الخلاوي القرآنية في مدينة كرن - الحلقة الثالثة
بقلم الدكتور: جلال الدين محمد صالح
الأب عندما يصطحب ابنه إلى القرآن: يصطحب الأب ابنه إلى القرآن وهو يحمل هموم تربيته على القيم
الإسلامية، فـ(القرآن) في حـس الآباء ليس هو محل لتعلم القراءة والكتابة فحسب، وإنما هو فوق ذلك بيئة مناسبة لتشكيل سلوك الأبناء وتوجيههم نحو وجهة حسنة، تحفظ حياتهم من الانزلاق في الانحرافات الأخلاقية.
من هنا أن الأب يطلب أول ما يطلب من الابن حين يأتي به إلى (القرآن) تقبيل يد الشيخ (سـعـم إدي سيدنا)، دليلا على الاحترام والتوقير لمكانة الشيخ، ثم يأخذ الابن مكانه ليبدأ كتابة الحروف الهجائية بأصبعه السبابة على الأرض الرملية، تحت إشراف الشيخ، أو من يوكله الشيخ من كبار طلابه، إن كان هذا الطالب لا علم له بالحروف الهجائية، أو يمسك بلوحه الخشبي، ليجلس أمام الشيخ على هيئة جلسة التشهد في الصلاة، وقدامه دواته، وبيده قلمه، ليكتب ما يمليه عليه الشيخ من حفظه، أو من المصحف.
وليس للقرآن لباس رسمي يرتديه طلابه، ولكن اعتاد الآباء أن يخيطوا لأبنائهم ثوبا (عراقي وسروالا) من قماش (أبو جديد)، لرخصه أولا، ثم لقدرته على تحمل تبعات الجلوس على الأرض، وما يتناثر عليه من قطرات الدواة.
وربما قليل من يعرف أن تعلم القرآن قبل الستينيات كان حكرا على الذكور، ثم بات ما بعد الستينيات حقا مشاعا للذكور والإناث معا، وهكذا بدأت الفتات الكرنية تأخذ مكانها في الخلوة القرآنية جنبا إلى جنب مع شقيقها، لكن مع الفصل التام بين الذكور والإناث، والجدير بالذكر هنا أن أول إمرأة تعلمت في كرن واشتغلت بمجال التدريس فيها هي الأستاذة (سعدية فرج)، ثم تلتها بعد ذلك أفواج إثر أفواج، من الأخوات، حتى شهدت المدينة معاهد إسلامية للبنات، إلى جانب المدارس الحكومية، والمقام هنا يناسب ذكر قرآن شيخ أبراهيم في ذلك التل الجبلي، الذي عرف (بكبت حرعت) أجارني الله وأياكم، ثم تحول إلى (كبت خير) بفضل هذا القرآن الذي تحول فيما بعد إلى معهد خاص بالبنات، ليكون ثان معهد بنات بعد معهد أمهات المؤمنين لأصحاب اليمين، وتخرجت من هذه المعاهد فتيات مؤمنات قانتات، نفع الله بهن الإسلام والمسلمين، تقبل الله منهن، وممن كان سببا في تعليمهن، وما زالت هذه المعاهد تؤدي رسالتها حتى اللحظة، والله يوفقها لمزيد من العطاء.
العقوبة في القرآن:
يعطي الأب لشيخ القرآن كامل الصلاحية في تهذيب ابنه، وتأديبه، من أول يوم يسلمه فيه، حتى لو اقتضى الأمر ضربه، قائلا له: (عـجـم إقـلـنا وسـجـاه إقـلـك) بمعنى (لـنا العـظـم، ولك اللحـم).
إن هذه المقولة بقدر ما تعطي الشيخ صلاحية ضرب الابن تضع حدا لهذا الضرب، وتقيده، بحيث لا يبلغ ضرره إلى القدر الذي يكسر العظم، وبهذا يدرك الشيخ حدود سوطه، أو عصاه، فلا يتعداه، فهي بمثابة عقد تربوي، بينه وبين الأب، في معاقبة الابن، إذا ما عصى.
ولعل اعتماد غالب المشايخ السوط في الضرب، بدل العصا، نابع من الانضباط بمقيدات هذه المقولة المأثورة، ومراعاتها عند اللجوء إلى هذه الوسيلة، في التربية القرآنية.
ولا يوقع الشيخ عقوبة الضرب إلا عند عبث الطلاب ساعة الحفظ، وانشغالهم بالمحادثة الجانبية، (الونسة) (هجك) مع بعضهم البعض، أوعند غياب الطالب من غير عذر مقبول، أواستئذان مسبق، أو عند إخفاقه في حفظ مقطعه.
والضرب في هذه الحالات كثيرا ما يكون بالسوط، إما على المقعدتين (الفندوت) من الخلف، أو على باطن القدمين، وهو المعروف بـ(الفلقة)، وإن من المشايخ من يستخدم العصا في ضرب الفلقة، وفي هذه الحالة لا بد أن يمسك بقدمي الطالب المضروب اثنان من كبار طلاب الشيخ، ممن لا يستطيع الطالب المفلوق الانتقام منهم لاحقا.
وكان الطلاب الذين يعلمون أنهم سيتعرضون للعقوبة، لسبب من أسبابها، يأتون وقد تهيؤوا لها بلبس سروانيين أو أكثر، حتى يتقوا ألم الضربة على المقعدتين، ولكن الشيخ بالمقابل أحدث ما أسماه بـ(شد القماش) حيث يأمر أحد طلابه الكبار أن يشد ثياب الطالب إلى الحد الذي يلتصق ببدنه، ثم ينهال عليه بالضرب، فيكون لضربه مفعوله القوي، ويتذوق الطالب مرارة ألمه، وربما أعمل الشيخ سوطه في ساقي الطالب، فيصرخ الطالب من الألم وينط، ويرى زملاؤه على خده دموعا تنهمر، وبهذا يكون عظة وعبرة لغيره، من أمثاله.
كيفية التعليم في القرآن:
اللوح، والدواة، والقلم القصبي، والمصحف، (الختمة) كما يسمونه، والأرض الرملية، كلها أدوات تعلم ضرورية وأساسية، لابد منها للدارس في (القرآن)، وأول ما يقرأ الطالب في (القرآن) هو الحروف الهجائية (أ، ب، ت، ث ...ألخ) يـتـقـن نطقها، ورسمها، وحفظها، على الترتيب الذي وضعت عليه، ويخرجها من مخارجها، وترى الشيخ يدربه على تمييز حرف (غ) من حرف (ق) وحرف (ث) من حرف (س) وحرف (ص) من حرف (س) وحرف (ض) من حرف (د) وهكذا يرددها الطالب، والشيخ يصوبه ويصححه، حتى يتمكن من نطقها نطقا سليما، قدر استطاعته، ثم ينتقل بعد ذلك إلى التدرب على نطق الحركات، وكتابتها (النصبة، الكسرة، الضمة، الجزمة) على الحروف الهجائية نفسها، فيقول: (أَ) نـصبـة، (إ) كـسـرة، (أ) ضـمـة، (بَ) نصبة، (بِ) كسرة، (بُ) ضمة، كما يتدرب أيضا على تركيب كلمات منها، فيقول: آن، إين، أون، بان، بين، بون، وهكذا يرتقي حتى يتمكن من القراءة، والكتابة، ويكون مؤهلا لإلتقاط وكتابة ما سيمليه عليه الشيخ من السور القرآنية.
الرمي والعرض:
الـرمي، والعـرض مصطلحان من مصطلحات الثقافة الإسلامية، ذوا صلة وثيقة بأصول التراث الإسلامي، في عهود توثيق الحديث النبوي، وتدوينه، اعتدنا على تداوله، وسماعه، ونحن طلاب في (القرآن)، الشيخ (يـرمي) والطالب (يـعـرض).
والمقصود بالرمي هو إملاء الشيخ من حفظه، أو من المصحف، المقطع المقرر حفظه على الطالب، ليكتبه على لوحه الخشبي، وذلك صباح كل يوم من أيام القرآن.
أما العرض فالمراد منه عرض الطالب من حفظه على الشيخ ذلك المقطع المقرر عليه حفظه مساء كل يوم من أيام القراءة، ليجيزه الشيخ، ويسمح له بمحوه غسلا.
وعند الرمي يأخذ الشيخ مكانه ساعة الشروق، ويتحلق الطلاب حوله، على شكل حرف (ن) الشيخ بمثابة النقطة في الحرف، والطلاب نصفه الدائري، جلوسا على هيئة جلوس التشهد في الصلاة.
وليس بالضرورة أن ينتظر الشيخ حتى تكتمل الحلقة، وإنما يبدأ بالرمي على من بكر بالمجيئ من الطلاب، ولكي يرمي الشيخ على الطالب لا بد أولا من أن يسمعه الطالب آخر ما وقف عليه مما رماه عليه البارحة، كأن يكون مثلا قوله تعالى: (ولهم فيها أزواج مطهرة، وهم فيها خالدون) وأول ما يسمع منه الشيخ آخر ما وقف عليه البارحة، من الآيات، فورا يرمي عليه الذي يليها، فيرمي عليه مثلا ما بعد تلك الآية وهو قوله تعالى: (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها).
بسرعة يلتقط الطالب من فم الشيخ ما سمعه، فيكتبه على لوحه، ويعيده عليه، فيرمي عليه الشيخ الذي بعده، وهكذا، حتى يأمره الشيخ بالتوقف، فيقوم من مجلس الرمي، ليتنحى إلى جانب من جوانب الخلوة، ويشرع في حفظ ما كتب، وترى الشيخ يرمي من حفظه إن كان حافظا، أو من المصحف إن لم يكن حافظا، في لحظات متقاربة من ساعة الرمي، على أكثر من طالب، في أكثر من سورة قرآنية، وغالبا ما يكون هؤلاء الطلاب من خيرة وأكفأ ما عنده، ثم بعد ذلك يوكل إليهم الرمي على من هم دونهم، في السن والحفظ.
عند الساعة التاسعة، أو الثامنة والنصف صباحا تقريبا يكون الرمي قد انتهى، وفي بعض الخلاوي يعود الطلاب إلى منازلهم للإفطار، ويأخذ الشيخ قسطا من الراحة من بعد تناول إفطاره، وشرب القهوة، ثم يعودون من بعد ساعة تقريبا، أو نصفها، ويقرأون حتى الثانية عشر والنصف، ظهرا، ثم ينفضون، ويسمونه (فداسي) وأظنها كلمة أطالية الأصل، ويعودون في الساعة الثانية ظهرا، ويقرأون إلى صلاة العصر، وقبل العصر يبدأ الطلاب في عرض ما حفظوه مما رمي عليهم صباح هذا اليوم على الشيخ، ليجيز منهم من يجيز، ويعاقب منهم من يعاقب، ويسمون هذا الفعل منهم بـ(العرضو).
والطالب المجاز يغسل مقطعه من لوحه الخشبي في خانة مخصصة لغسل الألواح، في ركن من أركان الخلوة، عليها أحجار متوسطة الأحجام، يغسل عليها الطالب لوحه، ويمسحه بمادة تسمي (الجير) وهو نوع من (الحجر) لكنه سهل التفتيت، يشتريه الطالب من السوق، وخاصة من سوق يعرف بـ(سوق بره)، ولعله سمي بهذا الاسم لكون الذين يرتادونه هم من أهل البر، (سب بر) أي أهل الريف، ومن هذا الحجر ما هو جيد ورديئ، والجيد منه ما يثبت على اللوح، ويُـمَـكِّـنُ القلم القصبي من الكتابة بانسياب، وبعض الطلاب يستخدم الرماد (شبل أتافئ) في تبيض لوحه، إلا أنه يعيق سير القلم، مما يستدعي نفضه، كما أن الألواح منها الرديئ وهو الذي عليه تقعرات (حفر صغيرة) ونتوءات، أما الجيد منها فهو ما كان ألمسا، سالما من هذه النتوءات والتقعرات، والألواح تباع في سوق بره، وأحيانا على أبواب جامع كرن، يؤتى بها من الريف الإرتري، وأيضا من السودان، وربما صنعها بعض نجاري مدينة كرن، من أخشابهم الزائدة.
وفي بعض الخلاوي (القرآن) يتلقى الطالب بجانب قراءة القرآن شيئا من مبادئ الفقه، والعقيدة، ونصوصا أدبية مختارة، من محفوظات اللغة العربية، والأناشيد الإسلامية، من ذلك حسبما أذكر منظومة في العقيدة الأشعرية، كان الطلاب ملزمين بحفظها في (قرآن شيخ أبراهيم)، (قرآن عد ياقوت)، ومطلعها هو:
أبدأ بسم الله والرحمن وبالرحيم دائم الإحسان.
ثم الصلاة والسلام سرمدا على النبي خير من وحدا.
وكذلك أنشودة الآباء التي كثيرا ما كنا نرددها عند نهاية اليوم القرآني، أو أيام الاحتفالات، ويقوم بتدريبنا على أدائها بلحن موحد، الاستاذ رمضان رحمه الله، الذي توفي بجدة، في الثمانينيات، تقبل الله منه، ونفعه بما علم، وعمل، وعلم، ومما أحفظ منها:
أهلا وسهلا بقدومكم أهلا.
شرفتمونا بحضوركم أهلا وعليكم سادتي منا السلام.
آباؤنا يا فخرنا أبناؤكم...
ألقوا نظركم نحونا وتعاهدونا كل حين.
إنا نقوم بحقكم دوما وذكرى فضلكم.
الله يجعلنا لكم خير القرابة والبنين.
وكما ترون بعض الأبيات ساقطة، وربما القصيدة غير مرتبة، وإنما كتبت ما هو في الذاكرة، واتصلت بالزملاء، فرقعت كلمة بأخرى، وكم أكون شاكرا لمن يحفظ هذه القصيدة بشكل صحيح، ويزودني بها.
نواصل بإذن الله... في الـحـلـقـة الـقـادمـة
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.