التوافق الوطني
بقلم الأستاذ: صالح كرار
هل نقول الحقيقة وما نؤمن به أنه الحق والواقع الذي عشناه أو ما روي لنا عنه من ثقاة عندنا
فيما لم نحضر، أم نداهن ونواري الحقيقة خوفا من أولئك الذين يرمون الناس بالتعصب الطائفي والقبلي والإقليمي ويُسكتوا أو يتهجموا علي كل من يحاول أن يقترب من مساحة المكاشفة والمشافهة والمصارحة بحثا عن نقاط إلتقاء عملية أو إيجاد قاموس مشترك للثوابت الوطنية بيننا، ولتقريب المعنى أكثر سأناقش المسافة بين ثقافتي مجتمعنا المسيحي والمسلم من أفق عام.
قد لا ينفي أحد ولو أدبا ومجاملة أن لنا أيضا بعض التقييمات الإرتجالية الماسحة الكاسحة للوسط المسيحي كما لديهم لاتفرّق بين أخضره ويابسه وهي بالتاكيد صفة في الوسطين تنافي العلمية والموضوعية وهي تنشأ أصلا من التقييم الإرتجالي الذي هو سائد لدى الطرفين وتنافي التثبت الذي يوصينا به القرءان الكريم، والحق المسيحيين أكثر تجنيا منذو البداية وهذه حقيقة لاجدال فيها.
ويمكن تقييم المسيحيين بموضوعية وتجرد وفق المواقف التاريخية التالية:-
المسيحيون ومرحلة تقرير المصير الأولى في الخمسينيات
المسيحيون ومرحلة بداية الثورة
المسيحيون ومرحلة الثورة
المسيحيون ومرحلة الدولة
المسيحيون والنظام المنتظر أو البديل المرتقب
فإذا وقفنا لتقييم المسيحيين في مرحلة تقرير المصير الأولى أو ما عرف بالإنتداب البرطاني نجد أن الرأي العام المسيحي أجمع علي الوحدة مع إثيوبيا باستثناء بعض المثقفين الذين ضمتهم أحزاب الكتلة الإستقلالية، والتعليل الموضوعي لذلك أن الدعاية الإستعمارية والكنسية حذرت وأنذرت من قيام دولة عربية وإسلامية تُمسح وتضمحل فيها الهوية الثقافية والدينية للمجتمع المسيحي ونجد من خلال الرسائل المتبادلة بين السفارتين البرطانية والأمريكية التي نشرت أن إستقلال إرتريا حيل دونه ووضعت كل العراقيل لمنعه وكان المسيحيون الأداة الفاعلة.
وإذا وقفنا لتقييم المسيحيين في مرحلة بداية الثورة نجد أنهم أجمعوا علي محاربتها بناء علي تقييم الإستقلال ودولة الإستقلال السالفة الذكر، وقد إستفادت القوى الدولية والإقليمية الطامعة في تحويل إرتريا إلي قاعدة دائمة لها في التدخل المباشر فأنشأت من قوات الشرطة الإرترية التي تركها الإستعمار البرطاني والمعروفة ب ”فيلد فورس“ قوات خاصة عرفت بالكمندوس وأنشأت منذو 1965 م معسكرات لها في دقي محري وعدي قيّح وغيرهما وتألفت من إرتريين وإثيوبيين ويؤكد بعض عناصر الشرطة الإرترية الذين حضروا تسريح ”الشرطة الإرترية“ أن إختيار عناصر الكمندوس من الشرطة تم علي أساس ديني صريح مع أنهم لا ينفون أنها ضمت أيضا بعض الأفراد المسلمين المعروفين بولائهم من بينهم رمضان محمد نور الذي كان يرأس الجبهة الشعبية قبل أسياس إذا صح الخبر.
وهؤلاء الكمندوس قادوا حملات الإبادة والمجازر والحرائق ضد الشعب الإرتري وبالمختصر تتطابق ممارساتهم مع ممارسات نظام الشعبية الحاكم تماما:-
غياب القانون والمحاكمات القضائية الا في قضايا شكلية وجنائية عادية.
القتل العشوائي والإرهاب المقصود المبيت.
تجميع القرى في مناطق مع معرفة تضرر الشعب في ضرعه وزرعه من ذلك.
الحرب الإقتصادية في قتل ومعاقبة من ملك بقالة في الريف وإحراق المزارع وإبادة المواشي.
دفع الشعب الي اللجوء وترك البلد بكل أساليب المضايقات.
محاربة التعليم ومنعه إلا في مدارس المدن المخصصة وبمناهج لا يقبلها المسلمون.
إفتعال جاسوسية مزعومة لإعتقال وقتل ذوي الرأي والبصيرة وترك المجتمع أعمى بلا واجهة.
وإذاكان الكمندوس أحرقوا القرى لتشريد أهلها وإلجائهم فإن الشعبية أحرقت المدن والقرى بسجن ساكنيها جماعات لن تعود وبالغرمات الباهظة حيث يغرم نظام الشعبية القرى بما لو جمع ما لديها لا يفي بالغرامة.
هذه السياسات وغيرها قد أفادت المستعمر من قبل والنظام الحالي في تشريد وتجهيل الشعب ومخادعته وكانت الإبادة وكل المضايقات وقفا علي المسلمين في البدئ ولكن الممارسات اللاوطنية والقتل والمضايقات إنداحت شيئا فشيئا حتى طالت وشملت المسيحيين أنفسهم في الحالتين فأوجدت الرأي العام الإرتري المكافح بإجماع مسيحي ومسلم، فتدفق المسيحيون الي الثورة في السبعينيات يشابه تدفقهم الأخير هربا من النظام الإرهابي الحاكم.
أما إذا وقفنا لتقييم المسيحيين في مرحلة الثورة فنجد أنهم خدموها بكل ما ملكوا نساء ورجالا وقد ساعد حينها تعليمهم في تبوءهم مواقع عملية وقيادية متقدمة في الثورة، وكان مجيئهم الي الثورة عيدا وطنيا حقيقيا كما انه لا ينكر أحد أن مجيئهم أعطى الثورة دفعة قوية نحو أهدافها في تجميع شمل الإرتريين وتوجيه كل الطاقات للهدف المركزي الذي هو تحرير البلاد.
لكن ولأغراض تهدف الي تهميش نضال الشعب الإرتري وخاصة المسلمين نجد من يقدح أو ينفي تجنيا في تاريخ إنطلاقة الثورة فعند الجبهة الشعبية ميلاد الثورة 1970م وكان الكثير منهم حتى في إحتفالاتهم بعيد الجلاء في مايو الماضي يحمل هذا التاريخ في فلاين دعاية تنفي ضمنا سبتمبر بإعتباره الميلاد وكأن قادتهم لم يكونوا من قبل ذلك في الثورة، وهو فهم وجدناه أيضا عند بعض التنظيمات المسيحية المعارضة وإشكالاته معروفة.
والسؤال هل جاء المسيحيون حين جاؤوا إلى الثورة بكل تجرد كما كان حال باقي المجتمعات الإرترية أم جاؤوا يحملون طمي الأفكار المختلفة ووحولها يعني هواجسهم التي إرتابت في الثورة؟.
ما أعرفه أن الثورة ببرنامجها قبل مجيئهم لم يتوافق مع أي منهم ولذلك برزت أفكار لهم مختلفة تحت سقف الأيديولوجيات التي كانت سائدة فهدمت صوامع وأبراج التنظيمات العملاقة دكا بسيل العرم وهو ما نحذره ونُحذر منه الجميع قابلا.
والوقوف لتقييم المسيحيين في مرحلة الدولة يتطابق تماما بالتشابه مع مرحلة تقرير المصير في الخمسينيات ، نعم ظهرت أثناء إستفتاء الجلاء فيئات قليلة متعصبة لإثيوبيا من المسيحين بالحميّة الدينية أو بعض من عارض الجبهة الشعبية أصلا قد إبتعد عن نظام الشعبية لكن الإجماع المسيحي كان مع الحكومة وربما كان هذا أيضا ينطبق علي باقي المجتمعات الإرترية حيث كان الجميع يؤمل آجلا أم عاجلا قيام نظام وطني يحترم المواطنة ويصون الحقوق للجميع والأهم يحل مشكلة هوية الدولة لا مصادرتها من خلال مجلس يمثل الشعب بإنتخابات نزيهة أو بإختراع عام يُستفتى فيه الشعب وتكون إرتريا دولة لكل شعبها.
لكن سرعان ما بانت الحقيقة وظهر الوجه الحقيقي لنظام الشعبية حربا إستحى منها المستعمر علي الشعب وإرهابا تقاضيه عليه المنظمات الإنسانية فأنتكس ومازال يتآكل حتى غدا مثل الجمل أو الحمار الذي يسرج وهو منهك متهالك لم يبقى إلا أن يقع على قفاه ويستسلم للقدر.
لو أردنا لقنا عن دور المسيحيين في تثبيت دعائم هذا النظام الذي دغدغ الشعور العنصري لديهم وشعور التميز والإستئثار بالسلطة والمال والتعليم والإستخلاف الديمغرافي، ومازال هؤلاء العنصريون المخدوعون هم ركائز الدكتاتورية وأذرع التنفيذ لسياساتها الحاقدة، لكننا نلاحظ أن الإجماع المسيحي قد إنعطف بعيدا عن نظام الأحقاد في الداخل والخارج واكتملت حلقة الطيف الوطني ضد النظام الشوفيني المعزول شعب واحد وقفة خلدتها ورسخت معانيها السامية إتنفاضة الرابع والعشرون من يونيو في جنيف وأديس وغيرهما حكما وطنيا بالإجماع علي رفض نظام الشعبية الدكتاتوري العنصري وإثبات جرائمه ضد الوطن والمواطنين.
لكن أيضا السؤال الخطير الذي يشغل الجميع، نعم إجتمعنا علي معارضة النظام لكن أين نلتقي فيما بعده؟.
الحقيقة التي لا مفر منها والتي يجب أن نقف عليها مليا أننا عشنا شعبين طيلة تاريخنا ومازلنا شعبين وربما في المستقبل ولا أعني هنا أن زيل كل الحواجز الدينية والإجتماعية ولكن يجب أن يكون لنا شعور وطني مشترك يترفع من أجله الناس عن السفاسف ويخرج الجميع عن قواقع المكر والحفر والخداع السياسي وطن يجد كل فيه نفسه ويراعي فيه خصائص غيره.
عشنا شعبين في مرحلة تقرير المصير ولنا مآخذنا فيها علي المسيحيين كثيرة ومشفوعة بشواهد ها.
وعشنا شعبين في مرحلة الثورة مهما كانت حالة الإندماج كان كل يفكر بطريقته ويخطط بوسيلته حتى داخل التنظيم الواحد والقيادة الواحدة والمصيبة علي الدرجتين 0 - 180 درجة خطين متوازيين متعاكسين.
أما الدولة فقد كانت خدعة عظيمة أُجلي منها كل الإرتريين وبقي بها المسيحيون وحاولوا هنا رسم الفارق البعيد بين الشعبين بكل ألوان الدولة ومقاساتها ومازال هذا النشيد يعزف عليه نظام الشعبية ويرقص.
والسؤال: كيف يتصورالمسيحيون البديل الجامع للنظام الدكتاتوري؟
هنا يظهر خلاف واضح وآراء مختلفة وجدل بيزنطي محتدم لا نهاية له فكل يجر الحبل بحيث يقع الفريق الآخر مقهورا مجبورا من وراء خطوطه الثابته ، أقصد تماما أن النطام البديل للنظام الحالي صورته قاتمه وملامحه مزغللة غير واضحة عند الطيف المعارض بشقيه المسلم والمسيحي وهذا يعني بالمختصر المفيد أن كل جهد المعارضة في العقدين الماضيين رقص علي الحبال ونقش في الماء والهواء، والمعارضة بلا ثوابت إستراتيجية وتنسيق للتوافق تصبح عبارة عن تكتيك سياسي يؤلف الأزمات ويخلف المآسي هذا إذا قُدر له الوصول أصلا.
النظام الذي يريده المعارضون المسيحيون خلافا للحالي نسخة معدلة تعديلا شكليا وربما البعض يحلم بتكرار الخديعة التي فتحت الأبواب للتنظيمات الأرترية ثم كانت شرخا للتصفيات والإزالة والتهجير والإقصاء، ليس هذا تجنيا أو إفتراضا لمجهول إنها حقيقة البرامج والتصورات التي تعرضها هذه التنظيمات بكل صراحة وجرأة وربما البعض بكل إستعلاء.
أما البديل الذي تريده القوى الوطنية الأخرى علي إختلاف مناهجها وأيديولوجياتها من خلال قراءة تصوراتها المعلنة فيمكن تلخيصه وفق النقاط التالية:-
يجب أن تكون الدولة ملكا للجميع وليس لفئة بكل مؤسساتها.
هوية الدولة يمكن أن تكون توافقية إذا خاف أحدما أن يزيله الإستفتاء من خلال مجلس شعب منتخب بنزاهة ثم يقر بثابت قانوني دستوري متفق عليه.
حكم العلمانية والديمقراطية في الدولة يحدده المجلس التشريعي المنتخب وليس أيديولوجيات التنظيمات المعارضة وتنازعها السياسي أو توافقها المرحلي، لكنه يجب أن يتضمن حرية الإعتقاد والتدين والعمل للمناهج المخالفة للعلمانية ضمانا قانونيا دستوريا وسياسيا و توافقيا.
إذا كانت الغلبة الديمقراطية للإسلاميين فرؤيتهم للتوافق الوطني مضمنة في برامجهم حيث لا نجد الإلغائية التي يتهمهم بها المغرضون أبدا.
مشاكل اللاجئين وملكية الأرض يجب أن تحل حلا وطنيا مع مراجعة وإزالة السياسة العنصرية والإستخلافية الحالية.
وحدة مناهج التعليم يجب أن تراعي جوانب إرضاء الجميع وليس قهر البعض مع العلم أن توحيد مناهج الدولة أمر قد لا يكون محل خلاف وتنازع، كما يجب ضمان حرية التعليم الخاص بكل أنواعه، وعلي هذا تقاس برامج الدولة السياسية أو الإقتصادية أوالتنموية...
كما ان الدستور المستورد المعروف بدستور 1997م لا يصلح ليكون دستور وطن جامع وقد ألغاه النظام بعد رفضه من قبل الشعب حيث اصطدمت اللجان التي طافت المدن الإرترية لعرضه وتعريف الشعب به بإنكار شعبي وقوبلت بكل صدود وصادف ذلك هوى عند الدكتاتورية لتضمنه فقرة تداول السلطة والإنتخابات فجمدته وألغت العمل به، ولدى كل قومية من شعبنا قوانين عرفية يمكن تطويرها وتضمين المناسب منها في الدستور الوطني المرتقب، وأعني بالضبط أن دستور البلاد الإجماعي يجب أن يراعي خصائص مجتمعنا فيجب أن يكون وحيا من واقعنا وليس قهرا له، والذي يلاحظ يريد البعض أن يستغل المعارضة في غفلة ويجعل منها المغفل النافع فيظهر ضمن مطالبها الأساسية المطالبة بدستور 1997م المجمد بدلا من كلمة دستور مطلقة تحدد بنوده حسب ضرورات الواقع ومعالجة الضرورات القانونية بما يلا مس الرضى والإطمئنان لدى شعبنا بشقيه المسلم والمسيحي وقومياته العريقة بعرفها القانونية وضوابها السلمية.
ولذلك هذه دعوة مني مهما تواضع قدري أن يبحث الجميع عن الوطن سيجد نفسه كاملة متكاملة - ملته، فصيلته، طائفته، إقليمه ومنطقته، حقوقه ومستحقاته...، أعني أن هناك أمراض مزمنة في تنظيماتنا الإرترية كلها، يعرفها الجميع ولا داع لسردها تحتاج من الجميع علاجا جادا كل لذاته وليس تعالما أو تطبيبا لغيره وأسوء صور هذه الأمراض، الهجر والإقصاء والإنطواء و ”بطر الحق وغمط الناس“.
إن المعارضة بشكلها الحالي سواء في أطرها الجامعة أو تنظيماتها المنفردة تنذر بقنبلة موقوته أو بعثرة وتلاشي يتيح للإقصائيين القفز والإستئثار بالسلطة وتكرار دوامة مآسي الإرتريين ودوامها وهوما يفترض علي للجميع المبادرة والعمل المخلص والدئوب في الخلاص والإئتلاف الوطني.
قال الله جل في علاه:{إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} 11/88
والله نسأل التوفيق والسداد
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.