رمضان والعيد في مدينة أسمرة - الحلقة الثانية والأخيرة
بقلم فضيلة الشيخ الأستاذ: إسماعيل إبراهيم المختار - عضو لجنة الفقه في الهيئة الاسلامية في مانيتوبا
كسوة العيد:
من أبرز محاسن رمضان في أسمرة كانت ”كسوة العيد“، حيث كانت تهدى لكل فقير مسلم في أسمرة كسوة كاملة،
بنطلون ”كاكي“ وقميص قطني سميك. وكان يتم ذلك عن طريق لجنة الأوقاف حيث يأتي الفقير إلى مكتب الأوقاف فيسجل نفسه وأبنائه، ثم يأخذ قسيمة من اللجنة إلى الخياط ليخيط له ولابنائه ثوبا محدد النوع والشكل. وكانت اللجنة تتعاقد مع الخياط والتاجر المعروف ب ”اليحيا“ - وهو الذي بني جامع عبدالقادر الجيلاني في أسمرة من خالص ماله - فيقوم بكل ما يلزم. وأذكر أن بعض زملائنا في مدرسة المعهد الإسلامي لم يكونوا يملكون كساءا غير كساء العيد، حيث تراهم طوال العام يلبسون ذلك الكساء، يرقعونه، ويصلحونه، إلى أن يأتي رمضان أخر فيستبدلونه بكساء أخر.
استعدادات العيد ويوم ”فرجت“:
في آخر يوم من رمضان تأتي سيارات الإطفاء ”بيمبيري“ فتقوم بغسل ساحة مسجد الخلفاء والجوانب المحيطة غسلا تاما، وذلك إستعدادا لصلاة العيد. وهنا يتجمع الناس، وخاصة الصغار ليشاهدوا غسل ساحة المسجد، وبعد مغادرة سيارات الإطفاء يأتي دور الشخصية المعروفة ب ”فرجت“.
وفرجت كان رجلا بسيطا معروفا في مجتمع أسمرة، لا يكاد يغادر مسجد الخلفاء، فيأتي في يوم غسل ساحة المسجد فيتجمع الصغار حوله وهم يهتفون ”فرجت“، فيطوف بهم حول ساحة المسجد، وهو يردد الأناشيد، والصغار يهتفون وراءه، فتراه حينا يهرول بهم، وحينا يقفز بهم، وحينا يجلس بهم، وحينا يحكي لهم الحكايات، كل ذلك في مشاهد من البهجة، والعفوية، والتعبير البرئ عن فرحة العيد.
أما البيوت فتنظف استعدادا للعيد نتظيفا كاملا، ويتم تزيين البيت، وشراء حلوى العيد، وتجهيز ملابس العيد الجديدة، وغسل وكي القديمة منها.
يوم العيد وتجمعاته:
جرت العادة في أسمرة أن يتجمع الناس في مساجد الحي، ثم ينطلقون من هناك في جماعة نحو مسجد الخلفاء الراشدين، وهم يشقون الشوارع، وهم يهدرون بالتكبير والتهليل، وكان لكل حي راية يحملها أحدهم في المقدمة، وترى الجميع صغارا وكبارا، يسيرون في سكينة، وقد لبسوا أحسن الألبسة، وتهيؤا بأحسن هيئة.
وما أن تصل كل مجموعة إلى ساحة الجامع، يتجه الجميع إلى موقع الصلاة في الساحة المفتوحة، ويتجه حامل الراية إلى المنصة فيصف الراية خلف منصة الإمام. وكان أكبر هذه التجمعات على الإطلاق تجمع حي ”أخريا“، ذات الاغلبية المسلمة. حين يمر فوج أخريا بشوارع أسمرة متجها إلى ساحة الجامع، ترتج جنبات الشارع بتكبيراتهم، وهم يشقون في طريقهم حي ”مادشتوا“ و”عداقا حموس“، وحي السوق، حتى يصلوا إلى ساحة الجامع، فتهتتز الساحة بدوي تكبيراتهم، وتمتلئ جوانبها من كل ناحية.
تكبيرات العيد:
تكبيرات العيد هي التكبيرات المأثورة مضافا إليها ما استحبه بعض العلماء من التسبيح والصلاة على النبي وآله وصحبه. وكان يؤم المكبرين تارة إئمة المساجد، وتارة أخرون من أهل الفضل. ومن أصوات العيد المميزة كان صوت الشيخ سليمان الدين أحمد، عالم أزهري وعضو في المحكمة العليا. كان الشيخ يستهل تكبيراته بقوله: ”كبروا، وهللوا، وارفعوا أصواتكم، ملة أبيكم إبراهيم حنيفا هو سماكم المسلمين“، ثم ينطلق في تكبيراته، والجمهور يهدر وراءه في مشهد عجيب من التجاوب والتناغم.
بعد أن تصل كل الأفواج وترص الأعلام –وأظنها كانت في حدود الخمسة أو السبعة- تقام صلاة العيد، تليها خطبة العيد. وخطبة العيد والجمعة في جامع الخلفاء كانت من مختصات قاضي أسمرة، ولا يقوم بها غيره. ومستوى الخطبة كان يتفاوت حسب المستوى العلمي للقاضي. ومن أفضل خطباء العيد في تلك الأيام كان قاضي أسمرة والحماسين، العالم الأزهري فضيلة الشيخ عثمان صالح عمر، رحمه الله.
بعد إنتهاء خطبة العيد يتجه الناس للسلام والمعايدة، والشائع في أسمرة هو تقبيل الأيادي، والصغار يقبلون ركب كبار السن.
معايدات العيد:
وبعد الصلاة يتجه الناس للمعايدة، فترى الشوارع مزدحمة بالغادين والرائحين، وهم يطوفون على بيوت الأقارب والأرحام، فيستقبلهم أهل البيت بحلويات ومشروبات العيد. وكان الغالب على هذه الحلويات البسكويتات التي كانت تصنع في مصنع الحاج سالم باحبيشي في مدينة ”دقمحرى“ وحلويات ”الكاراميلى“.
أما المشروبات فتكون إما المشروبات العصرية المعروفة ب”بيبيتا“، أو المشروبات التقليدية المعروفة ب”أبعكى“ والتي يتم صنعها في البيت. وكان من المعتاد إعطاء الصغار النقود، في الغالب خمسة أو عشرة سنتات، والمقتدرون يعطون خمسة وعشرون سنتا وتعرف ب”قطقاق“ أو ”حركام“، وكانت هذه مبالغ معتبرة في تلك الأيام.
وتستمر المعايدة إلى يومين أو ثلاث، وبعدها يجمع الأطفال حصيلة ما جمعوه، فيصرفه كثير منهم في دور السينما. وكانت في أسمرة عدة سينمات فخمة، كلها تحمل أسماءا إيطالية منها: سينما ”دانتى“، ”أزمارا“، ”إمبروا“، ”روما“، ”كابيتول“، ”كروتشروسا“. وبعض هذه السينمات كانت متخصصة في الأفلام الهندية، وبعضها في الأفلام الإيطالية والكاوبوي، وفي العيد تعرض بعضها أفلاما عربية.
النساء ومشهد العيد:
النساء كن عمود الحركة في رمضان والعيد، فهن اللاتي يصنعن الطعام، ويهيئن البيت، ويقمن بتوفير كل مستلزمات رمضان والعيد، ولكن العجيب في تلك الأيام أن النساء - وفقا لما تعارف عليه الناس - لم يكن يحضرن إلى المساجد، ولا يشهدن صلاة العيد، ولا الجمعة ولا الجماعات. وهذا خلاف ما كان عليه الصدر الاول فقد ذكرت أم عطية في إحدى الروايات: ”كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ، حَتَّى نُخْرِجَ الْبِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا ، حَتَّى تَخْرُجَ الْحُيَّضُ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ، يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ“.
العيد وغير المسلمين:
وبحكم التعايش المشترك، كان المسيحيون يهنئون المسلمين قائلين ”رحس عيد“ - عيد مبارك. وكان من المعتاد في بيتنا أن نرسل حلويات العيد لجيراننا المسيحيين، عرفانا لحق الجوار، وتعزيزا لقيم التسامح، وامتثالا لقوله تعالى ”لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ“. ورغم التجاهل الرسمي للعيد، فإن الشارع المسيحي - بصفة عامة - كان يحترم مناسبة رمضان والعيد، ويبادل المسلمين التقدير والإحترام.
الإحتفال الرسمي بالعيد:
من مظاهر التمييز الصارخ بين المسلمين والمسيحيين في أرتريا أيام هيلى سلاسى، أن كل الأعياد المسيحية كان يحتفل بها، وهي كثيرة، أما أعياد المسلمين فلم يكن يعترف ولو بواحدة منها، وهذا تمييز تكرر الإحتجاج عليه من دار الإفتاء، ولكن كان يتم تجاهله، ولذلك كانت المكاتب الحكومية والمدارس مفتوحة في يوم العيد. وعلى الرغم من ذلك فقد كان الناس يتخلفون عن أعمالهم ومدارسهم. والتجار المسلمون كانوا يغلقون محلاتهم، وكذلك المدارس الإسلامية، مثل مدرسة الجالية العربية، ومدرسة المعهد الإسلامي، ومدرسة الضياء. وكانت هناك ثلاث مدارس أخرى تابعة لوزارة التعليم تغلق أبوابها في الأعياد والجمعات، وأظنها كانت في الأصل تابعة للأوقاف فصادرتها الدولة، وفق إتفاقات منها أن تكون العطلة الأسبوعية يوم الجمعة، والسماح لها بإغلاق أبوابها يوم العيد، وغيرها من الإستثناءات. وهذه المدارس كانت مدرسة ”مدبر“، مدرسة ”أخريا“، ومدرسة ”بنوفلينت“ (سابقا الإسلامية الخيرية).
وكان حاكم عام أرتريا يقيم حفل فطور بعد صلاة العيد في القصر الحكومي، يدعى إليه سماحة مفتي أرتريا، وفضيلة رئيس محكمة الإستئنافات الشرعية، وقاضي أسمرة، وأعيان وشخصيات المدينة.
عيد الأضحى:
وعيد الأضحى لم يكن يختلف كثيرا عن عيد الفطر، إلا أن الناس لا يشترون فيه ملابس جديدة، بل يلبسون ماشروه في عيد الفطر. والاضحية أهم ما يميز عيد الاضحى حيث يتجه الناس إلى سوق المواشي في حي ”عداقا حموس“، حيث كانت المواشي تأتي بكثرة من كل أنحاء البلاد، حتى من التجراي. وكثير من الناس يشتري الغنم، أو الخروف، والبعض يشترك في البقر. ومن الخرفان كانت هناك خرفان مميزة طويلة، وبارزة، وكأنها العجل، وكانت غالية الثمن وتعرف بخروف ”كسلا“. وكانت أسعار الخرفان معقولة وميسرة لكثير من الناس.
والعادة في البلاد هو بيع جلود الأنعام لمن يشتريها من أصحاب الشركات، أما جلود الأضاحي فيتبرعون بقيمتها لمشاريع الأوقاف الخيرية في أرتريا. والعادة في البلاد أن يذبح الناس أضاحيهم في أفنية بيوتهم، وكانت هذه من مهمات رجال البيت.
العيد في أيام منغستوا:
من حسنات الثورة الأثيوبية التي أطاحت بهيلى سلاسى أنها اعترفت بأعياد المسلمين، وساوت بينها وبين أعياد المسيحين. فاعترفت بعيدي الفطر والأضحى، وبمناسبة المولد النبوي. وكانت الثورة الإثيوبية تحمل بواشير الإنفتاح، ولكنها سرعان ما خطفت من قبل منغستوا وعصابته، فبدأوا بسفك الدماء، وسحق كل صوت معارض.
وفي عام 1975 فرضوا حظر التجول على أسمرة من السادسة مساءا إلى السادسة صباحا، وسلطوا عصابات الخطف لتخطف الناس من الشوارع، وتقتل الأبرياء، وتنشر الرعب، ففر الناس من أسمرة، وشحت فيها المواد الغذائية، وقطعت الكهرباء، وتوقفت بذلك صلوات التراويح، واختفت كل مظاهر البهجة عن العيد ورمضان. وغادر كثير من التجار الحضارم، واختفت معهم كثير من الصدقات وأعمال البر التي كان يستفيد منها الفقراء.
وكان من الملفت في صلاة العيد أيام منغستوا مشاركة عدد ملحوظ من جنود الحكومة في صلاة العيد، وذلك لم يكن أمرا معهودا من قبل، ولعل ذلك يعود إلى الأفواج الكبيرة من الشباب التي كان يرسلها منغستوا لمحاربة الثورة الارترية. وكنا نرى أفواجا من هؤلاء الشباب الذين يساقون رغما عنهم إلى هذه الحروب، وسرعان ما يعودوا جثثا هامدة.
عيد حزين !
ولقد مر على أسمرة قبل فرض حالة الطوارئ بأشهر معدودة عيد من اسوأ الاعياد، وكان ذلك في عيد الأضحى، حيث جاءت مجموعة من عصابات الحكومة إلى منزل شخصية معروفة في أسمرة ”عمر حنقلى“ وذلك للقبض عليه، وكان الرجل يستعد مع جماعة من المعارف لتناول الإفطار بعد أن أتموا صيام عرفة، فأخذوه ومن معه، فقاموا بشنقهم بالأسلاك، ورمي جثثهم بجوار الملعب الرياضي في أسمرة، وكان ذلك في ليلة عيد الأضحى، وكان ضمن هؤلاء القتلى أستاذنا مدرس مادة الرياضيات في المعهد الإسلامي الأستاذ محمدعلي، رحمم الله تعالى أجمعين. وقد بلغ خير مقتل هؤلاء جموع الناس وهم يتجهون إلى صلاة العيد، فعم الحزن بين الناس، واختفت البهجة من وجوههم، وقضوا عيدهم في أسوأ حال.
العيد ورواد البارات:
ويكون رمضان لبعض رواد البارات فاتحة خير، فلا يعودون إليها مرة ثانية فتستقيم حياتهم، وتسعد أسرهم؛ والبعض الاخر يعود إلى البارات في أول يوم من أيام العيد وحاله كحال الشاعر الذي قال: رمضان ولى هاتها يا ساقي *** مشتاقة تسعى إلى مشتاق!
فيظل عاكفا على الكأس طوال عامه، تفتك بصحته، وتبدد ماله، وتعكر صفو أسرته، حتى يأتي رمضان آخر فينتشله من ذلك المستنقع، إلى عالم الطهر والسمو.
ويعود العيد السعيد هذا العام ومعه، وكلمات أبو الطيب المتنبي تدوي من أعماق التاريخ متسائلة:
عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيد *** بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ ُ
أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ *** فَلَيتَ دونَكَ بِيداً دونَهَا بِيدُ
* أنظر فتوى سماحة مفتي ارتريا في حكم الذكر الجماعي في صفحة الفتاوى من موقع المفتي Mukhtar.ca
ملاحظة: أعيد نشره بإذن من الكاتب