الخلاوي القرآنية في مدينة كرن - الحلقة الرابعة
بقلم الدكتور: جلال الدين محمد صالح
القرآن والرعاة: إذا كان في القرآن طلاب يشتغلون بالرعي، ولا يمكنهم الحضور على النحو الذي يلتزم به
من سواهم، حملوا معهم ألواحهم إلى البر من بعد أن يرمي عليهم الشيخ المقطع الذي يتوجب عليهم حفظه، وهنالك في الخلاء، وتحت ظل الأشجار، وعلى التلال، وبطون الأودية، ينفرد الراعي بلوحه فيحفظ مقطعه، وفي المساء بعد عودته يعرض على الشيخ ما حفظه فيجيزه، وفي الصباح قبل الانطلاق إلى الرعي يرمي عليه الشيخ مقطعا جديدا وهكذا، في عمل أشبه ما يكون بنظام الدراسة عن بعد، المعمول به حاليا في الجامعات المتخصصة.
وقليل من الخلاوي القرآنية (القرآن) من يقيم حلقات القرآن الليلية بعد صلاة المغرب إلى العشاء، وقد اختفت هذه الظاهرة تماما عندما سلط المستعمر الإثيوبي على المجتمع قانون حظر التجول، وممن كان يسير على هذا المنوال (القرآن) الذي أسسه والدي الشيخ محمد صالح حامد رحمه الله، مؤسس مؤسسة أصحاب اليمين التعليمية، في الستينيات، باسم مدرسه الإرشاد الإسلامي عندما استقدم بعضا من أبناء الكوناما والبازا، وأجلس لهم شيخا يعلمهم القرآن، وذلك في المسجد المجاور لمنزلنا، مسجد الخليفة جعفر، كذلك كان الشيخ طاهر بن شقيق الشيخ قاضي عمار يقيم ليالي قرآنية، وأحيانا ينشد فيها المدائح النبوية، وقد أسس هذه الخلوة الشيخ قاضي عمار، ومعه الشيخ عثمان بخيت، وكان للشيخ طاهر وكيل يقوم مقامه، يدعى (خليفة) وكان ينجذب للمدائح النبوية، ويدخل في حالة اللاوعي، إذا ما سمع أداء المديح النبوي، من زميله الشيخ الطاهر، الذي عرف بجمال الصوت، وحسن الأداء، أو من غيره، وربما أسرع إلى الجمار الموقدة ليلتهما، ما لم يبادر الحضور إلى الإمساك به، خشية عليه من الاحتراق.
وقرآءة (القرآن) ليلا هي جزء من تراث الثقافة الإسلامية في إرتريا، عرفه مسلموا منخفضات إرتريا، في القرى والحضر، إذ يتحلق الطلاب على نار موقدة، تتعالى ألسنتها لتضيئ الساحة، وتبعث على الأنفس روح الهمة، وتطرد عنها النعاس، وتسمى هذه النار بـ(المُدجى) إذ يأت كل طالب بعود من الحطب، ثم تشعل النار، وعلى ضوئها يقرأون، خلال الفترة المخصصة من الليل، إذ لاكهرباء يوجد، وإذ لا وقت كاف في النهار، لأهل الريف على وجه الخصوص، حيث الرعي، والزراعة، وسائر هموم الحياة، ومطالب المعيشة اليومية.
التكافل الاجتماعي في تعليم القرآن:
وإن من قرى الريف ما ليس فيه (قرآن) وشيخ مفرغ لتعليم القرآن، إما لأن أهل القرية رحل، تسوقهم المواشي إلى حيث الكلأ، ومنابت العشب، وليس لهم استقرار، وإما لأنهم لا يستطيعون تحمل تكاليف القرآن، وإما لأنهم لم يجدوا شيخا مناسبا، أو لسبب آخر من الأسباب، وفي هذه الحالة يأتي الحريصون منهم على تعليم أبنائهم القرآن أقرب مدينة إلى ريفهم، ويبحثون عمن يتكفل بتعليم ابنهم القرآن، من الأسر الميسورة، وقد عرفت كرن هذا النوع من التكافل في تعليم القرآن، وتبنت بعض أسرها أطفالا من أبناء القرى، يأتي بهم آباؤهم، ويسندون أمر تعليمهم القرآن إلى أسرة من الأسر، إما لقرابة تربطهم، وإما لمعرفة سابقة تصلهم، وإما من باب الإحسان، والتعاون على البر والتقوى، يأوون إلى منزلها، ويعيشون بين أبنائها، ويلبسون مما يبلس منه أبناؤها، ويقرأون في القرآن نفسه الذي يقرأ فيه أبناؤها، ويكونون واحدا من الأسرة، ومن جانبهم لا يقصر هؤلاء الطلاب الوافدون، في خدمة الأسرة المضيفة، والمشاركة في تقديم الخدمات المنزلية، مثلهم في ذلك مثل أبنائها، وكان أكبر عدد كفلتهم الأسر الكرنية من طلاب القرآن الوافدين إلى كرن هم أبناء الكوناما الذين استقدمهم والدي الشيخ محمد صالح حامد رحمه الله من سوسنا، وو زعهم على بعض الأسر الكرنية، فقامت الأسر الكرنية ـ جزى الله الجميع خيرا ـ أحسن قيام بما يلزم أمر تعليمهم.
الإجازات في القرآن، وأجرة نهاية الأسبوع:
القرآن أو الخلاوي القرآنية باعتبارها حقل من حقول التربية والتعليم لا بد أن تكون لها أيام ومناسبات تعطل فيها، ترويحا على الطلاب، وتنشيطا لهم، والإجازات في الخلاوي القرآنية، أو (القرآن) كما تعودنا على تسميته، منها ما هو أسبوعي، ومنها ما هو سنوي، فالإجازة الأسبوعية هي يومي الخميس والجمعة، وأول من سن هذه الإجازة في التاريخ الإسلامي هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لكن جرى العرف في كرن على أن أن يسدد كل طالب الذي عليه، من أجرة نهاية الأسبوع، تعطى للشيخ مساء يوم الأربعاء، وهي عشر سنتيمات، بجانب ما يعطى له آخر الشهر ريالا واحدا، أما الإجازات السنوية فهي إجازتي عيد الفطر والأضحى، ورأس السنة الهجرية، ويوم المولد النبوي.
الشرافة والختمة:
الشرافة، والختمة، مصطلحان طالما تداولته الخلاوي القرآنية في كرن، وفي غير كرن، من مدن المسلمين.
الشرافة بضم الشين المشددة، وفتح الراء المشدد، على وزن (فعالة) وهي صيغة المبالغة في اللغة العربية، مأخوذة من (شرف) الشيئ إذا علا قدره، وعظم شأنه، والمراد بها هنا السورة القرآنية التي نال الطالب بوصوله إليها مرتبة من مراتب الشرف القرآني، وعلا بها قدره، وعظم شأنه، وعليه أن يظهر ذلك بإقامة حفل في اليوم الذي يبدأ عليه الشيخ رمي هذه السورة، وبهذه المناسبة يلزمه تزيين لوحه برسم جامع بمنارة، وقبة، يقوم برسمه واحد من ذوي الموهبة الفنية من طلاب الخلوة، ولا بد أن يترك هذا الرسام قلب اللوح ووسطه مخصصا لكتابة ما يرميه الشيخ من آيات السورة المحتفى بها، بينما يزين الأطراف بألوان شتى من ألوان الصباغ، واستعمال الصباغ في رسم الشرافة أحب إلى أنفس الطلاب، من استخدام أقلام التلوين المدرسية، لأنه أطول مكثا، وأشد بروزا، وتختار الألوان بكل دقة وعناية، وتناسق، حتى تكون متناغمة، ومناسبة، فالقبة مثلا تلون باللون السماوي، ولا يألو فنان الخلوة جهدا في إظهار ملكاته الفنية، وإبداع أجمل صورة شرافة، تنطبع على الأذهان، قبل أن تنطبع على الألواح، وكان رسام (قرآننا) سليمان محمد بخيت، صاحب ذوق رفيع، وقد نمت فيه هذه الموهبة، فتخصص لاحقا في الفن التشكيلي، وتخرج فيه من جامعة دمشق، عاصمة الأمويين، واتخذ من مدينة أوربرو بالسويد سكنا له، بعد مضي ثلاثين عاما من الاغتراب والتنائي، قابلته قريبا في لندن، وتذاكرنا معا أيام القرآن، وملكاته الفنية في رسم الشرافة، والتي جعلت منه فنانا محترفا، يمارس اليوم الفن التشكيلي، بكفاءة متخصص.
وعمل الشرافة يشعر الطالب بأنه أنجز شيئا مهما في تعلمه للقرآن، ويرفع من معدلات حماسه لإكمال المشوار القرآني، والمضي في ارتقاء درجاته العليا، ويجد من الأسرة تشجيعا، ودفعا معنويا، عندما تخبز له الأم خبزة (قجة) سواء في مخبز المنزل (المققوا) أو بإرسالها إلى المخبز الآلي، من بعد أن تحضر لها تحضيرا جيدا، بتوفير جميع مستلزماتها، مطعمة بحبة السوداء، ولأن الطلاب يتباهون فيما بينهم، ويتفاخرون بما يخبزون، يهتم كل منهم بالجودة في صناعة الخبزة (القجة)، كما أن كل أسرة تحرص على حسن سمعتها، وتتجنب قدر الإمكان إحراج ابنها، فتبذل أقصى ما تستطيع في الاهتمام بالجودة، بما في ذلك الشاهي الذي تفوح منه نكهة منعشة، ومُـشـهِّـية، لما يوضع فيه من الهيل، أو القرنفل، لذا تحرص صانعة الشرافة، أما كانت، أم أختا، على إبراز كل قدراتها الذوقية، والمطبخية في إخراج (قجة) الشرافة إخراجا حسنا، لتصل إلى القرآن وهي في أحلى طعم، وأجمل منظر، يتحدث عنها الطلاب أياما، وأياما، لذا تجد تفاوة وتمايزا بين خبزة (قجة) وأخرى، وإن من هذه المخبوزات خبزة (قجة) إذا وضعت عليها يدك ألفيتها ناعمة، وكأنك تلمس حريرا، وإذا ما طعمتها ومضغتها، قلت من حلاوتها هل من مزيد، وإذا ما أجلت إليها نظرك من قرب، بدت لك في أروع شكل فني خلاب، مشوب بألوان الصفار، والسواد.
وأول ما تأتي الشرافة (القجة) مكسوة بقماش أبيض، في صينية، ومعها (الشاهي) إلى القرآن من منزل الطالب يحملها نفر من طلاب القرآن، يختارهم الشيخ، تشرأب إليها أعناق الطلاب، ويتهامسون بشأنها وينكتون، وتخيم على القرآن حالة من الصمت المشوب بالفرحة والحبور، ثم تقطع الشرافة (القجة) تحت إشراف الشيخ، إلى قطع بعدد طلاب القرآن، ثم توزع على الجميع، وإذا ما فاض منها يعاد تقسيمه ثانية، فربما وصلت كل واحد منهم قطعتان، ويومها يفرح جميع طلاب القرآن ويبتهجون، كما يفرح صاحب الشرافة ويبتهج.
وفي يوم الشرافة يطرق بعض الطلاب ومعهم ألواحهم المزينة برسم الجامع، أبواب بعض المتاجر في السوق، يعرضون أ لواحهم، ويترنمون ببعض الأناشيد التي منها (عندنا شرافة، شرافة نبينا محمد) ويحظون ببعض الجوائز، والهبات المشجعة.
وأما الختمة فهي التي تكون عند ختم القرآن بإكمال سورة البقرة، رميا من الشيخ، وعرضا من الطالب.
والمصحف يسمى في عرف مسلمي إرتريا (ختمة)، لكونه يحوي القرآن من أول ما نزل منه إلى آخر ما ختم به، أو لأنه خاتم الكتب السماوية، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل عليهم السلام جميعا.
سور الشرافة:
وسور الشرافة في (القرآن) محددة، فقد تعارفت الخلاوي القرآنية عندنا على أن تكون الشرافة في السور التالية:ـ
سورة النبأ (عم يتساءلون عن النبأ العظيم) ويقدم الطالب خبزا وشايا (قجت وشاي).
سورة الملك (تبارك الذي بيده الملك) ويقدم الطالب خبزا وشايا (قجت وشاي).
سورة المجادلة (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) ويقدم الطالب خبزا وشايا (قجت وشاهي).
سورة الرحمن (الرحمن علم القرآن خلق الإنسان) ويقدم الطالب خبزا وشايا (قجت وشاهي).
سورة ياسين (يس والقرآن الحكيم) ويذبح القادر من الطلاب شاة، وإلا قدم (قجت وشاهي).
أما الختمة فهي أعلى درجات الاحتفال، ولا تكون إلا بعد ختم القرآن بإكمال سورة البقرة، والطالب الميسور يذبح بقرة، وما رأينا أحدا فعل هذا في مدينتنا كرن، وما شهدنا إلا بما علمنا، وما كنا للغيب حافظين.
نواصل بإذن الله... في الـحـلـقـة الـقـادمـة
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.