثير من الملاحظات والانطباعات عن المناضليين القادمين من الداخل وعن الصراعات التى كانت تدور هناك في الخرطون بين أجنحة الثورة المتصارعة.
كان خلال فترة وجوده في الخرطوم في المكتب الاقتصادى يستقبل المماضلون الذين يحملون الاموال القادمة من الخاراج في مطار الخرطوم، ثم يحمل الحقيبة من داخل قاعة الاستقبال ويخرج بها. كما حكى عن المناضلون القادمون من ساحة الميدان عندما يصلون الى الخرطوم إستعدادا ً للسفر للخارج في مهمات ثورية وهم قيادات قوات التحرير الشعبية ثم قيادة الجبهة الشعبية بعد المفاصلة أيضاً. بعد الاستقلال مباشرة ترك العمل العام وتم تسريحه ليعمل أعمال حرة منطلقاً من الصفر.
قلت له لماذا تركت العمل الحكومى والسلطة ببريقها بعد الاستقلال؟
قال لى: دون تردد ناضلت من أجل إستقلال ارتريا وتحققت أمنيتى ولم أرغب في أكون جزء من مشاحنات السلطة بحثاً مكاسب خاصة وإختر الانزواء بعيداً عن السلطة وأهلها وإحتفظت بعلاقة جيدة برفاقي.
كنت أزوره في محله التجارى الذى منحه له الرئيس أسياس أفورقي تقديراً منه لنضالاته وحكى لى عن المعوقات التى واجهته من قبل إدارة الاقليم الاوسط في عهد السيد/ سمرى رسؤوم الذى كان يتلكأ في التصديق على الأوامر الصادرة إليه من مكتب الرئيس، وبعد شهور من التردد لمكتب ادارة الاقليم الاوسط أخيرا تدخلت سكرتيرة الرئيس مباشرة عبرإتصال هاتفي وبلغتهم بضرورة منح المناضل محمد أمان (قبل) المحل التجارى الكائن بالقرب من صيدلية حماسين.
تم إفتتاح المحل التجارى كمعرض للستائر الحديثة حيث كنت أزوره في محله بإستمرار ونتبادل أطراف الحديث، وأذكر إنه ساعدنى في الوصول الى عدد من الناجيين من مجزرة "مسيام" التى نفذتها قوات الاحتلال عام 1970م وقام بجهود جبارة لتجميعهم من مختلف أنحاء إرتريا في إحدى المنازل بحى "ماى طحوت" حيث قمت بإجراء حواراً معهم ونشرته في صحيفة أرتريا الحديثة.
رحل عن دنيانا شهيداً دون أن يتلوث بحب السلطة ويتأمر على رفاقه ويسرق من أموال الشعب الارترى.
اللهم أرحمه وأغفر له.