إعمال النظر فيما جاء عن المنخفضات قراءات متأملة

بقلم الأستاذ: محمد أحمد إبراهيم المعلم (أبو أسامة المعلم)

القراءة الأولى - وثيقة من عنوانين هما:-

1. ميثاق العمل والمبادئ المشتركة.

2. مبادرة لجمع شمل مجتمع المنخفضات الإرترية.

فما هي القراءات التي أريد إجراءها فيما حملته إلينا هذه الوثيقة؟ بين ما كان وما هو مطلوب.

لقد قرأت هذه الوثيقة في صفحة الفيسبوك قراءة خفيفة، كما قرأت ما قيل عنها قبولاً أو رفضًا لها في ذات الوسيلة، وحينئذ دعوتُ إلى التأني ودراسة الظاهرة قراءة مع التعرف إلى الجهة التي أصدرتها، بيد أن بعض الأقلام أشارت إلى عدم وضوحي في هذا، فتأكد لي أننا غدونا نسير في اتجاه خطير مفضٍ إلى مزيد شتات لجمعنا الضعيف المعلول، وكأننا نساق إلى التجرد حتى عن واقع الشتات لنُصبح بعدُ بلا اسم ولا رسمٍ تمهيدًا للزوال الكلي عن ساحات العمل الوطني.

ثم جاءتني الوثيقة كاملة من بريطانيا، وما أن تملكتها إذا بي ذهبتُ مباشرة إلى صفحتها الأخيرة لأعرف جهة إصدارها، وما هو هيكلهم القيادي وخطط عملهم في الحال والمستقبل، بيد أني وجدتني صدمتُ قليلا، وقد كانت صدمتي فيما ألفيته فيها من أفكار:

إن الإخوة المذيلة أسماؤهم الكريمة في نهاية الوثيقة لم يكن لي بهم شرف معرفة سابقة، لكني قرأتهم في إنتاجهم الفكري هذا، وفيه كانت الصدمة، فسيرة كل أو جل هؤلاء أحسبها طيبة في سابق الميادين الوطنية، وأن طيب السيرة أو سيئها له مدلول يميل بالقارئ بحسبها إلى الربط بيـن الماضي والحاضر في شـبه محاكمة أولية للعمليـن، فيقبل أو يرفـض أعمالهم، بيد أن ذلك ليس إلا لدى الكرام الذين لا يحاكمون الناس على أس، إن كان مني فقوله مقبول، وإلا فلا أقبل منه صرفًا ولا عدلاً، هي إذًا محاكمة أوليةً فقد يثبت فيما بعد عكس القراءة الأولى المؤسسة على ما كان عليه بعض أو جل العاملين لما كانت السياسة لا ثابت لها.

في حيثية هذه الوثيقة التي هي مدار الحديث، فهذا يعني أن القارئ المحايد يستطيع أن يتصور مستقبل ما ترمي إليه الوثيقة بناء على موادها في مراحل العمل الوطني الإرتري التالية، بيد أن تصوره يظل الزمن القابل هو الفيصل فيه ما إن كان قد أصاب الرأي أو قد أخطأه، وقد تتغير أفكار القوم من سيئ إلى حسن أو من حسنٍ إلى سيئ بما يطرأ لهم من مستجدات سياسية وطموح وتحالفات، بهذه التوطئة أجمل أسباب الصدمة النحو التالي:

1. الوثيقة أفضت إلى معان علم الإنثرلوجيا الذي يتعلق بعلم الإنسان من حيث التعـريف به، وعن طبيعة حياته، ووسائل إنتاجه، وما تعرض له عبر التأريخ، وهي دراسة أصلها في مؤلفات الاستعمار، بيد أن حاجتنا ليست إلى ذلك في واقعنا المعاصر الذي نخوض فيه حالة صراع ثقافي يصعب تصور نهايتها، وما إن كنا سننتصر أو سنندحر ثم نتلاشى، لهذا نحن في حاجة ماسة حقيقية إلى استقراء تحليلي لأحداث التأريخ المؤسس على قواعد علمية ومعرفية ثابتة ينشدها السياسيون والباحثون والإستراتيجيون على السواء.

2. الوثيقة أفضت إلى تقرير أن الشعب الإرتري شعبٌ رعويٌّ بالتأسيس على ما كان عليه جيل آبائنا، بيد أن تلك خصائص قد انتهت بمغادرة جيل الآباء للديار قسرًا، فغدوا يُنعتون بـ: (اللاجئين)، ثم أنهم أتى عليهم الدهرُ فلم يبقى منهم إلا القليل الذي لا يقوى على الرعي لـو تيسر ذلك ولم يجدوا إلا هو، أما جيل الأبناء، فهم العلماء والأكاديميون الذين منهم من يدير مثل هذا الحوار عبر الأثير بتقنية ثورة التواصل الاجتماعي من أنحاء العالم، فالقول إذًا بأن المجتمع الإرتري رعويٌّ، قراءة قديمة جدًا كان يقولوا بها الأعادي والخصوم من أجل التقليل من شأننا بغـرض التبرير على أننا لا نصالح للحكم، وهذه نكاية منَّا ما كان ينبغي أن يقول بها إلا الأعادي والخصوم، لهذا نحن في حاجة ماسة حقيقية إلى استقراء تحليلي لأحداث التأريخ المؤسس على قواعد علمية ومعرفية ثابتة ينشدها السياسيون والباحثون والإستراتيجيون على السواء.

3. الوثيقة أقرب إلى رواية قصصية لأحداث التأريخ الإرتري الذي أرادوا منه جمع شمل مجتمع أبناء منخفضات إرتريا، لكننا في حاجة ماسة حقيقية إلى استقراء تحليلي لأحداث التأريخ المؤسس على قواعد علمية ومعرفية ثابتة ينشدها السياسي والباحث والإستراتيجي على السواء.

4. لقد جاء في الوثيقة عناوين كثيرة رئيسة ومتفرعة بعد المقدمة، هي:
الخلفية التأريخية. مبادئ وأسس العمل.

الحقوق والمبادئ الأساسية، وقد تفرع عنها: حق الحياة. حق الحريات. حق ملكية الأرضي. حق الدين والعبادة. اللغات. الوحدة الوطنية. حق السلطة والثروة. الشهداء ومعاقي حرب التحرير والرعيل الأول. علاقات مجتمع المنخفضات مع المحيط الاجتماعي والامتدادات. حق اللاجئين. الحقوق الإنسانية العامة. البيئة. التنقيب والتعدين، وكل أو جل هذه المعاني قد درستها المعارضة الإرترية في مؤتمرها الذي عقد في مدينة أواسا الإثيوبية عام 2011.

خطة العمل الإستراتيجي المشترك للقوى السياسية والجماهيرية للمجتمع، وقد تفرع عنها:-

الباب الأول - الرؤية:

الباب الثاني - الرسالة:

الباب الثالث - المهام:

الباب الرابع - المبادئ والقيم الموجهة للعمل المشترك:

الباب الخامس - الأهداف الإستراتيجية العامة والخاصة، وقد تفرع عنه:-

• الأهداف الخاصة بالشأن الجمعي.
• الأهداف العامة على المستوى الوطني.

الباب السادس - الآليات:

ميثاق للعمل المشترك:

وكما تفرعت عن كل عنوان رئيس عناوين فرعية، فقد تفرعت أيضًا مواد وبنود وفقرات كثيرة عن كل عنوان فرعي.

بقراءة هادئة للعناوين الرئيسة والفرعية، لم أصل إلا إلى معان أحسبها أنها هي الحقائق التي صعُب علي اكتشاف ما يخالفها، وفي هذا الشأن، هنا قررت حقيقة تفيد أنني كغيري أخطئ وأصيب، والأمر ليس إلا حوارًا فكريًّا بما توصلت إليه على النحو التالي:

القراءة الثانية:

1. الوثيقة يغلب فيها طابع السرد الإنشائيّ.

2. غالب مواد الوثيقة قانونية ودستورية، ولائحية تنظيمية.

3. غالب مواد الوثيقة تثقيفية لأعضاء تنظيم خاص.

4. غالب مواد الوثيقة متكررة وإن بدت في صيغٍ مختلفة.

5. غالب مواد الوثيقة خطابًا تعبويًّا موجهٍ إلى عضوية تنظيم خاص.

6. الوثيقة خلط بين المعاني أعلاه، وبين التنظيمات الإرترية والقوى السياسية والفكرية دون النظر إلى التوفيق بين هذه المعاني وأبعادها الفكرية والسياسية والتنظيمية.

7. ليس ثم خطاب سياسيٍّ مؤسس على قراءة للواقع الإرتري المتصل بالواقع الإقليمي والدولي في منطقة القرن الإفريقي والجزيرة العربية والشام خاصة، ضمن التحولات الفكرية والسياسية التي يراد منها إحداث قراءات جديدة، وهي تحولات لا تمهل ولا ترحم.

8. ليس ثم أفكار عملية متقدمة وواقعية تفيد كيفية مواجهة صلف واستبداد حزب الجبهة الشعبية الحاكم من أجل إعادته إلى الجادة الوطنية، أو إزالته من على رأس الحكم.

9. ليس ثـمَّ منهاج عمليٍّ مؤسس على بعدٍ فكري أو عقائديٍّ يجعل الإرتريين المدعوين يلتفون حول دعوة المنخفضات من أجل إنقاذ الوطن مع حفظ الحقوق المهدرة.

10. ليس ثم استقراء تحليليٍّ علميٍّ يفيد ما إن كان من اللازم أن نرمي حزب الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة من قوس واحدة، أم علينا أن نفرق بين مكونه، ولماذا ؟

11. ليس ثم استقراء تحليليٍّ علميٍّ يفيد ما إن كان من اللازم أن نرمي كافة سكان المرتفعات من قوس واحدة، أم علينا أن نفرق بينهم، ولماذا ؟

12. ليس ثم تصورٍ علميٍّ وسياسيٍّ واضحٍ لجمع أبناء المنخفضات وقد تعددت تنظيماتهم، وتباينت مشاربهم الثقافية.

13. إن مما يعيب الوثيقة ، بل ويصنف الذين أسسوه، تخلف قراءتهم لقولهم:

"إن إنجاز أي عمل كبير يتطلب توفير الإمكانات المادية الضرورية، عليه يجب إيلاء توفير الدعم المادي الأهمية القصوى، وذلك عبر جمع الاشتراكات والتبرعات من أعضاء وأصدقاء المجتمع، والبحث عن وسائل وموارد لإضافية لزيادة القدرات المادية دون أن يتعارض ذلك مع الأهداف والمبادئ المعتمدة".
هل يعقل أن يقوم عملٌ جبار بهذا الحجم على اشتراكات وتبرعات من هنا وهناك كحالنا في العقود الشاقة الخوالي التي نتجت عنها واقع اليوم، بينما صنع تنظيم الجبهة الشعبية في تلك العقود واقع تحالف إستراتيجي مع قوى إقليمية ودولية من أجل صناعة واقع غدٍ إيجابيٍّ مشتركٍ بينهم، أي واقع اليوم الذي نعيش نحن في حسراته، ويعيش هو في عز ومجد!؟

14. إن الخطاب السياسي الفكري ذو البعد العقدي في هذه الوثيقة معدومٌ تمامًا، فهو من صنف خطاباتنا القديمة في فترة منتصف الستينات، وكامل السبعينات وشيء من الثمانينات، ذلك النمط من الخطاب الذي كنا نخاطب به منظماتنا الجماهيرية وقوى الجيش، بينما كنا نجهل كيف نصنع واقع وعيٍّ مشتركٍ بما يجب علينا عمله لما بعد الاستقلال.

إن واقعنا ما زال يمثل حالة الشتات الفكري والتنظيمي، وهذه حقيقة تتطلب إعمال الفكر بإعادة النظر في كثير مما فرقنا، والكثير مما يجمعنا بعمق الاستقراء التحليلي الثاقب لما كان وما هو كائن وما سيكون، وليس بدعوات سطحية تتباكى في دمن أطلال الماضي.
إن إرتريا اليوم تفرَّغُ من سكانها الأصليين بقيادة لوبي اليوتوب الإرتري النصراني المتخفي خلف أكمة وتحت أجمة حزب الجبهة الشعبية الحاكم، وقد اشتد إفراغها من سكانها بقوة في هذا العام، وفي هذه الأشهر خاصة بقدر عظيمٍ، وهو واقع يعني قرب إحداث قـراءة مختـلفـة تـمامًا، ربما باستدراجنا إلى توجيه أسلحتنا ضد بعضنا كما حصل في مرحلة النضال الوطني عندما غدرت بعض قياداتنا بالمناضلين الأشاوس، فقضينا على بعضنا بأيدينا في حوادث سجلها التأريخ الإرتري المعاصر بـاسم: (الحرب الأهـلية) في أواسط سبعـينات الـقـرن الماضي، وقد استمرت الحرب الأهلية بمطاردة تنظيمات جبهة التحرير الإرترية لبعضها البعض، وبهذا فقد أصبحت تلك التنظيمات عديمة الجدوى على أرض الواقع في ساحات المغالبة الفكرية والسياسية والعسكرية، ولم يبقى ظاهرًا في الساحة إلى من كان قد أخذ على عاتقه القضاء على فصائل جبهة التحرير الإرترية ذات البعد العربي الإسلامي الأضعف بنية وإن لمعت أسماء بعضها، وعندئذ فقد تمالأت الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا بقيادة لوبي اليوتوب مع تنظيم ويني تجراي للإجهاز على ما بقي من جبهة التحرير الإرترية في عام 1981.

ذلك لما لم ترقُبْ فيها إلاًّ ولا ذمَّةً، فقد حقق تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا بهزيمته لجبهة التحرير الإرترية واقع صناعة اليوم المخزي الأليم في كافة ساحات المسلمين بكل الأبعاد والمعاني.
لم تكن أبدًا هزيمة جبهة التحرير الإرترية أمام تحالف الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا مع جبهة ويني تجراي، هزيمة عسكرية بسبب ضعف جيشها ابتداء ولا أصالة، ولم تكن الهزيمة أيضًا بسبب رداءة التسليح أو بسبب قلته، ولما كان الأمر بعيدًا كل البعد عن هذه الحـقائق، فإن الذي صنع واقع تلك الهزيمة النكراء، كان وما زال لوبي اليوتوب يمهد للاستئثار بالساحة الإرترية العسكرية والسياسية من أجل صناعة واقع المشهد السياسي والاجتماعي الإرتري الذي يمثل بعد التجراي تجرينيا الثقافي والسياسي والأمني، ويمكنهم من الانفراد بإدارة دولة إرتريا كما هو حاصل اليوم.

القراءة الثالثة:
إننا جميعًا خدمنا أهداف لوبي اليوتوب في مرحلة النضال الوطني بواقع خلافاتنا الوهمية التي لا نجد لها ما يبررها من زاوية نظر الاستقراء التحليلي لأحداث التأريخ التي صنعنا واقعها بأنفسنا بسبب قلة علمنا ومعرفتنا بأهم مهامنا وأولوياتها، فغدونا لذلك نسير وفق خيارات صنع آخرين واقعها ضد حاضرنا ومستقبلنا، ذلك لقلة علمنا ومعرفتنا بأهداف الأعادي والخصوم تارة، وبالتقليل من شأنها أخرى، وها نحن ما زلنا نخدم أهداف لوبي اليوتوب الذي تفرد بإدارة دولة إرتريا بعد إذ أقصانا منها بغية تحيق طموح بعد تجراي تجرينيا كما خطط لها زعيمهم ولدآب ولد ماريام مع آخرين عقب الحرب العالمية الثانية التي أفرزت نشوء أحزاب سياسية إرترية.
نعم، إننا مازلنا لم نجتمع بعدُ من أجل تحديد أهم أهدافنا بقراءة علمية مثبتة في ميثاق جامعٍ لا يسعنا أن نخرج عن جزئية من جزئياته فضلا عن كلية من كلياته، لكون كل جزئية منه إنما تتفرع عن ثابت كلياته المتفق عليها أصالة وليس بالابتداء، وأننا لذلك يجب علينا حماية الجزئيات بحماية الكليات، وحماية الكليات بحماية الجزئيات، ذلك لأننا لا ولن يقوم لنا شأوًا إلا بمثل هذا لدحض مزاعم لوبي اليوتوب الذي غدا يعمل بخطط علمية محكمة لإقامة أمجاده الزائفة على أنقاض أمجادنا التليدة، وإنه يفعل كذلك من أجل أن يضمن مستقبله السياسي والثقافي والأمني، هذا وهو لا يأبها بأننا نحن المكون الرئيس لهذا الوطن أرضًا وشعبًا منذ القديم.

إننا ما لم نُفعِّـلْ الثوابت التي تجمعنا، فـتمنحنا القوة الحقيقية التي تأهلنا لأن نُخيف إذا قلنا، ونُوجع إذا ضربنا، وصنعنا الأمجاد إذا عملنا، ونُسمع إذا تكلمنا، ولهذا وغيره نكون مرغوب فـينا ومرهوب منا، ولن يتحقق لنا ذلك إلا عـنـدما نحـدد أهـم أهـدافنا الجامعة بالتأسيس على قراءة علمية تجعلنا - بإذن الله - نضمن نهضةً أفضل في مستقبل شؤوننا الاجتماعية والسياسيَّة والثقافيَّة والأمنيَّة والتجاريَّة والتعليمية والصحية، وبهذا فقط نتأهل لإقامة علاقات إقليمية ودولية متينة بالتأسيس على معاني بعدنا الثقافي، وأما غير ذلك فيدل على عدم نضجنا الفكري والسياسي بسبب انخفاض مستوى وعينا، إما لأننا لا نقرأ، أو لا نحسن القراءة الحـقـيقـة لما كان عليه ماضـيـنا القريب، وما كائن عليه حاضرنا، ولهذا لا نستطيع أن تصور ما سيكون عليه مستقبلنا في وطن تدور فيه رحى معركة صراع ثقافي منذ سبعة عقود قد بدت معالم نتائجها الأولى.

القراءة الرابعة:

إننا نحن الذين حفظنا الكيان الوطني بمكونه الثقافي الإثني والجغرافي المعاصر عندما وقف جيل آبائنا ضد تقسيم الوطن بين إرتريا والسودان، أو ضمه جملة وتفصيلاً إلى إثيوبيا لما تمالأ على ذلك لوبي اليوتوب مع إثيوبيا وقوى الاستعمار ممثلة في أميركا وبريطانية خاصة في قصة يعرف الجميع تفاصيلها، ويوم غُلبنا على أمرنا فـقبلنا بالإتحاد الفيدرالي الذي نكثت إثيوبيا عنه بالتعاون مع لوبي اليوتوب والقوى الإقليمية والدولية فاتفق الجميع على إلغاء عقد الفيدرالية، أعلنا كفاحًا مسلحًا فخضا ضد إثيوبيا ومن تحالفت معهم من بيننا نضالا مضنيًّا لثلاثة عقود عجاف باهظة التكاليف في الأنفس والممتلكات، حتى تمكنا من إلحاق الهزيمة بإثيوبيا ونحن عندئذ لا يساوي تعداد سكاننا إلا 10% مقارنة بإثيوبيا، هذا بصرف النظر عن سرقة جهودنا وأمجادنا بسبب بؤس قياداتنا قصيرة النظر، وانعدام الحليف الإستراتيجي.

نعم، الذين صنعنا واقع الاستقلال الوطني، ولعل هذه الحقيقة لم ينتبه إليها إلا قليل منا، بيد أن بعض بادي الرأي يصعب عليهم فهم هذه الحقائق، لهذا لا يقبلون هذه الكلام، إلا أن الحكمة تقضي لأن نتعلم جميعنا حسن الاستماع قبل أن نقول أو نعمل، ففي السابق قد علمنا أننا نحن الذين حفظنا الوطن بمكونه الوطني الإثني والجغرافي، وفي اللاحق نحن أيضًا الذين هيأنا أسباب الاستقلال الذي جعل القوى الإستراتيجية الدولية والإقليمية تقبل بذلك رغمًا عنها، والسؤال هنا كيف تحقق ذلك يا ترى؟

فيما يلي أقدم كيف ولماذا بشاهد ما قالته الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا على لسان الأمين محمد سعـيد يـوم كان رئـيسًا لوفـد الجـبهة الشعـبـية لتحرير إرتريا فـيما عـرف بمحـادثـات: (أتلانتا) في الولايات الأميركية المتحدة:

بعد الإعلان عن حركة الجهاد الإسلامي الإرتري نهاية ثمانينات القرن الماضي كثف كل من أميركا وإسرائيل وغيرهم نشاطهم السياسي والأمني بشأن مستقبل إرتريا أكثر من ذي قبل من أجل ضمان كافة إستراتيجياتهم المعلومة بالضرورة، وكانت الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا قد انتصرت على جبهة التحرير الإرترية في عام 1981 وفق ترتيبات إقليمية ودولية ليس هذا موضع بيانها، إلا أن حدث الإعلان عن حركة الجهاد الإسلامي الإرتري كان له خصوصية عظيمة الشأن، ذلك لأن إعلان الجهاد في هذه المنطقة كان أمرًا مرعبًا جدًا على حدٍّ سواء لأميركا خـشية تعرض مصالحها الإسـتراتيجـية لـخطر ما حق فـي الجـزيـرة العـربـية والشام حتى مضيق هرمز، وكل ما يتصل بهذه المناطق، وأما إسرائيل في الشام فكان الأمر بحقها أسوأ بكثير، لهذا قال الرئيس الأميـركي الأسبق جـيمي كارتر "إن الجهاد في إرتريا ليس كغيره"، وإلى هذا التأريخ لم يكن استقلال إرتريا مقررًا لدى الإدارة الأميركية وإسرائيل والغرب وكافة الحلفاء، بيد أن الرياح أتت بما لا تشتهيه سفنهم.

نعم، كان الأمر كذلك لديهم بعد أن علم العالم معنى وأبعاد الجهاد في ساحات أفغانستان، فقد تعلم الغرب خاصة دروسًا لم تكن من علمهم أبدًا، ومنها: أن المسلمين إذا سمع كل فرد منهم داعية الجهاد لن يتأخر بنفسه وماله أو بأحدهما، أي أن إعلان الجهاد في إرتريا سيجعل الشباب الجهادي المسلم في أنحاء العالم وفي الجزيرة العربية خاصة، يهرعون إلى إرتريا بمالهم وأنفسهم بقوة أكثر مما حصل في أفغانستان، وعندئذ ليس ثَمَّ عائق حدودي أو أمني أو بعد مسافة يحول بينهم وبين إرتريا، وهذا يعني تحولاً خطيرًا في منطقة القرن الإفريقي والجزيرة العربية والشام حتى مضيق هرمز، وأن هذا التحول سوف يحدث خسائر كبيرة في الإستراتيجيات الدولية والإقليمية التي تتزعمها دوليًّا أميركا، وإقليميًّا إسرائيل، لهذا وجب عليهم حسم هذه المقدمات الخطيرة بتقرير استقلال إرتريا أولاً، ثم النظر في الحليف الإستراتيجي من بين الإرتريين.

في هذه الفترة كانت تجري محادثات بين إرتريا ممثلة في تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا وبين حكومة إثيوبيا، وقد أجرت سفارة دولة الإمارات العربية المتحدة في أميركا مقابلة مع الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر راعي المحادثات، ورئيس وفد إثيوبيا شوان دان بلط، ورئيس وفد الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا الأمين محمد سعيد، وقد عرفت تلك المحادثات بـ: (محادثات أتلانتا)، ذلك بشأن تقرير مصير إرتريا بين الاستقلال والفدرالية والحكم الذاتي، وفيما يلي بعضُ ما جاء مما قالته الجبهة الشعبية على لسان رئيس وفدها:

لقد كانت الجبهة الشعبية غاية في الوعي عندما فاوضت إثيوبيا في حقها الوطني وهي في موقع قوةٍ استطاعت فيه هزيمة إثيوبيا فأرغمتها على قبول مبدأ بحث مستقبل إرتريا معها، وهذا عملٌ جليلٌ قد استغلت الجبهة الشعبية واقعه، بيد أنها لم تبلغ ذلك إلا بموافقة القوى الإستراتيجية التي خضع لها الطرفان، وبهذا فقد أجمعت حقائق التأريخ بأن استقلال إرتريا لم يتم تقريره بناءً على رغبة وقـدرة الإرتريين، إلاَّ أن الجبهة الشعبية كانت عنصرًا فعَّالا لإدراكها ضرورة العمل مع القوى الإستراتيجية التي يهمها أمن البحر الأحمر وسلامته.

هذا هو إذًا الدرس الواقعي الذي استوعبته الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا لما علمت يقينًا أنها لا تستطيع تجاوز حكومة العالم مهما كانت قوتها العسكرية لهزيمة الجـيش الإثـيـوبي، أما التنظيمات الإرترية التي لحقت بركبها حركة الجهاد الإسلامي الإرتري فكانت تدور في فلك أجهزة الاستخبارات العربية قاصرة النظر، وهو قصور عـبر عـنه رئيس جهاز استخبارات إحدى دول الخليج العربي بكل عجرفة وصلف وغرور وأستاذية يوم اجتمع به في مكتبه وفد جبهة التحرير الإرترية وحركة الجهاد الإسلامي الإرتري إثر اتفاق بينهما فيما يجمعهما من الثوابت الوطنية، ولم تسمح تلك الجهة العربية الخليجية بذلك إلا لما أيقنت أن تنظيم الجبهة الشعبية ليس في صالحها، وهي قصة طويلة ليس هذا موضع الحديث عنها، فقد توهم رئيس جهاز الاستخبارات كونه رئيس حكومة العالم أو رئيس جهاز استخباراتها (CIA)، إذ قال للوفد فـي مكـتبه: " لا نريد في منطقة البحر الأحمر تبني طرح إسلامي يتسلط به البعض على رقاب الناس، نريد طرحًا سياسيًا متقدمًا يتلاءم مع النظام العالمي الجديد"، وكان المقـصود بهـذا الكـلام الفِـجِّ الأرعـن، حركة الجهاد الإسلامي الإرتري.

إن هذه القراءة خضتها من أجل أمرين هامين هما:-

1. إن إعلان المنخفضات أمر ذي بال عظيم في ذاته وبالقائمين عليه لكونه بشأن المصير الإرتري الكلي.

2. إن هذا الأمر الجلل لا بد من النظر فيه لكي نصل إلى حكم صائب بعيدًا عن ردود الأفعال وحظوظ النفس وتأثير العواطف، ولا يتحقق ذلك إلا إذا استوفينا قراءة كامل الصورة من كل الزوايا والأبعاد، فـقـد قـال فـقهاء الإسـلام الأصوليـيـن: " الحكم على الشيء فرع عن تصوره"، وقد أردت من هذا، إمعان النظر في واقع تنظيماتنا المعارضة والواقع الإقليمي والدولي المحيط بها، وبهذا يتبين لنا أن تنظيماتنا مازالت دون المستوى المطلوب منذ فترة الكفاح المسلح الذي بلغت فيه الجبهة الشعبية مرحلة التحالف مع تنظيم إثيوبي بنظرة ثاقبة لقراءة مستقبل بعيدٍ يحقق لهما القوة المؤدية إلى هيمنة كاملة بكل معانيها وأبعادها، ذلك بعد أن استوعبا شروط تحقيق أهدافهما، المشروط بشروط حماية المصالح الإستراتيجية الأميركية وأمن إسرائيلي في الشام، خاصة بعد الحرب الباردة وأحداث 2011/09/11م.

إن الأمر المؤكد بهذه القراءة، تفيد أن مبادرة جمع شمل أبناء المنخفضات ليست إلا زيادة عبئ على الساحة الإرترية، حيث لا فكر سياسيٍّ يُقنع نشطاء واقع اليوم الذين تعددت تنظيماتهم السياسية ومذاهبهم الفكرية بعد إذ تنوعت مشاربهم الثقافية بانفتاح الجميع على الإرث العالمي في عصر تقنية المعلومات المدرار، ولهذا فالخيارات أمام الجميع كثيرة بحسب قراءة كل فريق للواقع من زاوية نظر مكونه الفكري، هذا بخلاف واقع أبناء المنخفضات في عهد الرابطة الإسلامية الإرترية، حيث لم يكن أمامهم سوى خيار واحد على وجه الإجمال هو: خيار الرابطة الإسلامية الإرترية التي كانت رموزها الوطنية محل إجماع كبير من أمثال الشيخ إبراهيم سلطان والأستاذ عبد القادر كبيري، وغيرهم من وجهاء الأقاليم والقبائل والشيوخ، وقد انتهت الرابطة إلى ما انتهت إليه وهي شريفة نظيفة.

وفي العهد الأول لجبهة التحرير الإرترية، لم يكن أيضًا أمامهم سوى خيار جبهة التحرير الإرترية التي كانت الرائد الوحيد في الساحة الإرترية العسكرية والسياسية والجماهـيرية، فهي لذلك كانت محل إجماع وطني حتى انقسمت حول نفسها، ثم وجه مناضلوها أسلحتهم ضد صدور شركائهم في المصير وفي النضال، وبهذا فقد انتهت إلى غير ما يرام مرتين.

الأولى، بسبب الحرب الأهلية التي قـتل فيها بعضهم البعض أكثر مما قتلته منهم إثيوبيا.

والثانية، لما هُزمت أمام الجبهة الشعبية عام1981، فأصبحت الساحة السياسية والعسكرية الإرترية خالصة للجبهة الشعبية تفعل فيها ما تشاء، وتصنع فيها ما تريد على الشاكلة التي تخدم أهدافها الثقافية والسياسية دون منازع.
هنا أرجو أن تتسع صدورنا لهذا الحوار أو النقد الذي ربما كان قاسيًّا على بعضنا لأكثر من سبب لا يخفى على كثير منا، بيد أن أعظم دليل على تخلف تنظيماتنا نقرؤه في خطاباتها السياسية متوحدة المدار، وهذا يتجلى في الاستقراء التالي:

القراءة الخامسة:

1. إن خطابنا السياسي ما زال تقليديٌّ من إرث ستينات وسبعينات وثمانين القرن الماضي، لذلك فهو من صنف ودرجة خطابات تنظيماتنا السياسية والفئوية في تلك الحقبة؟

2. الواجب بعد هذه التجربة الطويلة أن يكون خطابنا السياسي المعاصر مؤسس على بعدنا الثقافي والتأريخي والحقوقي الجامع الذي يمثل بعدُ تصورنا لدولة القانون التي تؤصل حق انتمائنا الثقافي والسياسي في الخريطة الإقليمية والدولية السياسية والاجتماعية، هذا البعد وإن كان الجميع يتحدث عنه، إلا أني أعني أن نتخذه الفيصل في أمر الوحدة الوطنية؟

3. الواجب أن يكون خطابنا السياسي مؤسس على عمق قراءتنا للأحداث الإستراتيجية الأمنية والسياسية والثقافية التي تسير حثيثة في القرن الإفريقي بمثل ما جرى في السودان بفصل جنوبه عنه، وبما يُهيأ له لفصل غربه وشرقه عنه من زاوية نظر البعد نفسه؟

4. الواجب أن يكون خطابنا السياسي مؤسس على عمق قراءتنا لما يجري في إثيوبيا من تحولات سياسية واجتماعية، ومن أبعاد بناء سد ماء النيل وما سيترتب على ذلك من إحداث قراءة جديدة في العلاقات الإقليمية المتصلة بمصالح القوى الإستراتيجية صاحبة الصوت الأعلى في إقليم الشرق الأوسط؟

5. الواجب أن يكون خطابنا السياسي مؤسس على عمق قراءتنا لحاجة إثيوبيا إلى منفذ بحري يخلقُ واقع استتباب الأمن والسلم بينها وبين إرتريا، ويسهم في أمن الإقليم والعالم، وهو أمر لا مناص من أن يفكر فيه ثم يُعمله غيرنا بقراءة المقدمات الواضحة التي وقـفنا على بعض جوانبها عام 2011 في مؤتمر المعارضة الإرترية في مدينة أواسا الإثيوبية؟

6. الواجب أن يكون خطابنا السياسي مؤسس على عمق قراءتنا لمؤتمر المثلث العفري الذي عُقد في بروكسل يوم: 2012/09/30 و، وماذا قيل وجرى فيه من قبل نائب رئيس الإتحاد الأوربي بصريح اسمه ومنصبه القيادي، وشخصيات معتبرة أخرى غير واضحة الانتماء؟

7. الواجب أن يكون خطابنا السياسي مؤسس على عمق قراءة ما جرى ويجري في العراق، وما يجري اليوم في الشام منذ أكثر من ثلاثة سنوات، وما يجري في مصر من تمهيد لقيام دولة الأقباط في دلتا النيل، والتغيرات المتوقعة في عموم إقليم الشرق الأوسط؟

8. الواجب أن يكون خطابنا السياسي مؤسس على عمق تصور ما سينتهي إليه واقع الصراع الثقافي بين الاثني الإرتري بالتأسيس على تعنت وجرائم لوبي اليوتوب ما إن كان سيجنح إلى السلم والتفاهم مع سائر المكون الوطني، أم سيمضي على سياسة الاستئثار بالوطن بغية إحالتنا إلى صنف مستوطنين وليس مواطنين؟

9. الواجب أن يكون خطابنا السياسي مؤسس على عمق ما سنتوصل إليه من تشخيص حقيقي لا مغالاة فيه، ولا تهويل له، ولا تهوين عنه، ولا خوف منه، ولا مجاملة فيه، أعني: ماذا لو تمادى لوبي اليوتوب في تجرنة إرتريا رغمًا عنا وقد حال من قبلُ دون تحرير دستور الدولة، وهذا يعني لا تعـددية سياسية، ولا بسطًا للعـدالة، ولا صوتًا للحـريات الـفكـرية، ولا إمكانية للحريات السياسية، ولا واقعٍ أمنيٍّ للحقوق العامة والخاصة، وقبل هذا وذاك، لا أمل لعودة اللاجئين والجاليات بحرية إلى وطنهم عامة، وإلى ممتلكاتهم في الحضر والـريف خاصة، ولا أمل لأن يكف عن محاربة اللغة العربية والثقافة الإسلامية؟

10. الواجب أن يكون خطابنا السياسي مؤسس على عمق قراءة ما لو رفض لوبي اليوتوب التراجع عن الاستئثار بإدارة الوطن منكرًا حقوقنا الوطنية؟

11. الواجب أن يكون خطابنا السياسي مؤسس على عمق قراءة ما إن كُنا سنرضى من أجل وحدة الوطن وإن صنفنا لوبي اليوتوب من درجة المستوطنين وليس المواطنين؟

12. الواجب أن يكون خطابنا السياسي مؤسس على عمق قراءة ما إن كنا سنخوض حربًا بالسلاح بمقتضى الحال إذا تمادى لوبي اليوتوب في إنكار حقيقة كوننا أصحاب الحق الأول؟

13. الواجب أن يكون خطابنا السياسي مؤسس على عمق قراءة كيف ستكون طبيعة واقع إمضاء قوة السلاح، أعني: هل سنلبس مجددًا الشدة فنعيد تجربة الثورة الإرترية لمحاربة قوات حزب الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة.

14. الواجب أن يكون خطابنا السياسي مؤسس على عمق قراءة هل خصمنا الحقيقي لوبي اليوتوب الذي أخذ على عاتقه تجرنة إرتريا، وهذا بعدٌ يعني تنصير إرتريا وإظهارها في مشهد التجرينية بما يجريه اليوم، أم كافة مكون حزب الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة بما فيه الأحرار الوطنين الذين يريدون إرتريا لكافة الإرتريين؟

15. الواجب أن يكون خطابنا السياسي مؤسس على عمق قراءة واقع تصور إعمالنا لقوة السلاح ضد لوبي اليوتوب ما إن كان مناسبًا زمانًا ومكانًا من زاوية نظر الاستقراء التحليلي لواقع إرتريا بكل دقيقه وجليله السياسي والاجتماعي، والواقع الإقليمي والدولي بكل دقيق وجليل خصائص إستراتيجياته الأمنية والسياسية لحماية مصالحه الإستراتيجية والثقافية في البحر الأحمر والجزيرة العربية والشام حيث صراع الحضارات؟

16. الواجب أن يكون خطابنا السياسي مؤسس على عمق قراءة على أن كل الدلائل تشير بأن لوبي اليوتوب سوف لن يجنح إلى الاعتراف بحقوق شركائه، بل سيمضى مستكبرًا على الجميع كافة، غامطًا لهم جميعًا، عندئذ هل سنشرع إلى إرغامه بقوة السلاح الذي يعني حربًا داخلية ونحن نعلم ما سيترب على ذلك من تدخل دولي وإقليمي، وما هي الإمكانية إما لقذفه خارج اللعبة، أو إرغامه لإعادته إلى حجمه الطبيعي؟

17. الواجب أن يكون خطابنا السياسي مؤسس على عمق قراءة إذا لم نرى إعمال السلاح، ولا نرضى بضيم تصنيفنا من فئة المستوطنين، ولا نرقُبُ فيه لعدم الثقة به لانعدام إمكانية تصور التعايش السلمي معه، عندئذ هل سنطرحُ أرضًا مسألة وحدة الوطن بتقرير حقيقة الطلاق البين الذي لا رجعت فيه؟

أعني: هل سنشرع إلى تحقيق تقسيم دولة إرتريا بين منخفضات ومرتفعات مع تقرير السماح لأفراد المواطنين الإرتريين لأن ينتقلوا بحرية إلى حيث شاء آحادهم بالتأسيس على أي اعتبار يراه أو يعتقده، والأعظم من كل ذلك، ما بالنا بالمسلمين في المرتفعات الذين لا يقل تعدادهم عن 40% من سكان المرتفعات، ولا أقول ذلك إلا لأن مؤشر دعوة المنخفضات يميل إلى المفاصلة بين المسلمين والنصارى؟

18. الواجب أن يكون خطابنا السياسي مؤسس على عمق قراءة عم هو البعد من واقع ظهور إيران كونها قوة إقليمية أصبح لها وجود في البحر الأحمر لإدارة الصراع العقائدي بين السنة والرافضة من خلال ظاهرة الحوثيين، وقد وتورطت إرتريا في هذا الصراع من خلال لوبي اليوتوب وهو يصبو إلى تحقيق تعميق الصراع بين المذهبين، وتحقيق مكاسب ماديَّةٍ؟

19. الواجب أن يكون خطابنا السياسي مؤسس على عمق قراءة عم هو البعد من وجود إسرائيل العسكري والأمني والمدني في البر والبحر الإرتري؟

20. الواجب أن يكون خطابنا السياسي مؤسس على عمق قراءة ما هو التصور العملي الذي يفرضه الواقع الدولي والإقليمي والمصالح الإستراتيجية الوطنية للمدى البعيد من زاوية نظر التعامل مع دول العالم دون استثناء، أعني هل سنتحرج من إقامة علاقات مصالح متبادلة مع إسرائيل مثلا من أجل إرضاء العرب، أم سنمضي إلى ما يحقق مصالحنا الوطنية من جهة، وإسقاط الرهان على أيدي الآخرين الذين غدوا يستعملون هذا السلاح في الماضي والحاضر.

21. أخيرًا إن لم نؤسس خطابنا السياسي على أبعاد هذه المعاني وغيرها، فكيف نتصور مستقبلنا في عالم قد غدا قرية كما يقال في عصر العولمة التقنية والسياسية؟

القراءة السادسة:

لا شك أن خطابنا السياسي متخلفٌ كثيرًا عن مثل هذه القراءات، لهذا فإن ما يجري اليوم من معارك بيننا بشأن مستقبل المنخفضات مثلا، وما قيل عن ذلك قبولا ورفضًا لـلـفكرة، ليس إلا قتلا بطيئًا لنا حتى نخر مغشيًّا علينا فيُركلَ خارج الوطن من هم فيه، ويُحرم الوطنُ على الذين خارجه، وبهذه المقدمات تتحقق أبعاد تجراي تجرينيا بما تكسبه اليوم أيدينا.
أي ما هو فقه الواقع الذي يسعفنا به أهل الدراية والمعرفة بشؤون السياسة ومعاني المصالح الإستراتيجية المرعية لدى كل أمة في القديم وفي واقعنا المعاصر، ذلك من زاوية النظر الشرعية لدى المسلمين، ومن زاوية النظر السياسية لدى المفكرين، وهل يسعنا أن نبتعد عن هذه المعاني؟

إن خطابنا السياسي الذي غدا يطنطن حول مستقبل جزئيات الوطن لا يُستبعدُ أن يكون المراد منه استهلاكنا في صراعات جانبية من أجل تمرير مخططات خطيرة قد صرحت بها إثيوبيا بما ذكره الأخ أبو همام صراحة في صفحات الفيسبوك بصرف النظر ما إن كانت إثيوبيا تمكر لنا أو تمكر بنا، وهذا يذكرنا بما خططت له إثيوبيا في عهد منقستو هيلى ماريام يوم استدرجت إثيوبيا بعض إخوتنا-رحم الله ميتهم- وجمعنا في صالح الدين والدنيا بحيهم، وكم كانت تلك التجربة مريرة لِمَا خلفته في ساحاتنا من آهات ومآس، وهي لم تحقق ولا مثقال قطمير لصالح الأمة في شؤونها السياسية والاجتماعية.

إنني لا أعني أبدًا أن الذين يقولون بفكرة المنخفضات، إنما ينفذون مخططات الأعادي والخصوم حال كون إثيوبيا تمكر بنا، بل أحسبهم على علم تام بما يريده الأعادي والخصوم، فهم لذلك أحسبهم أرادوا أن يستغلوا الفرصة المتاحة كحال جامعة الدول العربية عندما تفاعلت مع التحول الأميركي يوم قررت أميركا منح إرتريا استقلالها فأوعزت إلى جامعة الدول العربية لتوحيد جناحي جبهة التحرير الإرترية في منتصف سبعينات القرن الماضي بغية قطع الطريق على الاتحاد السوفيتي إثر تحول إثيوبيا من البيت الأبيض إلى الكرملين زمن الحرب الباردة، ذلك عندما بدأ الاتحاد السوفيتي يتمكن من وضع قدمه في البحر الأحمر بالاعتماد على إثيوبيا واليمن الجنوبي، وعندئذ قررت أميركا إسقاط إثيوبيا من حساباتها بمنح إرتريا استقلالها بشرط الاطمئنان على مصالحها وأمن إسرائيل، وبهذا أوكلت إلى جامعة الدول العربية مهام التقريب بين فصيلي جبهة التحرير الإرترية بالتأسيس على أن فـصيلي جبهة التحرير الإرترية كانا أقرب إلى العرب والمسلمين، وهنا رأت جامعة الدول العربية انتهاز الفرصة المتاحة لتحقيق استقلال إرتريا الذي يهمها دون النظر إلى أي اعتبار آخر.

إننا لم نتعلم بعدُ أننا مهما اختلفنا لم تكن خلافاتنا حتى حينه على حقائق عقدية وثقافية، وحقوق تأريخية تضطرنا إلى الخلاف الذي يبدأ بالنقد الحاد ثم الاستخـفاف ببعضنا البعض، ثم تخوين بعضنا البعض، وهو أمرٌ قد انتهي بنا من قبلُ إلى مفاصلة أدت بنا إلى حرب قذرت عرفت في التأريخ الإرتري المعاصر بـ: (الحرب أهلية)، تلك الحرب التي كانت هدية منا للوبي اليوتوب ضد حاضرنا ومستقبلنا بقراءة نتائجها المحققة على أرض واقعنا المعاصر.
إننا لم نتعلم بعدُ أننا ليس فينا من هو أحسن وأفضل عن غيره بالابتداء فضلاً من أن يكون ذلك بالأصالة، ورغم ذلك نرى الغالب يتكلمون ضد من يختلفون معهم بلغة التعالي والتعالم والكبرياء الأجوف، محقرين من يختلفون معهم في الرأي أو في الفكرة، ربما لتخلف فهمنا، أو لعدم استيفائها الشروط، فبدلاً من دراسة كافة جوابها بغرض الوصول إلى المطلوب، نجدنا نتصرف وكأن كل طرفٍ منا يملك صك الغفران والبراءة والاصطفاء.

إن هذه الخصائص تمثل عين الجهل المركب بحق الأمة، والجهل بمنزلة كل واحد منا، وكم هو يكتنفه نقص، ولا ولن يكتمل كل منا إلا بالعمل مع الآخرين الذين يشاطرونه الهم الواحد والمصير المشترك.
إننا لم نتعلم بعدُ أننا جميعًا إنما نعملُ بالضرورة من أجل تحقيق مستقبل أفضل لأمتنا في وطنٍ نبسط فيه العدالة بين المكون الوطني الإرتري الذي كان ومازال ينكره لوبي اليوتوب منذ عهد الفيدرالية، ثم في عهد الكفاح المسلح، ثم بعد عهد انتقال إرتريا من ثورة كانت تقاتل جيش الاحتلال الإثيوبي، إلى عهد كون إرتريا دولة مستقلة تـتمتع بحدود سياسية معترف بها إقليميًّا ودوليًّا، وقد غدت عضوًا في مؤسسات المجتمع المدني الدولية والإقليمية المعاصرة، ذلك رغم بؤس إدارة لوبي اليوتوب، وبؤس قيادات قوى المعارضة الوطنية.

القراءة السابعة:

هذه المناقشة كان من باعثها واقع التراشق بين الشركاء ضد ومع الإعلان عن ميثاق العمل والمبادئ المشتركة لجمع شمل مجتمع المنخفضات الإرترية، والإعلان الآخر المنسوب إلى ناشطين سياسيين وحقوقيين في بريطانيا ضد الأول، وكثرة ما وُجد من مؤيدين أو ناقمين عن هؤلاء وأولئك بلغة يعوزها أدب الحوار، وبحسب قراءتي المتواضعة لم يأتي الجميع إلى مناقشة أصل الأدواء ثم البحث عن أشفيتها كما ينبغي، بل ظلا الفريقين يرددان كلامًا شبه منسوخًا من عهد العقود الخمسة الخوالي.

من جهة أخرى، لم يكن ما قاله الناشطون السياسيون والحقوقيون بأفضل عن الذي عابوه على بيان شمل مجتمع أبناء المنخفضات، فقولهم أن ما قام به مؤسسو ميثاق جمع شمل أبناء المنخفضات: "هروب من النضال الحقيقي من أجل مصالح وحقوق أبناء المنخفضات وبقية مكونات الشعب الإريتري .....الخ "، كلام ينقصه التحقيق العلمي من وجوه، أهمها:

1. إننا جميعًا إنما نريد إنقاذ الأمة من براثن لوبي اليوتوب، وهـذا أمرٌ لا شـك فـيه أصالة، ولئن أخطأ أحدنا أو جماعة منَّا بالابتداء، فخطأ الفرد أو الجماعة منا يغمر في أفضاله وحسناته مع تقرير معالجتها بالتي هي أحسن.

2. أما إذا صُنَّف خطأ آحادنا أو جماعاتنا بمثل هذا التعبير - هروب من النضال الحقيقي-، فهذه زلة عظيمة ما لم تُشفع ببيان محققٍّ وموثقٍ ما إن كان ذلك أصالة بقصدٍ وإرادةٍ ووعيٍ تامٍّ دون اضطرار، أو أنه حدثٌ قد وقع بالابتـداء فلا بد من استقراء أسبابه وملابساته بغرض معالجته من أجل تضييق شقة الخلاف بين الإخوة الشركاء.

3. إن إطلاق تهمة الهروب ورطة في غير معترك حقيقي زل فيها جماعة الناشطين السياسيين الحقوقيين، وهذا الصنف من العراك يُوسِّعُ الشقة بين الشركاء، وهو واقع يخدم مصالح الأعادي والخصوم بلا ريب، سواء كان الأعادي والخصوم هم الذين صنعوا واقع هذا العراك ليقع بعضنا على بعض فيصطادوا هم في الماء العكر، أو نحن الذين صنعنا واقعه ونحن لا ندري أبعاده الخطيرة، فمن الحكمة والكياسة أن نفكر مليًّا فيما ينبغي أن يقال وما لا ينبغي أن يقال في العمل السياسي، ذلك لأن مدارك السياسية تقتضي التزام معاني الحكمة والتريث المحكوم ببعد نظر، فقد قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه: "أحب حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضك يومًا، وابغض بغيضك هونًا ما، عسى أن يكون حبيبك يومًا ما" أليس كان بعضنا متباغضين لأسباب مختلفة في الزمن الفائت، وها نحن اليوم نعمل معًا متعاضدين متكاتفين كل منا يذب عن الآخر بقناعة، فما بالنا نقضي على حبال الوصال ونحن لا ولن نستغني عن بعضنا أبدًا.

4. إن القول بالهروب من النضال الحقيقي قد جمع قائلوه بين خَطْبَيْ غلط وخطأ كبيرين، وأن الجمع بين بُعد المعنيين أمرٌ عظيم في الشأن الجمعي، وهو قولٌ تولد عنه سؤال يقول: ترى لدى مَن منا يوجد النضال الحقيقي في واقع اليوم، وما هي معاييره؟

5. إنني مقتنعٌ قناعة عظيمة بأن الذين أصدروا ميثاق العمل لجمع شمل أبناء المنخفضات، كانوا صادقي النيات بدليل أنهم حركوا الماء الراكد الذي كاد أن يصبح آسنًا فلا يستفاد منه، وحسبهم فضلاً أن جعلونا نتحرك لإعادة قراءة واقعنا المزري، كما أن الثلة الثلاثينية الذين أصدروا بيانًا ناقدًا كانوا أيضًا صادقين، وحسبهم أنهم أزكوا العقول والهمم لتتحرك متحسسة واقع الأمة المتهاوي في أعماق سحيقة، فشكرًا لهم جميعًا، فلعل لكونهم صادقين ها نحن تحرَّكنا ليس من ترف فكريٍّ بيِّنِ العوار، بل من أجل الإسهام الهادف، ولو لا ذلك الذي لما وجدنا من يأبه به كما لو كان قوله نباح جرو لا يأبه به العقلاء وأصحاب الغايات الذين لا يلتفتون عادة إلى غائلاتِ ترَّهاتٍ كانت ولم تزل مظنَّة هواننا ومقتلنا لما التبس علينا زيف غلائلها التي زانوها بجميل نعوت التغني بالوطن والوحدة الوطنية.

تلك بعضٌ من إعمال النظر فيما جاء في شأن المنخفضات الذي شغلنا، فإن رأيتم أن كلامي هذا مفيد يستحق النظر، فلا بد من تقييده بمقترحات علينا جمعها من هنا وهناك، وإني لواثق بأنا قادرون-بإذن الله- على ذلك، وبهذا الخصوص، لدي مقترحاتٍ عمليةٍ أحسبها قويةً وواقعيةً متصلة بالمطلوب، وهي في ذات الوقت ممكنة التفعيل على أرض الواقع، لهذا فإني آمل أن أجد مَن يناقشنيها بتجرد، خاصة التنظيمات والإخوة في المجتمع الغربي الذين أحسبهم أحسن حالا منَّا نحن الذين في الشرق الأوسط.

بيد أن الأمر يتطلب التحرر من ضيق التنظيمات والأحزاب المنغلقة على عضويتها، وكذا الجماعات شبه القبلية والإقليمية وما في حكمهما، فكل هؤلاء وهؤلاء يقدمون دومًا مصلحة كياناتهم على مصلحة الأمة بعلم أو بجهل، ذلك لأن القلب لا يتسع لفكرين أو هدفين، بل لا بد من تسخير أحدهما لصالح الآخر عند التزاحم الذي لا فكاك منه.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "من صح فهمه وصلحت نيته بلغ"، أو كما قال، لا بد إذًا من صحة الفهم وصلاح النية سواء في أمر الدين أو الدنيا، والحكمة ضالة المؤمن، فهو أحق بها أنى وجدها بصرف النظر عن مصدرها، ولنا في تجارب الأمم والشعوب ما يكفي لمدارك العزة والعبر في الباب، وإنني ليسعدني لأن أتدارس هذه المعاني والهموم مع من أحسبهم خير مني حيث كانت ديارهم.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click