رمضان والعيد في مدينة أسمرة - الحلقة الأولى

بقلم فضيلة الشيخ الأستاذ: إسماعيل إبراهيم المختار - عضو لجنة الفقه في الهيئة الاسلامية في مانيتوبا

كتب الأخ الدكتور جلال الدين قبل عدة سنوات مقالا جميلا عن رمضان في مدينة كرن،

مسجد الخلفاء الراشدين 1900

وكتب الأخ الأستاذ محمد إمام أيضا قصيدة رائعة باللغة التيجرينية (مسجد جامع توليعا) عن بعض ملامح رمضان في أسمرة. وتأسيا بهذين الأخوين الكريمين، رأيت أن أسطر هذه الكلمات لأسرد ذكرياتي ومشاهداتي عن رمضان في أسمرة، في فترة ما قبل فرض حالة الطوارئ أيام منغستوا الكئيبة.

رمضان في أسمرة له نكهة فريدة، نكهة يحسها الجميع حتى غير المسلمين من سكانها. في شهر رمضان تزدحم جوامع أسمرة، وتكتظ أسواقها، وتكثر خيراتها، ويسعد فقراؤها، ويبتهج صغارها. ينتظر الناس بداية رمضان في لهفة، وهم يتطلعون في شوق إلى إعلان دار الإفتاء الأرترية بدخول شهر رمضان.

جوامع أسمرة:

تتحول جوامع أسمرة في شهر رمضان إلى خلية نحل، تدوي جنباتها بالأذكار الجماعية، وتلاوة القرآن الفردية، والدروس العلمية، والمواعظ الإيمانية، والغادين والرائحين من كافة المصلين. وأهم جوامع أسمرة في تلك الأيام هي: جامع الخلفاء الراشدين في وسط المدينة، وجامع عمر ابن عبدالعزيز في حي ”جزابندا“، وجامع عبدالقادر الجيلاني في حي ”طابا“، وجامع خالد بن الوليد في حي ”عداقا حموس“، وجامع عمر ابن الخطاب في حي ”مادشتوا“، وجامع أبوبكر الصديق في حي ”أخريا“، بجانب مساجد كثيرة أخرى، وخاصة في حي ”أخريا“ الذي تسكنه أغلبية مسلمة.

من محاسن رمضان في أسمرة خلو باراتها من روادها المسلمين؛ والبارات كانت سوأة في جبين أسمرة لا يكاد يخلوا شارع ولا حي منها، وقد إزدهرت مع كثرة تمركز أفراد الجيش الاثيوبي في أسمرة. وما أن يأتي رمضان حتى تجد كل من كان يعاقر الخمر في هذه البارات في ليله ونهاره من المسلمين - وكانوا في تلك الأيام قلة - يهجرها تماما، ويتجه كلية إلى الجوامع، ليصبح من روادها، ومن السعاة إليها.

جامع الخلفاء الراشدين:

محور الحركة والنشاط في أسمرة هو جامع أسمرة العريق، جامع الخلفاء الراشدين. يمتلئ هذا المسجد بأجنحته الثلاثة بالمصلين - والمسجد يستوعب عشرة آلاف شخص في داخله - وخاصة في صلاتي الظهر، والعصر؛ وعقب السلام يرتج الجامع بالأذكار الجماعية التي يرددها المصلون خلف الإمام، وهي أذكار خاصة برمضان تردد بنغمة مميزة، وتردد ثلاث مرات، وصيغتها فيما أذكر كانت كما يلي:

أشهد أن لا إله إلا الله، أستغفر الله، نسألك الجنة، ونعوذ بك من النار“، ”اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا يا كريم“.

وهذه الأذكار تؤدى عقب السلام مباشرة، ثم ينهض المصلون لأداء السنة - إن كانت فيها سنة بعدية، وبعدها يؤدي الناس فرادى الأذكار المأثورة، ثم يختمونها جميعا بدعاء الإمام، ثم بالصلوات الجماعية المتعارف عليها في قطرنا وهي:

اللهم صل أفضل صلاة، على أسعد مخلوقاتك، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، عدد معلوماتك، ومداد كلماتك، كلما ذكرك الذاكرون، وغفل عن ذكرك الغافلون

وأكثر الأذكار، والأدعية، والقصائد الدينية في أرتريا هي من بقايا أذكار الطريقة الميرغنية، التي كان لها أبعد الأثر في نشر الإسلام بين كثير من القبائل الأرترية. وكثير من هذه الأذكار هي على غرار الأذكار المأثورة لفظا أو معنى، ولا يخلوا منها ما قد يكون فيه مقال. والذكر الجماعي هو المعتاد في أرتريا، وقد تفاوتت أقوال العلماء في ذلك؛ وفي مجتمع تشيع فيه الأمية الدينية فإن الأذكار الجماعية لها فائدة تعليمية وتلقينية لعامة الناس.

دروس ومواعظ رمضان:

كانت ”جبهة العلماء الأرترية“ تضع برنامجا علميا خاصا لرمضان، حيث تقام دروس شرعية مفتوحة وذلك بعد صلاة الظهر في جامع الخلفاء الراشدين، وهذه الدروس كانت تلقى من قبل علماء الأزهر الأريتريين-وكان عددهم كبيرا في تلك الأيام، يشاركهم بعض الأحيان في هذه الدروس الشيخ عمر الحضرمي الذي كان له الكثير من الأتباع، وخاصة من الحضارم. وكانت أجنجة الجامع تقسم إلى مناشط متعددة، الجناح الأوسط كان يخصص للدروس التي كان يلقيها علماء الأزهر، والجناح الأيسر كان مخصصا لمن يريد تلاوة القرآن أو القيلولة. أما الجناح الأيمن فكان مخصصا لمواعظ يومية للشيخ عبد السلام، وكان هذا القسم أكثر إزدحاما من غيره. والشيخ عبدالسلام كان واعظا، كثير الفكاهة، سريع النكتة، يلقي دروسه باللغة التيجرينية بصورة جذابة، وكان جناحه يضج بالضحك من أساليبه العجيبه في العرض والإلقاء.

وبجانب دروس الجامع، كانت دار الإفتاء بدورها نتشر في جريدة ”الوحدة“ الرسمية مقالات علمية عن رمضان، وأحكامه، وكل ما يتصل به من متعلفات.

صلاة التراويح في جامع الخلفاء:

كانت صلاة التراويح تقام كل ليلة في رمضان في أغلب الجوامع والمساجد، وأهمها مسجد الخلفاء الراشدين. والعادة أن يصلي الناس عشرون ركعة، ثم صلاة الوتر من غير فصل بينهما. وبين كل أربع ركعات تكون هناك إستراحة قصيرة تتخلها أذكار جماعية، مثل: ”لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحي ويميت، وهو على كل شيئ قدير، سبوح قدوس ربنا رب الملائكة والروح“.

وتلاوة القرآن في التراويح عادة تكون مخففة، من قصار السور من جزء عم، وكان الذي يؤم غالبا هو إمام مسجد الخلفاء، الشيخ عبده رحمه الله. ودعاء القنوت كان هو الدعاء المأثور:

اللهم إنا نستعينك ونستهديك، ونستغفرك ونتوب إليك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كلهن نشكرك لا نكفرك“ إلخ.

وقد درج المسلمون في أرتريا على الإحتفاء بالمناسبات التاريخية، وكان يتم الإحتفاء بغزوة بدر في 17 من رمضان، وفتح مكة في 20 من رمضان؛ وفي جامع أسمرة كان الإحتفال بهما يتم مابين صلاة التراويح حيث يقوم أحد العلماء بالقاء كلمة عن المناسبة مبينا أهميتها التاريخية والدروس المستفادة منها.

أخر ليلة من التراويح كانت ليلة تسكب فيها العبرات، وتسمع فيه الزفرات، وتهتز فيها المشاعر. وفي تلك الأيام كان يأتي إلى الجامع رجل حضرمي طاعن في السن، إعتاد أن يلقي كل عام قصيدة في وداع رمضان، وكان يلقيها بصوت رخيم، وحزين، وبنغمة فريدة، أذكر منها أبيات يقول فيها:

ودعوا ياصائمين *** شهر رب العالمينا

أعاده الله علـينــا *** وعليـكم سالمــينـا

والناس يرددون هذه الأبيات خلفه، والدموع تترقرق في أعينهم، ومشاعر الحزن تغمر قلوبهم، وأمل البقاء إلى رمضان قادم يراود أفئدتهم.

أسواق أسمرة:

تستعد أسواق أسمرة لإستقبال رمضان والعيد إستعدادا حثيثا. وكان أغلب أصحاب المحلات التجارية في تلك الأيام هم الحضارم والجبرتة. وأغلب محلات الملابس والخياطة كان يملكها تجار الجبرتة، وكذلك مستودعات ومطاحن الدقيق. وفي رمضان تنتشر في ساحات السوق موائد تباع فيها التمور، و”السمبوسة“، و”المقلي“، و”المشبك“، و”لقمة القاضي“، و”قمر الدين“ وغيرها. وكان الباعة ينادون بأعلى صوتهم، ليجذبوا إنتباه الزبائن، قائلين: ”الله وليك يا صائم“؛ والإزدحام في السوق يكون على أشده بعد صلاة العصر.

وفي الأسابيع الأخيرة من رمضان تزدحم محلات الملابس والأحذية، حيث ترى الأطفال بصحبة الأباء يطوفون من دكان لدكان لشراء ملابس العيد. وكان الغالب على الناس شراء الأقمشة، وتخييطها عند الخياطين. والأقمشة كانت تختلف نوعا وقيمة، حسب جودتها ونوعيتها، فال ”كاكي“ كان أرخصها، وال ”بانوا“ و ال ”ليالف“ كان أغلاها. وأشهر الأحذية كانت أحذية ال ”تشيبوليني“.

أطعمة رمضان:

بحكم تعدد ثقافات وعادات مجتمع أسمرة، تتنوع أطعمة رمضان، والشائع منها في طعام الإفطار هو التمر أولا، ثم شربة القمح المجروش - مع شئ من اللحم إن سمحت الإمكانيات، و”السمبوسة“، و”المقلي“، ثم العشاء المعتاد. واللحم الذي يصنع منه السمبوسة كان غاليا، ولذلك كانت السمبوسة لا تتوفر إلا في بيوت المقتدرين ماليا. أما السحور فكان منوعا، وعند البعض كان الغالب ”العصيدة“ أو الخبز المفتت بالسمن ”فتفت“.

أعمال البر والخير:

رمضان كان موسم الخيرات الذي ينتظره الفقراء طوال العام. ومن المظاهر المؤسفة في جوامع أسمرة كثرة المتسولين فيها من شباب، وشيوخ، ونساء، وبعضا ممن أصيبوا بعاهات عقلية وبدنية، وكان عددهم يتضاعف في رمضان. وكان الكثير من هؤلاء ممن نزحوا من القرى والأرياف في المنخفضات، ومرتفعات مناطق الساهو بعد أن دمرت قوات ”الكوماندوس“ مزارعهم، وخلايا نحلهم، وموارد عيشهم. وكان منهم بعض القادمين من أثيوبيا، وبعض التكارنة من السودان. ومن طريف ما أذكره رجل تكروني، متسول، كبير في السن، كان يجلس أمام مدخل جامع الخلفاء مشنعا على من يلبس البنطلون قائلا بلهجته التكرورية: ”البنتلون لباس النصارى، البنتلون ليس له وضوء ولا تهارة“!

كان تجار أسمرة يحرصون على إخراج أموال زكواتهم في رمضان، فكان المتسولون يزدحمون على دكاكينهم في صفوف طويلة، لينالوا حظهم من أموال الزكاة. وكان للتجار الحضارم وجود بارز في أسمرة في تلك الأيام، والبعض منهم كان ينفق بسخاء ملحوظ، وكرم حاتمي لا نظير له.

وكان الناس يقيمون موائد الإفطار في رمضان، وتسمى هذه الموائد ”عيد موتان“، ولا أدري ما سر هذه التسمية، وكان أكثر من يقوم بها الحضارم. وكانت هذه الموائد تقام في البيوت غالبا، وفي المساجد في بعض الأحيان.

أريحية رمضانية ولت ولم تعد !

تلك ذكريات رمضان في أسمرة، وقد رحل كثير من وجوهها البارزة في تلك الأيام، فرحمهم الله جميعا وأسكنهم فسيح جناته. ولا أتصور أن رمضان بأريحيته التي كان عليها في تلك الأيام قد عاد إليها مرة ثانية؛ حيث لم تشهد المدينة مرة أخرى زخما علميا كما شهدته في تلك الأيام بكثرة علمائها الأزهريين، ولم تشهد المدينة مرة أخرى مشاريع البر والصدقات الخيرية كما شهدتها في تلك الأيام بكثرة تجارها ومحسنيها.

نواصل بإذن الله... في الـحـلـقـة الـقـادمـة

Top
X

Right Click

No Right Click