الواقــع الإرتــري بين الحقيقــة... والإفتـراض

بقلم الأستاذ: حامد عمر إزاز - لندن المملكة المتحدة

الشكر للأخ عبد الرزاق كرار على الأسلوب المتقدم في المناقشة والنقد لمضامين الوثيقة

الواقــع الإرتــري بين الحقيقــة... والإفتـراض بتاريخ 2014/04/24 "قراءة متأخرة في وثيقة أبناء المنخفضات"، إنطلاقاً من مفهومه ورؤيته الذاتية لكثير مما تناولته، ورغم إختلافي مع المنهج الذي اتبعه في نقدها والنتائج التي توصل إليها إلا أنني أقدر أسلوبه الهاديء والسلس في التعاطي مع محتويات الوثيقة والذي أعتبره جانباً إيجابياً افتقدته الكثير من مداخلات وتعليقات المعارضين للمبادرة، حيث أن معظم ما تناولوه كان خارج إطار الوثيقة من تخوين وتشكيك وإثارة النعرات القبلية والتهديد والوعيد ...إلخ. لذا استحق مقال الأخ/ عبد الرزاق التقدير والإحترام كرأي آخر لابتعاده عن السلبية والتزامه بروح الحوارالديموقراطي الذي يقوم على الإقرار بحق الإختلاف.

وهنا أود تبيان أوجه الإختلاف فيما ذهبت إليه محاولة قراءة الوثيقة من وجهة نظره التي انطلقت من فرضية أن الوثيقة هي نتاج بحث علمي بحت قام على أساسه لإخضاعها لشروط منهج النقد العلمي، وذلك من خلال تفكيكها إلى أجزاء منفصلة والتعامل معها خارج السياق العام للنص وتسلسله التاريخي وتحليلها للخلوص إلى نتائج على ضوء منطلقات فرضية لا تتوافق مع الوثيقة محل النقد. فالوثيقة ليست بحثاً أكاديمياً أو مشروعاً علمياً بل أنها قراءة للواقع التأريخي والمعاش تناولت الوضع الإرتري الفعلى وليس الإفتراضي، من خلال تناولها للخلفية التاريخية التي أدت لنشوء الكيان الإرتري وما ترتب على ذلك من نتائج سلبية وانعكاسات ذلك على الوحدة الوطنية، وتوقفت عند محطات تأريخية مهمة كان لها الدور الأكبر في تشكيل الحاضر، مروراً بفترات ومراحل عديدة من تقرير المصير ثم الكفاح المسلح وفترة مابعد الإستقلال وانتهاءً بالوضع الحالي للنظام والمعارضة الإرترية والظروف التي تمر بها من انقسامات وعدم الفاعلية وفقدان الثقة وضعف الأداء. ولاأحسب هذا محض افتراض نظري يستدعي ضرورة اللجوء إلى المنهج العلمي في نقده بقدر ما يستتبع النظر إليه وقراءته بشكل موضوعي والبحث عن الحلول والمعالجات له وفق منهج ووسائل واقعية تأخذ في الحسبان معطيات وحقائق الواقع الإرتري وتجلياته البادية للعيان، وهذا ما نحت إليه الوثيقة في نظرتها للأمر ومحاولة إيجاد المعالجات والحلول العملية الممكنة والمناسبة. أما محاولة قراءة الوثيقة وفق منهج مغاير لمنطلقاتها الواقعية هو ما أدى للنتائج التي أختلف فيها مع المحاولة النقدية.

ومن جملة الاستنتاجات الخاطئة التي توصلت إليها القراءة من خلال عملية التفكيك التي تم إتباعها هي مسألة النظر للدولة الوطنية على قرار النموذج الغربي والبناء عليه في افتراض الحلول للواقع الإرتري، رغم أن مفهوم الدولة الوطنية لدي شعوب العالم الثالث ما زالت تعاني من عقبات التشكل لعدم تهييء الظروف الطبيعة لها لاستكمال تطور بنيتها وتعرضها لمحاولات إجهاض مستمر ما أدى لميلاد كيانات مشوهة. فهل المفهوم الذي حاولت القراءة الإستدلال به ينطبق على شكل الدولة الإرترية، أم أن واقع المعارضة الحالية يؤسس لهذه الدولة الإفتراضية مستقبلاً.

ثم إلا تستدعي طبيعة تكوينات تنظيمات المعارضة - الإسلامية المتعددة، والليبرالية ظاهرياً، والإثنية المنضوية تحت مظلة المجلس الوطني، وظهور الحركات الجديدة مثل (مدرخ) و (ود بكارو) - الإتفاق على نظام الحكم الذي يخلف نظام الهيمنة القومية والإقصاء بنظام يراعي ويضمن كافة الحقوق والمصالح لمكونات هذا التعدد.

وهل إقرار التعدد والتنوع الإرتري والبناء عليه يعتبر حقيقة مجازية أم واقعاً ملموس نشترك فيه مع كل دول المنطقة، علماً بأن نموذج الدولة المدنية الحديثة على النمط الغربي على حسب وجهة الإفتراض الذي ذهب إليها المقال لم تلغ التنوع في دولها بل تأسست عليه (الولايات المتحدة الأمريكية - المملكة المتحدة ...إلخ).

وفي اعتقادي بأن الإشكالية الرئيسية التي وقعت فيها المحاولة النقدية هو اللبس في فهم وجهة الطرح الحقيقية للوثيقة، واعتبار بأن الدعوة لاستنهاض هذا المجتمع لتقوية ذاته والدفاع عن مصالحه والعمل في الإطار الوطني مع الآخرين هو أمر سالب يؤدي في نهاية المطاف إلى الإنعزال والعمل بشكل منفصل وعلى حساب قوى المعارضة الإرترية الأخرى، في حين أن الوثيقة تقدم رؤية واقعية لإدارة التنوع في إطار مظلة العمل المعارض للتأسيس لدولة العدالة والديموقراطية وسيادة القانون التي تستطيع إستيعاب التعدد والإقرار به بجميع أشكاله وتجلياته. وإن الدعوة لاستنهاض مجتمع المنخفضات للدفاع عن مصالحه الخاصة بجانب أن يلعب دوره الوطني مع بقية المكونات للحفاظ على المكتسبات التي تحققت والدفاع عنها ليس ضد النظام فحسب بل ضد الإستهداف الذي بدأ يطالها من قبل القوى الرافضة لما تم التوافق عليه في ذات الوقت لتماهيه مع مشروع الهيمنة الذي ينتهجه النظام، وإن مراوحة المجلس الوطني طيلة العامين المنصرمين في مكانه هو أحد الشواهد لطبيعة الصراع الذي يدفع بهذا الإتجاه.

ولا يستطيع أحداً بأن ينفي بأن مجاهدات الرواد الأوائل وإعلان الكفاح المسلح كان رد فعل لرفع الضرر والتصدي للظلم المباشر الذي وقع علي مجتمعاتهم مستهدفاً الهوية والثقافة والإنسان والإرض، وإن إلتفاف المكونات الإرترية المختلفة حول الثورة كان تعبيراً عن تقاطع المصالح الخاصة مع المصالح المشتركة التي تجمع بينهم، الذي عبر بشكل جلي عن تحالف مكونات التعدد. و إن رؤية الوثيقة مستمدة من محاولة قراءة حقيقية وصادقة لهذا الواقع في مختلف مراحله حتى اللحظة الراهنة والذي تدعمه كل الأدلة والشواهد من واقع التجربة المعاشة وليس فرضيات البحث العلمي ووسائله.

فالإستراتيجية التي إعتمدتها الوثيقة لا تختزل الحلول في مشروع منحصر في حيز جغرافي محدد كما يتصور البعض، بل تقدم رؤية واقعية شاملة للحل لهزيمة مشروع الهيمنة واستبداله بمشروع مقابل ونقيض له، يقوم على تحقيق المصالح والحقوق المشتركة للمكونات التي تم إقصائها من المشاركة العادلة في السلطة والثروة، من خلال إقامة دولة التراضي والتعاقد الإجتماعي على قاعدة الإعتراف المتبادل بالحقوق الخاصة لكل مكون على حده ليتكامل المشروع الوطني على أرضية الحقوق المتساوية للجميع. أما مايتردد من قول بأن الظلم واقع على الجميع فهو قول لا يؤسس للتطلع المشترك بوطن يحكمه القانون وتسوده العدالة بقدر ما يكرس لواقع الهيمنة والإقصاء واستمراره بأشكال أخرى، على عكس الإقرار بتفاوتها خاصة ما أستهدف منها الأرض والبشر والوجود، باعتباره البوابة الأولى للمصالحة الوطنية التي تقود لإعادة بناء عامل الثقة المفقود نتيجة الإحساس بالغبن الإجتماعي، وتمهد الإرضية لوحدة وطنية حقيقية قوامها الإقرار بالحقوق ومصالح مكونات التعدد.

ولا نعتقد بأن الدعوة لترتيب البيت الداخلي لهذه المكونات للدفاع عن حقوقها في إطار العمل المعارض يعتبر عملاً غير مشروع وخروج عن الإطار الجمعي، بل حق تدعمه كل نواميس الطبيعة البشرية التي تنزع للدفاع عن الذات في إطار المشترك، كما يؤكده واقع الحال في إطار المعارضة الإرترية التي تسعى عبر تنظيماتها وكياناتها المختلفة - التي تعكس حقيقة التنوع - للتكتل من أجل الدفاع عن مصالح أعضائها الخاصة بالإضافة للمصالح العامة تحت شعارات ومسميات مختلفة. لذا فإن الإفتراض بأن مبادرة لم شمل المنخفضات الإرترية هي خصم على الهم الوطني العام غير صحيح لأنه بني على فرضية أنها دعوة للعمل بمعزل عن النضال المشترك لقوى المعارضة الإرترية بشكل عام.

فواقع الحال المعاش على مستوى قوى المعارضة الإرترية ممثلاً في المظلات الجامعة - والتي نؤمن بأنها أفضل ما أنتجته هذه القوى كحصيلة عمل وجهود تراكمية إيجابية لنضالاتها المشتركة عبر السنين - فإن التوافق الذي حققته ضمن الأطر الجامعة على اختلاف وتعدد التنظيمات المكونة يشكل أساساً سليماً لبناء الدولة الديموقراطية التي يطمح إليها الجميع. لكن على المستوى العملي هناك جنوح لإجهاض هذه الإنجازات والسعي لإدارة دفة العمل المعارض ورغبة التغيير لمصلحة القوى التي تدفع لإقصاء الآخر والتجنى على تاريخ وإرث مكونات قوى المعارضة في تماه واضح مع عقلية الهيمنة التي نناضل ضدها، لذلك فإن الفرضية التي تعتبر بأن سقف المطالب في الوثيقة لا حدود له ويتعارض مع سقف الحق العام لم تستصحب معها حقائق الواقع الذي هو في محصلته النهائية نتاج لتوافق وتراضي مكونات التعدد حول نظام الحكم والدستور الذي يحتكمون إليه ويلتزم به الجميع طواعية وفق إراداتهم المشتركة، وليس الذي يفرض بالحديد والنار من قبل جهة معينة على بقية المكونات.

أما الإعتقاد بأن طرح الوثيقة مرهون بالتنازلات التي يمكن أن يقدمها النظام في تحقيق مطالب الأرض والثقافة واللغة، وأعتباره كفيلاً بحل الإشكالية، فهذا تبسيط مخل واختزال للوثيقة في مطالب ذاتية تنتهي بزوال مسبباتها، ويشي بعدم الإلمام بحقائق الواقع الذي إنطلقت منه الوثيقة والذي جاءت لمعالجته، وفيه إقلال بالنضالات والتضحيات الجسام التي تحدثت عنها الوثيقة ونادت بالحفاظ والإستمرار عليها والعمل على جنى ثمارها في إطار المشروع الوطني العام الذي يضمن المشاركة السياسية العادلة للجميع، وليس قبول سياسة الإقصاء والإذعان للأمر الواقع والرضى بالتهميش وما يمكن أن يرمى إليها من فتات. وإن ما يحقق ذلك هو الإعتراف بالحقوق وليس المطالبة بإبقاء الحال كما هو عليه خوفاً على قدسية الكيان دون البشر، لأن ذلك هو ما يشجع قوى الهيمنة على الإستمرار في نهجها. فأي الكفتين هي الأرجح عدالة مستدامة أم الرضا بانصاف الحلول فالمشروع الذي نادت به وثيقة المنخفضات الإرترية هو طرح لرؤية الحل في إطار الوطن وليس حلاً إجتزائياً منعزل، بل قائم على إقرار الحقوق لذاتها في إطار المشترك ودعوة للعمل بين كافة المكونات في الإطار العام لإزالة الهيمنة الواقعة عليهم وإقامة دولة الوفاق والتراضي التي تعمل على بسط العدالة الإجتماعية والمحافظة على حقوق الجميع في القسمة العادلة للسلطة والثروة. وهذا ما لاتضمنه أو تصنعه ديموقراطية الصناديق كما ينادي بها البعض باعتبار أنها الحل الأمثل، لأنها وسيلة لتداول السلطة لكنها لا تقر بالحقوق الجمعية التي يجب أن يدفع بها أصحاب المصلحة والتأسيس عليها لبناء نظام حكم عادل يضمن المشاركة المتكافئة في السلطة والثروة لكافة المكونات على أساس دستوري حتى لا يتم التغول عليها من أيً كان.

كما أن النظر لمشاريع الحلول التي تطرح معالجات للواقع المتردي والتعامل معها كأنها مشاريع تجارية يجب أن تخضع لدراسة جدوى هو إخلال آخر وقعت فيه محاولة قراءة الوثيقة، لأن ما يصح في قانون الربح والخسارة والعرض والطلب التجاريين لايصح تطبيقه على الحراك المجتمعي لديناميته المرتبطة بالتفاعل الحيوى للمكونات الإجتماعية المعنية داخلياً ومع محيطها الخارجي، وهذا ما يحكم قانون التطور البشري.

أمر آخر لم توفق فيه المحاولة النقدية أيضاً نتيجة لعدم صوابية الفرضية التي قامت عليها حد المقارنة بين النقائض، مثل المقارنة بين مشروع الوثيقة و (نحن وأهدافنا) بالرغم من إنعدام أوجه المقارنة هنا من الناحية الجوهرية لأن مشروع الجبهة الشعبية قائم على العنصرية الإقصائية ولم يناد كما لم ينهج فعلاً في إقرار حقوق المكونات الإرترية الأخرى مثلما تفعل الوثيقة التي ينضح كل حرف وكلمة وجملة فيها بحقوق المكونات التي لن يتكامل مشروع الوطن بدونها.

ورغم تبرأتها لمتبنيّ الوثيقة من تهمة الإنفصال إلا أنها لجأت لذات المحاولات التي عمدت لثني عنق النص واجتزاءه من سياقه الطبيعي، الذي كان موجهاً بشكل أساسي لمكونات مجتمع المنخفضات الذي حمل هم تحقيق الوحدة الوطنية بمفرده ومازال - فلا وطناً حفظ ولا حقوقاً صان - بالرغم من أن النص هنا لا يطالبه بالتنازل أو التقصير عن لعب دوره المستحق في ذلك عنها بقدر ما يدعو لتوفير الشروط الموضوعية والعملية لتحققها بشكل مستديم، لأن الحفاظ عليها هو مسؤولية مشتركة وانتفاء ذلك يجعلها مجرد حلم لا علاقة له بالواقع، بل يفتح الباب لمشاريع الهيمنة والتسلط تحت ذريعة حماية الوحدة الوطنية كما هو واقع الحال الآن.

فالدوافع التي ساقت لإعداد الوثيقة هي الرغبة لتجاوز حالة الوهن والضعف التي تعتري مجتمع المنخفضات حالياً والتي تحول دون تمكنه من الحفاظ على المكتسبات التي حققها طيلة سنوات نضاله السابقة واللاحقة في ظل المعارضة رغم أنه كان المبادر في الحالتين، أما الإشارة لذلك واعتباره صفة ملازمة لا يمكن تجاوزها فيه مجافاة واضحة للعلم والمنطق كما ورد في المقال. فإن الحكم على نضالات مجتمع بأكمله ووصمه بالعجز الدائم الذي لا يمكن تجاوزه بحجة تعثر محاولاته السابقة يفتقد للعلمية التي بني عليها المقال، باعتبار أن سيرورة الحياة لا ترتهن لقانون الثبات بل هي في حالة تغيير وتبدل مستمر تبعاً للتحولات التي تعتري البيئة المحيطة بها، وإن نضالات الشعوب من أجل حقوقها ومصالحها كذلك هي عملية مستمرة باستمرار حالة الوجود، وإن الحكم عليها بتوقف حركة تطورها بحجة تكرار الفشل يعني بالمقابل المطالبة بالإذعان للأمر الواقع بقبول دولة الهيمنة وايقاف عجلة التاريخ. وهنا نرى بأن محاولة قراءة الوثيقة تقع مرة تلو الأخري في مجانبة الصواب نتيجة للإفتراض الخاطيء سالف الذكر، بالرغم مما أشارت إليه الوثيقة في أكثر من فقرة على إستحالة تحقق هزيمة مشروع الهيمنة إلا من خلال تضافر الجهود المشتركة خاصة قوى المكونات المضطهدة. ما يعني بأن الحفاظ على المكتسبات التي تحققت في ظل المعارضة الإرترية، والتي اكتسبت مشروعيتها من التوافق الجماعي حريُّ بالدفاع عنها باعتبار أنها بداية الحل الذي يلبي طموحات الجميع. وهذه هي منطلقات الوثيقة التي تسعى لاستنهاض هذا المجتمع ليلعب دوره الطبيعي في التصدى لمحاولات النيل من ما تحقق على أرض الواقع والعمل بفاعلية مع الجميع لانجاز التغيير الديموقراطي لبناء حياة ومستقبل أفضل للكل في إطار الوطن.

وبالرغم من الإعلان الصريح بإطار العمل المدني الذي اختارته الوثيقة، إلا أن البعض ممن يعارضون الوثيقة يسعون للإلتفاف على الحقائق، فبدل الإقرار بالحقوق التي نادت بها باعتبار أنها الإصل يلجأون لنبش القواميس العلمية لتعريف معنى المنظمة المدنية، متجاهلين حقيقة الوضع الإستثنائي الذي نعيشه، وتداخل السياسي مع المدني حتى في ظل الدول المستقرة.

لذا فإن سقف الوثيقة هو سقف الوطن الذي يعبر عن حقوق ومصالح مكوناته ويصونها. وإن التعدي على المكتسبات التي تمثل حصيلة ما حققته قوى المعارضة طيلة سنوات نضالها ضد قوى الهيمنة والإقصاء هو التجني على حقوق المكونات، وإن سعى بعض القوى الآن لإجهاض كل ذلك يصب في صالح إعادة إنتاج ذات الهيمنة المتمثلة في النظام الحاكم ولو بشكل آخر. وإن القوى التي أشارت إليها الوثيقة ليست معنية لذاتها بقدر ما أن المعني هو عقلية الهيمنة التي تحركها، لأنها لن تزول بزوال النظام، بل باقرار الحقوق والإعتراف المتبادل وليس بالتخويف من زوال الكيان واسكات صوت الحقوق واعتباره مهدداً للوحدة الوطنية، في حين أن هذا هو ما يفرغ الوحدة من مضامينها وجوهرها ويخل بميزان العدالة ويفقد الوطن مشروعيته الإخلاقية وليس سواه.

أما وجه الغرابة الأكبر فيما ذهبت إليه القراءة النقدية هو افتراضها اليقيني بأن جيل الرواد كانوا يدركون الثمن الذي يدفونه مقدماً !! في قوله " بأن الوثيقة تعاتب هؤلاء الرموز على تمسكهم بالمواقف الوطنية على حساب مصالح المجتمع " كأنها تقول لنا بأنه كانوا يناضلون من أجل سراب مفترضةً فيهم السذاجة بأن مفهوم الوطن عندهم كان مفرغاً من أي قيمة إنسانية. أما إعتزاز الوثيقة وتباهيها بهذا التاريخ النضالي المشرف للرواد والتذكير به و توظيفه إيجابياً في إعادة بناء الثقة المفقودة وشحذ الهمم، لأن جيل الآباء الذين ضحوا بأغلى ما يملكون كان هدفهم الأول تحرير الإنسان قبل الأرض، ضد مصادرة الهوية والإستهداف الثقافي و الضم القسري ومصادرة الحقوق والحريات - وإلا ما حركوا ساكنأ - فهل الدفاع عن ذات الأهداف التي انطلقوا من أجلها هو خذلان أم إنتصار لهم.

وأعتقد بأن مايراد لهذه المكونات الآن أن تظل رهينة لنفس الهواجس التي تسعى لإفراغ مفهوم الوطن من مضامينه باختزاله في وحدة التراب على حساب كرامة الإنسان، بينما لا ينظر للتكتلات الأخرى التي تقوم على هذه الشاكلة مثل الحراك الذي تقوم به القاعدة الإجتماعية التي أنتجت النظام الحاكم كدأبها دوماً منذ نشوء الكيان الإرتري لاترتهن لشيء قدر ارتهانها لمصالحها الخاصة، وما يفعلونه الآن لا يتعدى كونه محاولات الحفاظ على المصالح التي تحققت لهم في ظل النظام، ما يعني إستمرار دائرة الهيمنة وسيطرة مكون وحيد على حساب الآخرين. فوحدة الوطن هي من وحدة مكوناته وصون حقوقها ومصالحها، وهذا لا يأتي هبة بل إن التدافع والوقوف للدفاع عنها هو ما يعيد التوازن للصراع ويؤسس للتوافق الوطني المفضي للأستقرار والنماء والإزدهار.

أما أن يتم تنزيه حراك القوى الأخرى، وعدم وصمه بالنعوت التي تجابه به حر اك المكونات الأخرى - خاصة مجتمع المنخفضات - من تهم شق الصف وتهديد الوحدة الوطنية أمر يستدعي التوقف عنده والتبصر في مآلاته ملياً.

وفي تقديري إن ما يعانية الشعب الإرتري بمختلف مكوناته تاريخياً هو فشل قواه السياسية في إدارة تنوعه، الذي لا يتأتى إلا من خلال الإقرار به والتعامل معه بما يضمن حق الجميع. فالوثيقة تحترم هذا التنوع وتطرح حلولاً له، قد يختلف البعض معها أو يتفق. فعلى المعارضين لها طرح رؤيتهم للحل من الواقع الفعلي وليس الإفتراضي، بدلاً من الهروب للأمام وتأجيلها لما بعد سقوط النظام لنفاجأ بنظام هيمنة جديد نضطر للنضال ضده لردح آخر من الزمن لا نعلم مداه.

Top
X

Right Click

No Right Click