ﺇﺳﺘﻤﺮﺍﺭ ﻗﻴﺎﺩﺍﺕ وعقول ﺍﻟﺴﺘﻴﻨﺎﺕ حتي الآﻥ ﻇـﺎﻫـﺮﺓ ﻏﻴـﺮ ﺑﺸـﺮﻳﺔ

بقلم الدكتور: عبدالله الجبرتي

اشتعلت الثورة الارترية ضد الاحتلال الامبراطوري الاقطاعي، في منتصف ستينيات القرن الماضي، بمجموع من الارتريين اصحاب

كفايات فكرية وعلمية في مجالات العلم والسياسة، تتناسب وذلك الزمان، وقد كانوا من الجيل الثاني للفكر الوطني المقاوم والباحث عن تحقيق حلم الوطن الارتري الجنين. لم يكن في بال المواطن الارتري الذي صاغته ايطاليا وشكلت معظم بنيته السياسية والفكرية والثقافية وأطرت مجتمعاته في بوتقة قومية مستحدثة وفقا للفكر الغربي الحديث ايضا حينها، عدو سوي الظلم والطغيان والفقر والاستغلال.

عاصرت الثورة الارترية كل حركات التحرر في الإقليم وإفريقيا علي وجه الخصوص، ونالت منها كثيرا من الوقود الفكري والعاطفي وشاركته أيضا.كما عانت ارتريا ايضا مثل كثير من دول الاقليم، من محاولات ضمها الي دولة اقدم تحررا واستقلالا او الي دولة اقليمية أم سابقة، مثل محاولات ابقاء السودان تحت مصر، ومشكلة اقليم البوليساريوا بين دولتي الجزائر والمغرب وغيرها من المشكلات الشبيهة اوالمطابقة للحالة الارترية في خمسينيات القرن الفائت.

أهم ما أجج المشاعر الاستقلالية في أرتريا وزادها قوة، هو نظام الانتداب البريطاني الذي اسس للفكر الديموقراطي الغربي الحديث في ارتريا، وفرضه لاسلوب التنظيم السياسي في شكل الاحزاب والمؤسسات المدنية من اجل تحقيق مفاهيم التعبير الجماعي بالاسلوب الغربي، مهملا ومضيعا ومستبدلا الثقافة التنظيمية السياسيةالاجتماعية والدينة العريقة في البلاد. وقد استغلت وتماهت الجماهير الارترية مع ذلك بشكل يتوافق مع الحالة والوضع القائم انذاك، والمتمثل في رغبة الامبراطور تفري مكونن (الذي ادعي انه يمثل قوة الثالوث النصراني) لضم ارتريا الي ممتلكاته الكنسية الاقطاعية. فحقق التنظيم الارتري في أشكاله المنتجة حينها، صوتا قويا معبرا عن رغبته في الاستقلال عن الامبراطورية الاقطاعية. موفرا الاصوات الشعبية والمبررات المنطقية الملائمة لفكرة الاستقلال. ورغم ان المجتمع الارتري لم يكن قد أتم تعارفه في اطار قوميته الارترية المصنوعة حديثا بالفعل الايطالي ولم ينضج بعد، الا ان الاغلبية الاسلامية الساحقة، واستخدام المثقفين حينها للعاطفة الدينية، واجترارهم للصراع الديني، وسوء المعاملة التي لاقاها المسلمون اثناء الصراع النصراني الاسلامي في عموم الحبشة خلال العقود القريبة السابقة لتلك الفترة، أسست لواقع اقوي من رغبة امبراطورية التخلف الاقطاعي، وقطعت دابر فكرة الانضمام الي الاقطاعية من اصلها.

دفع القادة الذين اسسوا للوطنية والقومية الارترية، ارواحهم فداءا لفكرهم الرافض للانضمام الي الامبراطورية الاقطاعية، وسقوا بدمائهم غرسهم لمستقبل القومية الارترية الشاملة، متجاوزين كل الخلافات التي كانت تدب بقوة بين المكونات الاجتماعية والدينية انذاك، مستخدمين العصبيات بافضل مايكون لتكون مصدر نجاح لمشروعهم، والتي حاول الامبراطور الاقطاعي واتباعه تأجيجها مبكرا، لاجهاض فكرة الحلم الارتري المستقل.

و كان تدوير المناصب وتبادل المواقع والتنازل للافضل او من يصر علي موقع بعينه وترجيح كفة العقل وصناعة الثقة هو فنهم للوصول الي الاهداف، اضافة الي ايمانهم العميق بعدالة المطالب التي يصارعون من أجلها. رغم وضوح رؤيتهم للمستقبل، وثقتهم في اساسهم المتين لاستقلال ارتريا، حتي ولو هبت علي ثورتهم السياسية رياح الامبراطور الاقطاعي العاتية، واعوانه من الدول القوية، وامكانية تزويرهم لارادة القومية الارترية البائنة، ورغم مواصلة الاجيال اللاحقة لمسيرتهم الاستقلالية، فقد تمكنت بعض الامراض الاجتماعية من الاستقرار في الجسد الارتري الوليد، لتتوارثها الاجيال الارترية لاحقا.

بطبيعة الحال واستنادا الي الواقع الارتري الاجتماعي في تلك الفترة، والمستمد من الامكانات الفكرية والثقافية المتواضعة، مقارنة بالفكر الغربي المحتل آنذاك. فقد تأسس الفكر السياسي الارتري علي خلفية الثقافة الاجتماعية القبلية والعشائرية السائدة وقتذاك،في مناطق الغالبية الاسلامية لارتريا، والثقافة الاجتماعية ذات الطابع الاقطاعي الكنسي للأقلية النصرانية. اضافة الي الثقافة الدينية العامة، والمتمثلة في التاريخ الطويل للصراع بين الاسلام والنصرانية من اجل السيطرة علي البلاد والعباد. صنع هذا الوضع الاجتماعي والديني في ارتريا، قيادات تائهة بين محاولات القفزة السريعة والخطيرة جدا لتحويل الثقافة الاجتماعية والدينية، الي ثقافة ديمقراطية تعميمية تتجاوز الاساسات التقليدية الراسخة للفوارق الاجتماعية والدينية العميقة في ارتريا. فلم تسلم من هذا الواقع كثيرا، رغم تحقيقها للمصالح العليا واتفاقها عليها. وكانت هذه احدي نقاط الضعف الواضحة للعدوا الامبراطوري الاقطاعي.

بعد تيقن الأقطاع الامبراطوري من عدم امكانية تجاوز هذا السقف القومي الارتري العالي والمتين. سارع لاستخدام نقاط الضعف الطبيعية في القومية الارترية التي تعيش حالة التكوين الاخير. فأسس لإجترار التاريخ الاجتماعي العشائري والطبقي للمجتمعات المسلمة، ليستثمر فيه حتي يحقق اكبر فجوة بين المكونات الحزبية القومية الارترية الحديثة. فكان صراع الرابطة الاسلامية واختلافها بين المرتفعات والمنخفضات والساحل، اضافة الي الاجترار القبلي بين مكونات الرابطة الاسلامية في المنخفضات الارترية وفي اعلي هرمها. ايضا عملت الرغبة الاقطاعية الامبراطورية علي استخدام روح الدين الكنسي لتفريق العنصر النصراني عن جسمه الاسلامي الارتري،وهذا خير دليل علي محاولات الامبراطورية الاقطاعية لتحقيق الاختراق ومنع القومية الارترية من النضوج السليم. كما كان لها عدة محاولات علي المستوي الدولي والاقليمي، مستخدمة كل الوسائل لاقناع الدول القوية باحقيتها الاقطاعية في ارتريا.

حقق قادة جيل القومية الارترية الاوائل اهدافهم الاساسية، بتمتين البناء الحاجز من التمدد الاقطاعي للامبراطور، والذي حمي كل البناء القومي الارتري الوليد انذاك من التغول الامبراطوري حتي ماتت الامبراطورية وخلفها، وتحققت لكل المجتمعات الحبشية في ارتريا واثيوبيا الحرية في التعبير القومي والعيش في اوطان يختارونها بمحض ارادتهم، ليحققوا بذلك حلم الاباء المؤسسين.

ظلت القيادة الاجتماعية والدينية المتحورة حداثيا في شكل التنظيمات المستجدة في ارتريا، والملونة ببعض المثقفين، والتي تبلورت اثناء الصراع السياسي والمسلح للفكاك من محالة ابتلاع الامبراطورية وبعدها النظام الشيوعي الشمولي لارتريا. واستمر الشرخ الذي عمل لاستمراره، كل من الفكر التوسعي للامبراطورية في شكليها الاقطاعي والشمولي الشيوعي، بين مكونات المجتمع الارتري، اجتماعيا ودينيا. ولم تستطع القيادات السابقة واللاحقة استخدام هذا الواقع الثقافي الاجتماعي بطريقة واعية تخدم الجميع وتهيئ لمستقبل يتعايش مع الوان الطيف القومي الارتري باريحية وتمازج هادئ.

توفرت للتنظيمات الارترية وقياداتها اثناء حرب التحرير الارترية اعظم فرصة، لصياغة القومية الارترية العامة المتجانسة اجتماعيا ودينيا، وقد حقق المجتمع الارتري التجانس والتوازن القومي، اثناء معاناته من العدوان التوسعي، الذي وحد وصنع شعوره القومي وبني فكره الوطني الموحد لتحقيق المصير المشترك، حلم الاباء وهو الاستقلال. ورغم تجاوز المجتمع الارتري كله للتاريخ الاجتماعي والديني هذا، الا ان القيادة ظلت متخلفة للغاية في فكرها القومي والوطني. واصبحت عميلة بصورة مباشرة للفكر التوسعي وبصورة غير واعية. واصبحت تعمل علي تعكير صفو الروح القومية الناشئة بين المجتمع، وتفسد الفكرةالوطنية الوليدة. وفي فترة وجيزة وبضغط من الرغبة في التمسك بالقيادة، توسعت حالة انعدام الثقة بين المثقفين، فتشتتوا بين الافكار المستوردة، كل يريد تقوية جانبه وامكانياته لاثبات احقيته في القيادة. واخيرا وبعد عجزهم عن التوصل الي حلول تشبع رغباتهم الفردية، البسوا رغباتهم الفردية ثوب القبيلة والدين، وعندها تشتتوا تماما وخدعوا الجماهير المناضلة بخرافاتهم التي انطلت علي العقول البريئة، فاورثوها البلاء والغثاء، وورثته هي منهم الا قليل.

كانت الخطة (ب) للامبراطورية الاقطاعية التوسعية هي الامتداد للخطة الاولي ولم تكن بديلة بالكامل، الا ان التغيير المفاجئ وانتصار الفكر الشيوعي الشمولي، غير اتجاهها وبعثر خطاها. فبعد ان استثمرت في توسيع الفوارق الاجتماعية والدينية داخل الجسد القومي عامة، وفي عمق المكونات الوطنية الصغيرة، لم يعد للراس التوسعي جسد يستهلك كل هذا الانتاج الهائل. فتحققت الخطة الاولي بسهولة، مستفيدة من نفس القصور العقلي للقيادة التي احرقت كل انجازات الشعب الارتري، وسلمته مذبوحا للعدو.

ان اصرار هذه القيادات المخربة وائدة القومية الارترية علي استمرار ترؤسها للشظايا التنظيمية اللاحقة، هو امر مرضي سرطاني خطير، واخطر منه قبول المجتمع الارتري الحديث لهم، و الذي اذاقته هذه القيادات مرارة الفشل، لخمسين عاما ويزيد، والتماشي مع افكارهم العقيمة، رغم معرفته واحساسه ومعايشته لنتائج افعالهم وخوائهم، في معسكرات اللجوء الفخمة منها والمعسرة، هو الامر الاكثر غرابة. والأدهي والامر من ذلك استمرار المجتمع في ترديد نفس نغماتهم واعذارهم المبيحة لقتل الحلم الوطني، والمديمة لجراحات الامهات الارامل والثكالي، وبالاحري استمرار الفكر والعميل الخائن الظالم علي سدة حكم البلاد لربع قرن.

ان من شب علي شيئ شاب عليه، استخدم هذه الحكمة والمقولة لانها أوكد قول علي ظهر الارض من افضل وافهم شخص مر علي ظهر الارض. لقد شب هؤلاء المرضي علي حك هذا الجرب ولن يستفيقوا او يشفوا منه مهما فعلنا وانتظرنا وسببنا وأسئنا القول. ولا نريد لشبابنا اليوم ان يشبوا علي نفس المرض وبنفس الاسلوب، اجترارا لماض خائب نعيش واقعه الأليم. نريد من الشباب ومن تبقي له عقل من الشياب ان ينتفضوا ويغيروا طريقة التفكير والعمل في هذا المرض، ويبدلونه علاجا بعد ان كان مرضا، وان التنازل عن الافراد الذين يقتلون احلامنا فرض علي كل ذي عقل. فنحن بشر نتطور ونتقدم ونحقق الافضل كلما تقدم بنا العمر في الحياة، في مهنة او عمل. وان هذا الوقع الذي نعيشه بفعل هؤلاء لن يكون فعلا بشريا لو استمر تعاطينا لنفس المرض وعياؤه بنفس الاسلوب. لذلك فان استمراهم قيادة حتي اليوم ظاهرة غير بشرية، واستمرارنا تحت رحمتهم وانتظارنا لشفائهم وخروجهم من القبور لتحقيق احلامنا ظاهرة غير بشرية ايضا (المعارضة ما شايفة شغلها).

إن الانتفاضة علي هؤلاء وتركهم في قبورهم علي وجه الارض قبل قبورهم تحتها هو ما سيبني احلامنا ويؤسس مستقبلنا. فالنبحث عن مستقبلنا بعيدا عن أمراضهم، حتي لا نقعد جثثا مثلهم علي مناصب من رماد امتنا، لننتفض حتي نصنع الف قببيلة وقبيلة الف حزب وحزب، نصنع منهم لقاحات وليس امراضا، لنعود ادراجنا الي عهد ابائنا مؤسسي الوطنية وبناة القومية الارترية الشاملة.

اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت، اللهم انا نعوذ بك من العجز عن القيام بواجباتنا نحو اهلنا وانفسنا والكسل ومن الجبن عن مواجهة انفسنا واهلينا وقادتنا والشيطان والبخل بارواحنا ودمائنا واموالنا لاجل المستضعفين من النساء والولدان الذين يقولون ربنا اخرجنا من هذا البلد الظالم اهله واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا، ونعوذ بك من غلبة دين الامة علي رقابنا، وقهر الرجال الظالمين علينا.

Top
X

Right Click

No Right Click