بني عامر... أمة شــاعرة
بقلم المهندس: سليمان فايد محمد فايد - كاتب وباحث
بني عامر أمة شاعرة، أشتهرت كغيرها من القبائل السودانية منذ القدم بحبها للشِعّر،
وأبدعت فيه، يتميز شِعّرها بجدالة الألفاظ، وقوة وجمال الأسلوب، واحتوائه علي مشاعر جميلة، تخرج قصيداً مزهراً ملوناً، يهز وجدن سامعه، يعالج معاني إنسانية عامة، ينبع - شَعّرها - من قلب صادق والإحساس بما توحي به طبيعة أرضها، التي حباها الله مياه وفيرة وخضرة طبيعية، تمتد في سهولها ووديانها مد البصر، يخلب الالباب، ووسط هذه الخضرة ترتع الغزلان في ألوانها الزاهية، وجمالها الطبيعي، تروح وتغدو في حرية تامة وفرح وسرور ومواشي مختلفة تدر الخير الكثير، وتزداد الطبيعة جمالاً بسماء ملبدة بالغيوم والسحب الممطرة وتكتمل اللوحة الطبيعية في الخريف وفي هذه الأرض الطيبة، عندما تهاجر إليها أسراب الطيور والعصافير ذات الألوان المختلفة،هذه اللوحة الطبيعية وغيرها شكلت شخصيات وسلوك شعراء بني عامر المخضرمين، والذين أضحوا ممن يجيدون قرض الشِعّر قرضاً حسناً.
الشِعّر عند بني عامر، يدخل في نسيج حياتهم الخاصة والعامة، يتغلغل في سويداء قلوبهم، وتنبض به شرايينهم، وتصدح به حناجرهم، وهم يسعدون الأنفاس، ويحضر شعرهم في مناسبات الأعياد والنفير، ومناسبات الصلح والزواج والفرح وغيرها.
الشِعّر عند بني عامر، يحمل كثير من المعاني والدلالات التي تمجد قبائلها، وتأجج همية الغيرة والوطنية وإبا النفس، وتمجيد الفرسان والزعماء التي ملأت بطولاتهم، وشهرتهم وسمعتهم الأفاق، والحث علي مكارم الأخلاق، ونصره المستضيفين وإجارة المستنجدين واستهجان البخل والجبن والتردد والكذب.
الشِعّر عند بني عامر يرتبط، إرتباطاً وثيقاً، بأصول الدين الإسلامي، ويتجلي ذلك في الأشعار الدينية التي تحث علي مكارم الأخلاق والتمسك بشرع الله ونبذ الرذيلة والفسوق والإلحاد.
يقدم شعراء بني عامر شِعّرهم الراقي بلغة التقري وهي لغة عربية قديمة تتحدث بها اليوم قبائل بني عامر، في شرق السودان، وغالبية سكان إرتريا، بالإضافة إلي لغة التقري كتب شعرائهم أروع وأجمل القصائد الحديثة باللغة العربية الفصحى، أشعارهم تترجمها أسلاك الربابة (مسنقو) وهي ترن صادحة في لياليهم المقمرة تلك، وقد سكن كل شيء وأصاخ السمع.
وما شعراء بني عامر المبرزون، الذين ظهروا في الساحات هنا وهناك، وملأوا أسماع الناس بعذب شِعّرهم، وجميل مفرداتهم، ونادر تعابيرهم، وتفرد تصويرهم، إلا نماذج من تلك البيئة البني عامراوية الشاعر ذات الثراء والتنوع في طبيعتها وألوان حياتها، التي تغذي الخيال، لكل طريف وباهر، وتدفعه للتغني بها.
الشِعّر وما أداراك ما الشِعّر، فأين يوجد وهو علي امتداد هذا البلد، سوي عند أولئك - بني عامر- الذين يتوارثونه بالأجيال، كما يتوارث الناس الأرض والعقار، ويحفظه ويردده كبيرهم وصغيرهم ورجالهم ونساءهم، لذلك صار شعرهم وتراثهم جزءً أساسياً ومهماً من المشهد الثقافي والتراثي في السودان.
وبعد.. ليس هذا إفتخاراً، ولاهو تباهياً، وإنما هو أن شعراء بني عامر إنتزعوا، شِعّرهم من صميم الحياة، يتدفق شعرهم ويجري من حناجر الأجيال، كتدفق الينابيع الهدارة، حتى ملأ شِعّرهم ببريقه المتفرد والأخاذ الذي يخلب العقل ويستهوي الفؤاد الساحة الأدبية في شرق السودان وغيرها من المناطق.
وهنا قد يتساءل البعض، أين يوجد هذا الشِعّر، يوجد هذا الشِعّر في صدور وعقول الناس، ويتداولونه شفاهة - غير موثق أو مدون - وينتقل من جيل إلي جيل آخر شفاهة، وهذا التداول الشفاهي أضاع جانباً عظيماً من الموروث الثقافي، وللحفاظ علي المتبقي من هذا الأرث الادبي الثر، يتطلب التدوين والتوثيق السريع.
في هذا السياق أيضاً هناك سؤال جوهري يطرح نفسه وهو: أليس شيئاً مؤسفاً، بل هو مؤلم ومخجل في الوقت ذاته، لأبناء، كأبناء بني عامر الواعين والمثقفين، ولا أحد منهم أو جماعة يفكر في جمع وإصدار قاموس لشعراء قبيلتهم، فيه - القاموس - كل ما يروي تفاصيل دقيقة من سيراتهم الذاتية، وملابسات حياتهم التي أدت بهم إلي طريق الشِعّر، وأبراز سمات الزمن الذي برزوا فيه، والقضايا التي تطرقوا إليها وعالجوها في شِعّرهم، ووضع في القاموس نصوص مختارة من شِعّرهم مترجمة باللغة العربية، إلي آخر هذه التفاصيل التي يحتاجها المتلقي وتحتاجها حياة التوثيق والتدوين ؟ لذا تأهبوا اليوم قبل غدِ ودونوا وسجلوا شِعّر شِعّرائكم أمثال ذمات ود إكد، عمر باشقير، عثمان إدريس ويرا (أجولاي)، ودبركت (ود أبي عيسي)، صالح حامد جعيف، جيواي ود علي سلاي، محمد ود تحرا، محمد كلباي ودسلطان، محمد علي ود أولباب، حامد عبدالله حامد تحرا، أبُر سليمان، موسي صالح إكد، إدريس ود همد ود تحرا، محمد عمر عبلاي، آدم محمود سليم، شكان إدريس همد، عبي دروي أوده، عبدالله محمد آدم (المنتحر)، حيت همد درهوي، فايد بلال، همد محمد دواي، طاهر الامين، محمود ودجيوي، إدريس محمد علي همد، محمد سعيد محمد آدم سعيد، أبُر أري، كمال عمر حجاج، إدريس محمد درفاي، إبراهيم شريف، علي سليمان ود إبراهيم، حامد عثمان، صالح آدم ود دقي، طاهر همد، طاهر جعفر، إبراهيم نوراي، حاج إبراهيم عثمان، حاج إبراهيم عثمان إبراهيم، صالح ود علي، عثمان كرار، علي سليمان ود إبراهيم،كنون ود أوده، إدريساي إسماعيل، رمضان محمد حاج، عبدالرحمن صالح عبدالرحمن، صديق طاهر جعيف...و...إلي آخر الأسماء التي لا يحتمل إيرادها هذا الحيز.
باختصار غير مخل نقول: إذ لم يتدارك أبناء بني عامر المخلصين لأهلهم، والذين لهم مكانتهم في الحياة العامة، لراح وضاع كل شيء، لذلك يتوجب الاهتمام بالتوثيق ما دامت الإمكانيات متاحة علي قدر توفرها.
القارئ السوداني والعربي يريد أن يعرف كل شيء عن شِعّر وشعراء بني عامر الذين أثرو ليس فقط في الشِعّر والأدب، بل وفي مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية، إذ أن دورهم لم يكن مقتصراً علي العرض لبلاغتهم وبراعتهم اللفظية، وإنما كان من جملة أدوارهم أن يمارسوا دورهم في الرقابة علي جميع مناحي الحياة من خلال نقد الخطأ، وامتداح الإيجابي، وتحليل الواقع، وتحفيز العامة علي رفض السلبي، ومحاولة اقتراح الحلول...فلماذا يا أبناء بني عامر تبخلون علي القارئ بمواد من السهل جمعها ووضعها بين أيديه.
الأخوة والأحباب... أن الزمن يهرول، ولن ينتظركم، وأنتم منشغلون بقضايا وأمور هامشية، وبسفاسف الأمور، منصرفون عن أهم قضية وهي قضية التدوين والتوثيق والدراسة والبحث لفترة تمضي، ولن تترك صدي في نفوس وعقول الأجيال القادمة، طالما أن معلوماتها لا تتوفر لديهم.
فسارعوا إليها أيها الأحباب، ومنذ الان لجمع هذا الأرث الثقافي، مادام حفظته يعيشون بينكم، ودونوه ووثقوه جيداً، وأودعوه في مطبوعات ورقية تحفظ في دار الوثائق السودانية لتظل خالدة، ويعاد طباعتها ونشرها، كلما مضي عليها حين من الدهر.
التوثيق.. التوثيق.. يا ابناء بني عامر.. إليه وبلا إبطاء، وسترون كم هي جليلة الخدمات التي ستؤدونها لأهلكم ووطنكم.. إلا قد بلغنا، فيا تاريخ أنصت وأشهد.