قومية الكوناوما في إريتريا فلسفة الموت والأمومة
بقلم الأستاذ: محمود أبوبكر - صحافي مختص في شؤون القرن الافريقي المصدر: اندبندنت عربية
ظل هذا المجتمع محافظاً على عاداته وطقوسه بعيداً نسبياً من التأثيرات الثقافية للشعوب المجاورة.
تعد قومية "الكوناما" إحدى المجموعات الإثنية القديمة في إريتريا، وعلى رغم صغر حجمها، الذي لا يتجاوز اثنين في المئة فقط من السكان، فإنها تتمتع بثراء ثقافي وفني لجهة تمسكها بلغتها العائدة للعائلات النيلية الصحراوية، فضلاً عن "نظام القيم" الخاص بها، ومجموعة العادات والتقاليد، التي يوصف بعضها بالغرائبية، قياساً بالقوميات الإريترية الأخرى.
وظل هذا المجتمع الذي يعيش بمحاذاة نهري القاش وسيتيت (جنوب غربي إريتريا)، بالقرب من الحدود الإثيوبية، محافظاً على تقاليده وطقوسه وبعيداً نسبياً من التأثيرات الثقافية للشعوب المجاورة.
ويعتقد أن أول ذكر لهذه القومية، تم تدوينه في كتاب المؤرخ والجغرافي العربي أحمد بن إسحاق اليعقوبي (تاريخ اليعقوبي 872 ميلادي)، وتم ذكرهم لاحقاً في عدد من المراجع التاريخية التي أشارت إلى أنهم يعيشون في وادي بركة، ويقاتلون بالأقواس والسهام المسمومة والرماح، ويعبدون إلهاً يسمى "آنا" في مجتمع يحكمه نظام الشيوخ.
مجتمع أمومة:
يذكر القانوني والمتخصص بتراث هذه المنطقة عبدالله خيار أن "الكوناما" تعد مجتمعاً أمومياً، على عكس القوميات الأخرى المتاخمة التي تتبع نظام المجتمع الأبوي، وينحدر هذا النظام، وفق بعض الدراسات الأنثروبولوجية من الأسر التاريخية القديمة، ويبرز دور المرأة كعنصر مركزي في هذا المجتمع الذي ينسب الفرد لأمه، كما لا يمكن اعتبار الطفل منتمياً لهذه القومية إن لم تكن أمه من "الكوناما" حتى لو كان الأب منتسباً لها.
وتتميز هذه العرقية بأنها متماسكة البنية المجتمعية ولديها نظام تاريخي للتكافل، فقلما تجد شخصاً جائعاً، إذ إن ما يتم توفيره من غذاء وملبس وغيره يعد حقاً لعموم أفراد المجتمع، كما أن النظام القضائي التقليدي تاريخياً يؤسس لشمولية العقوبة بحيث يسهم كل أفراد المجتمع في تقاسم العقوبة، سواء كانت غرامة مالية أو حيوانية أو غيرها، باعتبار أن الفرد الذي تقع عليه العقوبة جزء أصيل من المجتمع، وعليه، يتم التكافل لتحمل المسؤولية الجماعية في سداد أي مطلب جزائي.
ويؤكد خيار أن "المرأة تتمتع بقدر كبير من الحرية"، إذ يتم بناء بيت منفصل لأي فتاة بالغة لتخطط لحياتها بشكل مستقل، ولا تقع عليها ضغوط متعلقة بالزواج مثلاً، كما أن الزواج ليس شرطاً أساسياً للخلفة، إذ تتمتع الفتاة البالغة بحرية الاختيار بين أن تتزوج أو تبقى عازبة، وفي كلتا الحالتين، فإن أبناءها ينسبون لها ويتمتعون بحق الوراثة على عكس النظام الأبوي.
وبالإشارة إلى مركزية المرأة في هذا المجتمع، يوضح خيار "أن لغة الكوناما تخلو من مفردات التأنيث والتذكير، ويتم التعاطي بين الجنسين من دون تمييز، فعند مناداة الرجل أو المرأة يستخدمون كلمة (أوا) بمعنى تعال للذكر والأنثى سواء، والأمر كذلك في قومية (نارا) التي تتقاطع في عدد من السمات اللغوية مع الكوناما". ويؤكد المهتم بتراث هذ القومية "أن الكوناما عموماً مجتمع يميل إلى الفرح والبهجة، وأغلب طقوسه المجتمعية والروحية لها علاقة وثيقة بالغناء والرقص، وهو مجتمع يعيش ليومه بكل بهجة وسرور، من دون حسبة دقيقة للغد، إذ يعد الغد مجهولاً لا يستحق كثيراً من التفكير والادخار، وذلك وفق قاعدة حياتية تقوم على أن الإله سيعتني في شأن الغد، وعلى الإنسان أن يهتم ويدبر شأن يومه بكل ما يستحقه من بهجة وصخب، إذ يرددون عبارة، آنا كوسكي، كلما سئلوا عن الغد وتعني الإله موجود".
فلسفة الموت:
ويكشف المتخصص في فنون وثقافة "الكوناما" عبدالرحيم هايتين عن أن "للكوناما فلسفة خاصة في تعاطيهم مع الموت، إذ إن الموت لا يعني أبداً النهاية، بقدر ما هو إيذان لحياة أخرى جديدة، إنهم يحتفلون برحيل الطاعنين في السن بشكل مبهج يتضمن وداعاً صاخباً وكبيراً"، ويعتبرون أن الشخص الذي يملك أحفاداً قد أنهى مهمته الأولى في الدنيا، وأن انتقاله إلى الحياة الثانية أمر ينبغي الاحتفال به، بما يليق بصخب حياته الأولى، كأن يتم زفه بالزغاريد والغناء والرقص لسبع ليال كاملة، في احتفال يسمى محلياً بـ"كشكشة" ويمنع البكاء، باعتبار أنه عاش وأتم رسالته في الحياة، وأنه ينتقل إلى حياة أخرى ليست أقل صخباً من الأولى.
ويتكفل الأحفاد غالباً بمهمة الاعتناء بالاحتفالات الراقصة، إذ يتم نصب الخيام لاستقبال الضيوف وذبح عشرات المواشي لإطعامهم طوال الأيام السبعة التي تخصص للاحتفال وسرد مآثر الراحل المبارك من الرب.
ويختلف الأمر تماماً في حال وفاة شخص في مقتبل العمر، بخاصة إذا كان غير متزوج، وليس له أبناء، إذ تستمر طقوس الحزن لعام كامل، إذ تبكيه أمه وتمعن كل صباح في أداء مواويل من النحيب، الذي ينقب في خصاله لمدة عام، أما إذا كان متزوجاً فتقوم الزوجة بهذه المهمة لمدة عام أيضاً، باعتبار أن حياته قد أجهضت قبل ميعادها، وأنه لم يكمل حياته كما ينبغي.
ويقرأ هايتين هذه الميزة بكونها تعبيراً عن فلسفة الحياة والموت لدى هذه المجموعة العرقية، فهي كأغلب المجموعات النيلية والكوشية تتكئ على موروث قديم من الأساطير التي تؤمن بحياة كاملة ما بعد الموت، كما في الحضارة الفرعونية، بالتالي، عمد مجتمع "الكوناما"، قديماً، إلى نقل الموتى لكهوف بعيدة في الجبال، عوض دفنهم، مع توفير حاجات الحياة كافة لهم من أكل وملبس وخمر وحلي، ويتم غلق الكهف بالصخور، وتلك دلالة على بدء حياة جديدة مع الأسلاف في مدن الموتى.
دية المرأة ضعف الرجل:
وعلى رغم أن حياة هذه القومية ظلت محفوفة بالأخطار نظراً إلى طبيعة الحياة القديمة التي كانت قائمة على الغزوات، فإن المثير في الأمر، كما يسرد هايتين، "حتى في الغزوات يحرم قتل النساء، أو سبيهن لأي سبب". ويؤكد "أن العرف يحدد دية المرأة بضعف دية الرجل"، وهذا عائد لكونه مجتمعاً أمومياً.
ويضيف "لم نسمع أبداً أن أحداً من الكوناما قد تسبب في قتل امرأة عمداً، والعرق يتقدم على الدين الذي يحل في المرتبة الثانية، فمعظمهم يدينون تاريخياً بالوثنية، فيما عدد أقل اعتنق الإسلام والمسيحية (الكاثوليك والبروتستانت)، لكن جميعهم يشتركون في إحياء الطقوس المتعلقة بالعادات والتقاليد، بما فيه الكشكشة، وطقس أقيشا الخاص بإعلان بلوغ الفتى مرحلة الرجولة بعد خضوعه لعدد من التجارب التي يجبره عليها شيوخ القبيلة، بغرض امتحان صبره وقدرته على تحمل مشاق الحياة"، ويكشف هايتين عن أن بعض سكان المدن والمنتقلين للديانة الإسلامية من "الكوناما" قد تخلوا نسبياً عن بعض التقاليد، فيما لا يزال سكان القرى النائية محافظين على الأعراف القديمة ذاتها.