رابطة أبناء المنخفضات الإرترية فكرة واقعية ومحاولة للعودة إلى المسار الصحيح
بقلم الأستاذ: أبوبكر الجيلاني - كاتب إرتري مهتم بقضايا التعليم الإرترية المصدر: النهضة
إن تجدد الأفكار الجماعية سمة من سمات المجتمعات الحية وفاعليتها الفكرية لذلك وجب علينا الترحيب بهذه الرابطة
حتى تثبت عكس ذلك عسى أن يكون نصرنا من خلالها.
أي إنسان إيجابي قرأ وثيقة الرابطة بعمق دون تأويل ولا تهويل ولا تخمين ولا تخوين ودون ممارسة دور أبوي لا يسعه إلا أن يقول إن الفكرة محاولة واقعية هدفها لم شمل والعمل من أجل الأهداف العليا مع أكبر عدد ممكن من الأفراد والجمعيات والأحزاب والتنظيمات الذين ظل يغرد كل واحد منهم على حدى على موال واحد والذين أعيتهم الأنماط القديمة من النضال وأعيتهم الغربة والهوان... مضمون الفكرة واضح وجلي ولا يحتمل أي نوايا تقسيميه أو طائفية أو أي توجه مشبوه وما ساقه بعض نقاد الفكرة باجتزاء بعض الكلمات من سياقها العام أو بحجة عدم استشارتهم أمر لا معنى له.
الفكرة جديرة بالاهتمام وأما التركيز على مسمّاها أو رفض جزء من عنوانها ليس له أي مبرر. وليس لأحد الحق للتشكيك على أراء الآخرين والخوض في نواياهم ولكل إنسان الحق ليعطي فكرته الاسم الذي يريد كحقه في إعطاء ابنه الاسم الذي يريد أو ليعطي كتابه العنوان الذي يريد وإلا مثلا على المسيحيين حول العالم أن ينتقدوا الحزب المسيحي الديمقراطي بحجة كلمة مسيحي ليس حكرا على الألمان فقط، كذلك يجب أن ينتقد جبهة شرق السودان كل من لا يؤيد فكرها وتوجهها وهو من سكان شرق السودان بحجة إن شرق السودان ليس حكراً على أعضاء جبهة الشرق فقط. ويجب أن نعلن الحرب على كل من نعت حزبه أو منظمته بالإسلامي بحجة إن الاسلام ليس حكرا على أحد الخ... وهذا ينطبق على موضوعنا مدار البحث.
إن الكتابات لتي تناولت الفكرة على الفضاء نقداَ وتبرأ وأحيانا تبرماً وتجريحاً وتوبيخا زرافات ووحداناً أخذت طابع أبوي تارة وطابع فلسفي أو مثالي تارة أخرى دون تبرير الدوافع ورغم ذلك لم تكن مقنعة بالمستوى الذي فعلته فكرة الرابطة على الجمهور المعني وبالذات الشباب الذين يبحثون عن هويتهم المطاردة في كل مكان ولذلك رأينا في الأسابيع الماضية كيف تداعى الشباب الإرتري الواعد لتأسيس مقرات الرابطة كل فيما يليه ويتطلع لتأسيس مقرها في إرتريا أو في أقرب نقطة لإرتريا.
فكرة الرابطة تعبر عن رفض واقعنا المنولوجي ( إن جاز التعبير) الموغل في الاستقلالية إلى حد الانعزالية والمثالية والتقليدية والجمود في ذات الوقت. ومع ذلك لا يجوز لنا التهكم على منتقدي الرابطة أو المتبرئين منها مهما كان دوافعهم - اولا لأن ذلك وجهة نظرهم ومن حقهم الإدلاء برأيهم طالما لم يصلوا حد الاعتداء وثانياً لأننا نعلم إن لكل فكرة جديدة أو متجددة مناوئوها ورافضيها من الوهلة الأولى وبعضهم سيستمر في رفضها حتى وإن كتب لها النجاح وأثبتت جدواها فيما بعد وهذا من طبائع البشر ولذلك نقدها أو التبرؤ منها ليس استثناءا ولا غريباً، كما إن التنديد الوارد في هذه المقالة ليس موجهاً لأي أحد من رافضي الرابطة بل تشخيصاً لحالة جماعية غير منطقية ومستمرة في مجتمعنا ككل.
إن تاريخنا في المنخفضات الإرترية يشهد بأن شعب المنخفضات هو الذي استهل النضال بكل ما يملك ولا يزال من أجل إيجاد وطن يتقاسمه مع شعب المرتفعات في البقعة التي أسماها المستعمر الإيطالي إرتريا وجثم عليها لأكثر من خمسين عاما، إذن كيف سيسمح هذا الشعب بتقسيم أو تذويب وطن دفن من أجله مئات الآلاف من أبنائه في فترة امتدت لأكثر من قرن.
ولكن علينا أن لا نكابر وننام على جروحنا أكثر من هذا ونتبرأ من بعضنا إن جاء نفرُ من شبابنا بفكرة رأوها متطورة أو منسجمة مع واقعنا أو إن قال بكل صراحة قائلهم إن كل محاولات الدمج الفوري السابقة لتأسيس هذا الوطن الغالي (إرتريا) بالطريقة النمطية القديمة كان يعقبه نزيف وواقع أكثر إيلاماً على الطرف الأقل تماسكاً (شعب المنخفضات الإرترية) ومع ذلك محاولات بناء الوطن الكامل والمنسجم مع مكوناته كانت ولا زالت مستمرة من قبل هذا الشعب. والرابطة كما رآها أصحاب المبادرة تمثل طريقة أكثر انسجاما مع واقعنا الثقافي والجغرافي والتاريخي لمواصلة النضال واسترداد هويتنا من الشريك الذي يحاول مصادرتها ونفينا من البلاد إلى الأبد.
الذين يزعمون إن النظام الإرتري نظام دكتاتوري وليس طائفي شيفوني زعمهم داحض لأن الديكتاتور يحافظ على سلطته وجبروته بالقوة المحضة ولا يوزع ارض مواطنيه إلى مواطنين آخرين من بني قومه ولا يجبر مواطنين لترك ديارهم ولغتهم الثقافية لصالح لغة بني قومه ولا يمنع الفئة التي لا ينتمي إليها عن بناء دور عبادتها بحجة درء الفتن بينما يسمح لمن ينتمي إليهم بناء دور العبادة في مناطق لا يسكنونها. الدكتاتور فرد لا يمكنه التدخل في كل هذا إلا إذا لم يجد بطانة واسعة من بني قومه يؤازرونه ويساندونه وينفذون كل ما يؤمرون به مع علمهم بأن هذا يتم على حساب الآخرين من شركاؤهم في الوطن. ولكن لا يجوز لنا التعميم لأن بعض المسيحيين تبرأ من هذه الأفعال المشينة ظاهرياُ على مراحل ونياتهم لا علم لنا بها. هذه الممارسات المشينة اليوم شبه علنية في إرتريا وما خفى أعظم، ثم إذا طالب بعض الشباب الوطنيين التكتل والاستقواء ببعض تنهال عليهم الانتقادات لأنهم لم يستشيروا كل الناس قبل نشر وثيقتهم. هل هذه حجة مقبولة ؟ أم حالة عدم استقرار وجداني موروثة منذ زمن بعيد؟
الذين فكروا في هذه الرابطة شباب مثقف يدرك بأن هناك فئتان سكانيتان في إرتريا متباينتان تبايناً واضحاً في اللغة والثقافة والدين والبيئة والتاريخ والجغرافيا والديموغرافيا ونمط الإنتاج. فئة تجيد الحوار فيما بينها وتتمحور حول فكرتها القومية بالدرجة الأولى ولا تجيد الحوار الوطني السلمي مع غيرها. وفئة كلما حاولت حوارًا داخلياً فيما بينها يتحول الحوار إلى قنابل انشطارية انشطار تلو الانشطار وشراذم تتفكك إلى شراذم أخرى أصغر في حالة تشبه المونولوج الجماعي (كأن كل واحد يرقص لوحده). ربما يحدث هذا لنا لأسباب داخلية صرفة ذات علاقة بالتركيبة الاجتماعية غير الموظفة للصالح العام (قبائل وعشائر) والتاريخ (أقنان ونبلاء) وعلاقات الانتاج (الرعيْ) والبيئة شبه الصحراوية ثم انضمت إلى هذه العوامل في المراحل الأخيرة من الانهيار الأيديولوجيات المستورة على عواهنها) وأخرى خارجية ذات بعد جيو سياسي. لذلك كله لم تتمكن هذه الفئة أي (سكان المنخفضات) من فرض مطالبها على شريك يحاورها على بناء الوطن ندّا بند منذ الحرب العالمية الثانية بل أضحت عرضة للاستضعاف والاستنزاف بعد كل مرحلة وبشكل أبشع بعد خروج أخر مستعمر (إثيوبيا) من إرتريا.
فكرة الرابطة تعبر عن تجاوز الحالة المونولوجية الجماعية التي ظل يعاني منها مجتمع المنخفضات الإرترية منذ تفكك الرابطة الإسلامية في الأربعينات من القرن الماضي مرورا بتجربة جبهة التحرير الإرترية وانشطاراتها إلى عدة فصائل وانتهاءًا بأحزاب ومنظمات المهجر ومحاولات العمل المشترك حتى الوصول إلى مؤتمر أواسا بإثيوبيا.
فكرة هذه الرابطة أكثر ملائمَة للمرحلة الراهنة إذا أريد الاستفادة من طاقات الشباب الذين رفضوا الأنماط القديمة من النضال الارتري وقد تكون أكثر تعبيراً لرغبات ومجاهدات شعب المنخفضات المنهك الذي يعيش حول إرتريا (السودان – اليمن – إثيوبيا - دول الخليج) ويتوق للعودة إلى دياره معززا مكرماَ ولكن بحاجة إلى دعم ومساندة ماسة من الأبناء الذين ابتعدوا كثيراً نحو الغرب والشرق وما هذه الرابطة إلا باكورة هذه المساندات المرتقبة.
نجاح الرابطة يتطلب أن يرتقوا بها أصحاب الفكرة وكل الذين يهمهم أمر مستقبل بلادهم وليكونوا نماذجاً للتضحية ويهبطوا بالفكرة من حيزها الافتراضي إلى الأرض حينها سوف يفرضها الشباب الصاعد بالقوة والقانون وسيتحتم على صقور الفئة المستحكمة بإرتريا الذين أثبتوا عدم رغبتهم بل عدم إجادتهم الحوار الوطني حتى الآن إما أن يتعلموا الحوار الوطني أو يستمروا في رفضهم.
المواجهة سوف تكون متكافئة فقط إذا عملت هذه الرابطة بكفاءة وهذا ما يجب أن يعمل له جميع من ينتمون إلى المنخفضات الإرترية ان أرادوا الانتصار لوطنهم ولقضيتهم العادلة واسترداد هويتهم المستباحة وإيقاف القتل والاعتقال والإذلال على الهوية. أما إذا تركوها في فضائها الافتراضي ستنضم إلى سابقاتها وتعيش في الفضاء وبين السطور وفي أعماق صدور الرجال وفي أدمغة بعض من وقع على وثيقتها وكفى المؤمنين شر القتال.
قال لي استاذ قديم انخرط في النضال في أواخر السبعينات لماذا أعلنوا أصحاب الرابطة هؤلاء عن نواياهم هكذا علناً ولماذا لا يعملون بالسر. قلت له إن القضايا الوطنية لا ينفع فيها العمل السري والفكرة مدار البحث فكرة وطنية في جوهرها وإن بدا للناس بأنها تخص منطقة بعينها. إن الذين يعملون بنوايا دون وطنية هم الذين يعملون تحت الارض والوطنيين يعملون علناً لأنهم يعملون لوطن يضم كل من يعيش فيه.
لو الانتقادات والرفض الذي أنهال على فكرة الرابطة بعد إعلانها كان تأييداَ ومؤازرة وتشجيعاً من أبناء المنخفضات الذين مهروا بتواقيعهم رفضا لها ربما لرأينا تحولا سريعاً ولو طفيفاَ في موقف الصقور الحاكمة في إرتريا لصالح قضايا المسلمين الإرتريين. ولكن بعد أن راو الصقور الانتقادات تنهال على أصحاب الفكرة بهذا العدد الهائل علموا بحكم عقليتهم غير الاستراتيجية بأن القوم (البدو) لا يزالون غير مستقرين وجدانياً وغير ثابتين على ثوابتهم وأغلبهم لا يعلم ماذا يريد حتى الآن.
نذكر قبيل انعقاد مؤتمر التحالف الوطني الديمقراطي الذي عقد في أديس أباب (قبل مؤتمر أواسا) ظهرت بوادر انفراج في قضية التعليم في إرتريا إذ أعلن في اسمرا عن ورش عمل لتدريس اللغة العربية لإعادتها إلى مدارس المنخفضات الابتدائية كلغة تدريس سرعان ما أهملت الفكرة بعد ما تأكد للصقور ضعف القرارات التي خرج بها المؤتمر. حكام أسمرا يعلمون جوهر خلافهم مع المسلمين الإرتريين وهو خلاف مصيري لذلك أي تكتل من قبل أصحاب المنخفضات يقتلونه في مهده باستخدام بعض العقول غير المستقرة في مبدأها من أبناء المنخفضات الإرترية.
على ذكر عدم الاستقرار والثبات ذكر أحد طلائع الاستعمار الإيطالي ويدعى بنيامينو ميللي في القرن التاسع عشر ضمن تقرير له عن قبائل المنخفضات الإرترية المسلمين بالحرف الواحد "هؤلاء يعوزهم الثبات والاستقرار وليس لهم تاريخ... وقال أيضاً لو لا وصول إيطاليا كان مصيرهم تحت أقدام المهدية أو الحبشة" الخ.
هذا الكلام أورده الدكتور جوناثان ميران في كتابه "عن مصوع" المعنون مواطني البحر الأحمر ص 181 ذلك الرجل ربما تحدث من خلفية استعمارية ولذلك لا يهمنا كلامه ولكن كون هذه الحالة غير المستقرة تستمر في بعض أوساطنا بعد كل هذه المعاناة هذه هو المحزن. أما صقور النظام كعادتهم ردوا على فكرة الرابطة بطريقتهم فورا بعد ما تبرأ منها كوكبة من المسلمين بعد إعلانها وربما بعضهم دون أن يقرأ الوثيقة... والله المستعان.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.