لماذا أخفق المسلمون في ارتريا ونجح النصارى؟
بقلم الأستاذ: رجب سمهراي
اطلعت على مقالة الأستاذ علي عافة المنشورة بموقع النهضة في شهر أغسطس 2015 والتي تضمنت سرداً تاريخيا عن بعض الأثمان الباهظة التي دفعها مسلمو ارتريا والكلفة القادمة التي ليس باستطاعته تحملها من أجل الحفاظ على ما تبقى من الوحدة الوطنية.
بداية أتقدم بالشكر الجزيل لأستاذنا الفاضل على كتاباته المعبرة عن الحس الوطني المرهف والتي تتميز دائماً بالوضوح في الرؤية والفكر المتزن. وكم هو جميل منك أن خصصت لنا بعضاً من مقالاتك عن الزعماء المناضلين الذين وهبوا حياتهم رخيصة من أجل الوطن أرجو أن تستمر في ذلك.
أما بالنسبة لما جاء في مقالتك عن الأثمان الباهظة التي دفعها مسلمو ارتريا في السابق مقابل الوحدة الوطنية المفقودة والتنازلات المحتملة من أجل الحفاظ على ما تبقى منها والتي ليس بمقدور المكون المسلم تحملها، استسمحك عذراً للمشاركة ببعض النقاط من خلال هذه المداخلة وإن تأخرت طويلاً.
هاجس الوحدة الوطنية وتنازلات لا مبرر لها:
نعم، صحيح لن يستطيع المكون المسلم تحمل المزيد من التنازلات هذه المرة، ليس لأنه يبخل بالتضحية في سبيل الوحدة الوطنية وإنما لأنه ظل يعطي الكثير من التنازلات والتضحيات من أجل الوحدة الوطنية منذ فترة تقرير المصير ومروراً بمرحلة الكفاح المسلح وإلى يومنا هذا دون أي جدوى ولا مقابل حتى خسر كل شيء من حقوقه السياسية والاجتماعية والثقافية.
لا شك من أن فترة الانتداب البريطاني التي مهدت الطريق للاحتلال الاثيوبي، كانت فيها الضغوطات والمؤامرات السياسية كبيرة واكبر بكثير من إمكانيات قيادات المكون الاسلامي كما أشرت في مقالتك، وأن تلك القيادات أبلت بلاء حسناً حسب ما روي لنا من قبل الذين عاصروا تلك الفترة وحسب ما قرأناه في كتب التاريخ. لكن هذه القيادات أيضاً قدمت الكثير من التنازلات للطرف الآخر إما على قاعدة "مكره أخاك لا بطل" أو ظناً منها أن ذلك سيحقق لها الوحدة الوطنية التي لم تتحقق إلى يومنا هذا، مثلاً أن المقايضة التي تمت بين المكون الاسلامي وحزب الأندنت السيئ السيرة في مرحلة تقرير المصير والتي تم الاتفاق بموجبها على تعيين ممثل لهيلي سلاسي في آسمرا مقابل إقرار اللغة العربية والهوية الثقافية، غير عادلة وباطلة من حيث المبدأ، نظراً لأن حقوق اللغة والثقافة تُعد من الثوابت الوطنية غير القابلة للمساومة. فضلاً عن أن أي تسوية أو مقايضة ما بين طرفي أي نزاع لا يمكن أن تؤتي أكلها ما لم تتضمن الانصاف والعدل ولو على الحد الأدنى وهذا ما لم يتوفر في تلك التسوية ولذلك تعتبر هذه التسوية باطلة وما بني على باطل فهو باطل. وعلى الرغم من ذلك فإن النصارى الممثلين في حزب الآندنت آنذاك ظلوا في تعنتهم ورفضهم لهذه التسوية غير العادلة إلا بعد أن تدخل فسيسهم الكاهن هيلي سلاسي بشكل مباشر وأقنعهم بالموافقة لأن المشروع الفيدرالي برمته مجرد مسرحية هزلية وأنه لم يساوي الحبر الذي كُتب به.
إذا سلمنا أن تلك التنازلات حدثت بفعل الضغوطات والمؤامرات السياسية الداخلية منها والخارجية، غير أننا لا نجد أي مبرر لتكرار المشهد نفسه في مرحلة الكفاح المسلح في أواسط السبعينات والتنازلات في ذلك الوقت أيضاً كانت من أجل هاجس الوحدة الوطنية، حين تدفق شبان النصارى بقضهم وقضيضهم من كلا الجنسين ومن كافة المدن الارترية إلى ميدان القتال وكأن لسان حالهم يقول " أيها المسلمون، إنا أجرمنا بحقكم فهل لنا من توبة؟ وأن التوبة الصادقة تجُبّ ما قبلها". وبنفس المفهوم، على أن الوحدة الوطنية تستحق التنازلات مهما كان الثمن، فكان لابد من استيعاب هؤلاء الشبان والاستفادة من خبراتهم الإدارية والعسكرية لأنهم أولا وأخيراً مواطنون ارتريون ولا أحد يحق له أن يمنعهم من المشاركة في الكفاح المسلح من أجل تحرير وطنهم. وحينئذ بدأ التنافس على أشده بين التنظيمين المتناحرين آنذاك (جبهة التحرير الارترية وقوات التحرير الشعبية) أيهما يفوز بأكبر عدد من هؤلاء الشبان، ومن دون أي دراسة ولا تخطيط تم استيعاب تلك الأفواج إلى صفوف الوحدات القتالية وخلال فترة قصيرة تغلغل الكثير منهم في المراكز القيادية الحساسة. ومن بين هؤلاء المنضمين الجدد كان البعض منهم جواسيس وخونة من أفراد الكماندوز العملاء الذين تلطخت أيديهم بدماء المسلمين الارتريين وارتكبوا فظائع خطيرة بحق الوطن والمواطنين أثناء خدمتهم في الجيش الاثيوبي. وفي اعتقادي ما كان ليحدث ذلك بهذه الطريقة لولا أن الثورة الارترية في تلك الفترة كانت تمر بظروف عصيبة، حيث كانت تعاني من تصدع و كان جسمها منخوراً بفعل الفساد الإداري والسياسي والحروب الأهلية كانت مستعرة بين أبناء المسلمين. وعوامل أخرى منها الضعف في القيادة وغياب الرؤية الاستراتيجية وعدم وجود برنامج سياسي يحدد الأهداف والأولويات والثوابت والمتغيرات، فضلاً عن أن معظم القيادات في تلك المرحلة كان مهووساً بالإيديولوجيات الفكرية التي لم يكن من ورائها أي طائل وليس لها أي علاقة بالواقع الارتري.
وما هي إلا أشهر قليلة حتى تبدلت معالم الثورة الارترية التي ألفناها ابتداء من اللغة والهوية الثقافية إلى كافة الأنشطة التدريبية والتوعوية وكذلك شملت المطبوعات حتى انقلبت الأمور رأساً على عقب. وقد أصبح العميل الخائن بالأمس ثورياً تقدميا، بينما الشاب المسلم الذي أمضى زهرة شبابه في النضال وسبق مواطنه النصراني في الميدان بحوالي 14 سنة أصبح رجعياً متخلفاً. وعلى هذا المنوال كان لابد من تغيير القيادات الرجعية المتخلفة والتي تسببت في الحروب الأهلية حسب زعمهم وإحلالها بأخرى تقدمية ومتنورة. كل ذلك حدث بسرعة مذهلة، حتى أصبح المكون المسلم لا يملك من أمر الثورة شيئاً.
لا شك إن اجتذاب الشباب النصراني إلى الصف الوطني وإشراكه في الكفاح المسلح كان هدفاً استراتيجياً للثورة الارترية منذ تأسيسها وإن تأخر كثيرا، ولكن لا بأس أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي. ولا أحد ينكر من أن ذلك قد أحدث أثراً إيجابياً في ترجيح ميزان القوى العسكرية والسياسية لصالح الثورة، بغض النظر عن سلوكيات الغدر والخيانة الذي انتهجته هذه الطائفة بحق الوطن والمواطن وبحق الثورة لاحقاً. لذا كان محقاً حين قال القائد الراحل عثمان صالح سبي: "إن الثورة الارترية لم تكن لتطير إلا بجناحيها"، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو ألم يكن بالإمكان أن تتم عملية الاستيعاب وفق خطط مدروسة ومن خلال إجراء عملية الفرز والتحقق من شخصيات القادمين الجدد ومن ثم توطينهم في المواقع التي تتناسب وخبراتهم؟
يتضح لنا من هذه القرارات والممارسات الساذجة والتي أضرت بمستقبل المسلمين في الثورة لاحقاً، فإن العمل الثوري في جبهة التحرير الارترية لم يكن مؤسساً ومنضبطاً منذ البداية، حيث كانت القرارات تتخذ بشكل عفوي ومن دون دراسة وعلى أساس المحسوبية والقبلية أحيانا كل ذلك أدى بنا إلى هذا الحال الذي نحصد اليوم نتائجه وحتماً سيمتد أثره إلى أجيال قادمة ما لم نتدارك الأمر ونغير من واقعنا الحالي.
وفي غمرة نشوة الانتصارات العسكرية للثورة مقابل الهزائم المذلة والضربات الموجعة التي كان يتلقاها الجيش الاثيوبي بيد الثوار، في ذلك الوقت لا حديث كان يعلو بين الناس سوى التباهي والتفاخر بتلك الانتصارات العسكرية العظيمة للثورة والتي كانت تتوالى تباعاً، وعندئذ برز نجم الجبهة الشعبية التي كانت تبدو للمواطن في ذلك الوقت وكأنها الفارس المنقذ الذي لا يقهر وبالتالي هي التي ستلحق بالجيش الاثيوبي الهزيمة الماحقة ومن ثم سيتحقق النصر والخلاص للوطن بيدها، مما أكسبها إعجاب المواطن المتعطش للحرية والاستقلال إلى درجة الافتتان بها. وفي هذه الأجواء المشحونة بالمشاعر الوطنية، وفي وسط مجتمع متدين بالفطرة لكن تتفشى فيه الأمية والجهل، سرعان ما تهاوت حصونه أمام اجتياح الفساد الفكري والأخلاقي المنظم للجبهة الشعبية فحدث ما لا يحمد عقباه من تجاوزات وانتهاكات أخلاقية وتدنيس أعراض المسلمين لم يسبق لها مثيل في تاريخ الشعب الارتري. فساد فكري واخلاقي ممنهج ومشرع من قبل الجبهة الشعبية ودون أن يجد أي مقاومة تذكر بل هناك من كان يرى من ضعاف النفوس المهزومة بأنه لا ضير في ذلك مادام يحدث ذلك تحت شعار المساواة الوطنية (هقراوي معرنت). إنها هزيمة عقدية وأخلاقية ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهكذا مازلنا نحصد نتائج تلك المواقف المخزية إلى يومنا هذا.
تحمل الشعب الارتري الكثير من المعاناة وخاصة المسلمين خلال فترة الكفاح المسلح التي امتدت على مدى ثلاثين عاماً لا يستطيع أي شعب أن يتحملها، ودفع ثمناً غالياً من دمائه وأبنائه وأمواله، لكن بالمقابل كان يحدوه الأمل ليعيش اليوم الذي يرى فيه وطنه ارتريا مستقلاً شامخاً يتبوأ موقعه بين الشعوب والأمم. كان شعبنا يحلم بوطن يعتز به ويحفظ له أمنه وعرضه وكرامته لينعم ويعيش فيه حراً كريماً وليس ذليلاً مهاناً كما يحدث له اليوم. كان يُنظر إلى الشعب الارتري من قبل الآخرين بإعجاب واحترام كونه بنى ثورته من لا شيء بدمائه وعرقه وخاض حروباً شرسة على مدى ثلاثين عاماً إلى أن هزم أعتى جيوش القرن الأفريقي واستحق أن ينال حريته واستقلاله بجدارة.
ولكن هذا الشعب اليوم بعد أن سرقت ثورته أو حرفت بوصلتها من قبل حفنة خبيثة لادين لها ولا أخلاق تحول حلمه الجميل إلى كابوس من الرعب والخوف والشعور باليأس والإحباط، حيث أصبحت السطلة والثروة الوطنية كلها بيد فئة من أبناء النصارى، وأصبح المواطن المسلم يتيه في الأرض بلا حقوق سياسية ولا حقوق دينية ولا اقتصادية وإذا سمح له بالبقاء في البلاد لا يسمح له أن يشغل الوظائف الحكومية حتى المتدنية منها إلا ما ندر وبشروط والمواصفات التي يحددها قانون الحزب الهقدفي، ولا حتى يسمح له أن يمارس أي نشاط تجاري خاص لأن التجارة هي من صميم نشاط الحزب. والفرصة الوحيدة المتاحة أمام المواطن المسلم هي الخدمة الوطنية الإلزامية التي لا نهاية لها وبلا راتب ولا أي حقوق مادية، مما يعني الموت البطيء للشاب الارتري المسلم وإن أبى ذلك سيصبح عرضة للسجن المؤبد أو عليه أن يختار الهروب والتشرد خارج البلاد ليتلقفه تجار البشر الذين لا دين لهم ولا ضمير، أو ينتظره الموت عطشاً في الصحاري أو غرقاً في البحار. ليس هذا فحسب بل أصبح المواطن الارتري والمسلم خاصة مستهدفاً في عرضه ونفسه حيث تنتزع الفتيات من أهلهن تحت التهديد والإكراه بحجة الخدمة الوطنية، وتختطف الأم في حالة غياب الأب من بيتها كرهينة مقابل ابنها الهارب من الخدمة وتوضع في السجن ولا يفرج عنها إلا بعد أن تدفع غرامة مالية تقدر بحوالي 3 ألاف دولار أو ما يعادلها بعملة أخرى. وهكذا دخل الشعب الارتري بعد الاستقلال مرحلة جديدة من مسلسل المعاناة والانتهاكات الحقوقية مضى عليه حتى الآن ربع قرن أو يزيد ولا يلوح له أي أفق للخروج من هذا النفق المظلم في القريب العاجل. وعلى الرغم من أن شعبنا لم يذق طعم الحرية منذ أن وجد في هذا الكون نظراً لتوالي الاستعمار عليه، لكن هذه المرة كانت أشد مرارة وفتكاً، لأن المظالم والانتهاكات تمارس من سلطة طائفية دكتاتورية بشكل ممنهج ومقنن وتطال كافة الفئات والقطاعات من المواطنين دون استثناء، والأدهى والأمر إن عملية التجنيد الإجباري تطبق على جميع الفئات دون تمييز في الجنس أو العمر، مما تسبب إلى انتهاكات خطيرة في الأنفس والأعراض. وكانت النتيجة أن تضررت كافة مناحي الحياة الاجتماعية
والأخلاقية والاقتصادية في المجتمع الارتري، حيث أصبح التشرد واللجوء السمة الغالبة لدى المواطن لا سيما من فئة الشباب من كلا الجنسين، وغدت المدن والقرى الارترية حزينة بائسة، وتحولت إلى أشباح وكيف لها أن تحيا وتزدهر وقد أفرغت من شبابها وشيوخها.
في عهد الاستعمار الاثيوبي كان لدى الشعب الارتري على الأقل هامشاً من الحرية خصوصاً في القطاع الخاص وبذلك استطاع أن يقيم بعض المؤسسات الاجتماعية والتعلمية منها مثلاً المحاكم الشرعية التي أعاد تأسيسها المفتي الراحل الشيخ إبراهيم مختار رحمه الله إبان فترة الانتداب البريطاني والتي كانت منتشرة في كافة المدن الارترية. وكذلك بعض المدارس والمعاهد الأهلية التي أقامها بعضاً من المحسنين وجعلوا لها أوقافاً يعود ريعها لتمويل تلك المؤسسات وبفضلها استطاع المجتمع الارتري أن يحافظ ولو نسبياً على هويته الثقافية والتعليمة وظلت هذه المؤسسات تؤدي عملها حتى وقت قريب قبل الاستقلال. أما اليوم نحن نعيش في واقع مؤلم حقاً لم يسبق له مثيل، حيث لا دولة قانون، ولا سلطة تشريعية، ولا سلطة قضائية ولا إعلام ولا أحزاب، وشعب انهكته الحروب على مدى أكثر من خمسون عاماً، ووطن في حافة الانهيار ربع مواطنيه مهجرين في دول العالم، ومن تبقى منهم في الداخل يئن تحت وطأة الفقر والجهل. أنظروا إلى الدكتاتور المعتوه وعصابته المجرمة كيف يعبثون ويدمرون مستقبل أبناءنا أن جعلوا المناهج التعليمية في المراحل الابتدائية تُدرس بلغات ولهجات محلية، تخيلوا كم لهجة أو لغة محلية لدينا في ارتريا وعلى قدر عدد هذه اللهجات أو اللغات يتم طباعة المناهج التعليمة وتدريسها مما يعني تدمير مستقبل أجيالنا بشكل متعمد وبالتالي تشتيت وتمزيق الوشائج الثقافية والفكرية في المجتمع وبالتالي مسخ الهوية الإسلامية ومزيد من التشظي والتفرق وإضعاف شخصية الفرد المسلم. وهناك جرائم أخرى تجري على قدم وساق في الخفاء دون أن يشعر بها أحد وهي تحريف المعالم التاريخية الإسلامية وتزوير الآثار الوطنية للبلاد، وهذا غيض من فيض.
ومن أخطر التحديات التي تواجه مجتمعنا اليوم هو نزيف الهجرة المستمر حيث أفرغت البلاد من أهلها لا سيما من فئة الشباب ومن ذوي الكفاءات العلمية والمثقفين، وأن الكثيرين من الذين غادروا الوطن وأتيحت لهم فرصة العمل في دول الجوار ولديهم تصريح إقامات عمل أو ممن يحملون الجنسيات البديلة، فهؤلاء كلما طال بهم أمد الغربة كلما ضعفت صلتهم بالوطن الأم لأسباب مختلفة، وهذا بالنسبة لجيل الآباء أما جيل الأبناء الذين ولدوا في الغربة أغلبهم لا صلة لهم بالوطن وإذا زارها أحدهم إنما يزورها كسائح وليس كموطن آبائه وأجداده وأنه مهما طال غيابه لابد وأن يعود إليها. هذا الواقع المؤسف نحن معشر الآباء نتحمل الجزء الأكبر منه لأننا لم نعمل بما فيه الكفاية لحماية أبناءنا من الانصهار والذوبان في ثقافة الآخرين إما جهلاً منا أو تخاذلاً، والبعض منا ممن يحمل الجنسية البديلة وصل به الأمر لدرجة أنه ينكر أنه ارتري الأصل، وهذا الأمر جداً خطير على وجود المسلمين كمكون أساسي في الوطن وله دوره في صناعة التاريخ لهذا الوطن. ومن جهة أخرى أن المتغيرات السياسية في المنطقة تتسارع وسفينتنا تتقاذفها أمواج التغيير الهائجة ولا أدري إلى أي ميناء سترسو بنا. وحالة ألا حرب والا سلم القائمة حالياً بين النظامين الارتري والاثيوبي لن تدوم إلى الأبد وقد تتغير في أي لحظة. كما أن جارتنا اثيوبيا التي دأبت تعمل في تفتيت المعارضة الارترية وعطلت برامجها إلا وفق شروطها هي، ربما تُعد في الخفاء وتفاجئنا بسناريوهات جديدة تضمن لها مصالحها إذا ما حدث أي تغيير في البلاد وقد يعيد التاريخ نفسه ولكن ربما بأسلوب مختلف هذه المرة لأن كل زمان له أسلوبه وادواته الخاصة به.
وإزاء هذا الواقع المؤلم، هناك ثمة أسئلة تطرح نفسها وفي حاجة إلى الإجابة. لماذا اخفقنا نحن المسلمون ونجح النصارى؟ ما هي الأسباب؟ وما الحلول لذلك؟ وما هو مفهوم الوحدة الوطنية التي قدمنا لها كل تلك التنازلات والتضحيات؟ وما الجدوى للحرية والاستقلال في وطن تنتهك فيه حرمات المواطن بشكل ممهنج؟ وهل العنصر النصراني ينظر إلى الوحدة الوطنية بنفس مفهومنا نحن المسلمون؟ وهل نحن المسلمون متحدون أولاً فيما بيننا قبل أن نستجدي الوحدة الوطنية من شركائنا النصارى؟
ربما أكون مفرطاً في التشاؤم ولكن هذا هو واقعنا ولا بد من تشخيصه بشكل دقيق ومن ثم علينا أن نتعامل معه بشجاعة لا أن ندفن رؤوسنا في الرمال ونتهرب من واقعنا. والحقيقة يجب أن نقر بإخفاقنا في مرحلة تقرير المصير واخفاق أكبر منه في مرحلة الكفاح المسلح وما يزال شبح الإخفاق يطاردنا في المعارضة، لا ادري هل هي أزمة قيادة، أم أزمة شعب؟ لكن المؤكد أن هناك خلل ما في قراءتنا للأحداث الوطنية ومن ثم في اتخاذ قراراتنا بشأنها، لذا نحتاج إلى مراجعات جدية وعميقة في جميع مواقفنا ومفاهيمنا السياسية تجاه قضايانا، وعلينا أن نراجع تاريخنا المعاصر لنتعلم منه الدروس والعبر والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتبين ونحن لدغنا مرات ومرات ومازلنا نلدغ. ومن لا يستلهم الدروس والعبر من تاريخه لا يمكن أن ينهض وينتصر. لنأخذ مثلاً العبرة من الزعيم الراحل الشيخ إبراهيم سلطان ومعه ثلة من القيادات الوطنية أمثال الشهيد الشيخ عبدالقادر كبيري، كيف استطاع هؤلاء الأبطال في مرحلة الانتداب البريطاني، أن يقفوا في وجه الإنجليز وإفشال مخطط تقسيم إرتريا على دول الجوار. ثم بعد ذلك تصديهم لحزب الآندنت وإفشال صفقة ضم ارتريا قسراً إلى اثيوبيا. إن هؤلاء الأبطال استمدوا قوتهم من دينهم وبكل شجاعة رفعوا راية الإسلام وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فوجدوا الاستجابة التلقائية من جمهور المكون الإسلامي وبفضل الله تحقق لهم النصر والتوفيق ولو جزئياً. ثم بعد ذلك استطاعوا تجييش الشارع المسلم وتأطيره ونشر ثقافة الوحدة لدى المسلمين نحو الأهداف المشتركة. ومن هذه المواقف التاريخية الشجاعة استلهم شعبنا الدروس لاحقاً وقام بتفجير ثورة الكفاح المسلح تحت مسمى جبهة التحرير الإرترية بقيادة القائد الشهيد حامد إدريس عواتي والتي كان هدفها الرئيس تحرير الوطن من الاستعمار الاثيوبي ورفع الظلم عن المسلمين من خلال ردع التغول النصراني المتوحش الذي كان قد أوغل في دماء المسلمين آنذاك بتحريض وتسليح من المخابرات الاثيوبية وعملائهم من حزب الآندنت.
اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن المسلمين لا يمكن أن يتحقق لهم العزة والتمكين معتمدين على الأسباب المادية وحدها بخلاف غير المسلمين الذين يعتمدون على الوسائل المادية فقط، والشواهد على ذلك كثيرة، في غزوة حنين مثلاً، حين أعجبوا الصحابة رضوان الله عليهم بكثرتهم وقالوا لن نغلب اليوم من قلة فحدث ما حدث، فنزلت الآية: " لقد نصركم الله في مواطن كثيرة، ويوم حنين إذ اعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين". وأن هذه الأمة لا يمكن أن تصلح وتنهض إلا بما صلح به سلفها، وقديماً قالها أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه : "نحن أمة أعزنا الله بالإسلام فإذا ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله".
وقال تعالى في كتابه الكريم: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وقوله تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت ايدكم ويعفو عن كثير. ولذلك أعتقد أن هناك ثمة خلل في مفاهيمنا الفكرية والثقافية كانت ومازالت مؤثرة وستؤثر مستقبلا في اتخاذ مواقفنا السياسية وتحتاج إلى الإصلاح. فمسألة الوحدة الوطنية مثلاً وكافة حقوق المواطنة المترتبة عليها لا يمكن تحقيقها في الظرف الحالي ونحن المسلمون في ظل الضعف والتشرذم. لأنه بكل بساطة أن شركاءنا النصارى سواء كانوا المحسوبين منهم في النظام الدكتاتوري الطائفي او حتى من النصارى المختلفين معه والذين يزعمون انهم ينتمون إلى المعارضة، ينظرون إلى المسلمين بنظرة الغطرسة والاستعلاء، وأنهم يظنون أن السلطة والثروة الوطنية هي وجدت من أجلهم هم وحدهم فقط وأن الوحدة الوطنية بل وحتى استقلال ارتريا عن اثيوبيا لا قيمة له بالنسبة لهم ما لم يسودوا هم وحدهم، وأن المواطن الارتري لا يمكن أن يكون ارتريا ما لم يتحدث لغتهم وينصهر في ثقافتهم وهذه هي عقيدتهم منذ القدم ولن تتغير ما لم نغير نحن من حالنا ونكون رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه. وإلى ذلك الحين هم ماضون في برامجهم وليسوا في حاجة إلى الوحدة الوطنية التي ربما يرون فيها شيئاً من الانتقاص لسلطتهم وامتيازاتهم.
نحن أولاً وقبل كل شيء في حاجة إلى التغيير في انفسنا وهنا ينبغي أن يبدأ التغيير في منهجية تفكيرنا تجاه قضايانا الوطنية مع وقف ثقافة مسلسل التنازلات التي كانت سبباً رئيساً لإخفاقاتنا، ومن ثم توجيه مجتمعنا بخطاب موحد في مجمله مستمد من بيئتنا وهويتنا الإسلامية ذلك لأن كلما كان مجتمعنا المسلم موحداً ثقافيا وفكريا جدير بأن يحقق التوازن في جميع مناحي الحياتية السياسية والاجتماعية. ومن رحمة الله وعدله علينا أن جاءت تكاليفه على العباد على قدر استطاعتهم حيث لا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وفي الحديث: اتقوا الله ما استطعتم. إذاً، نحن اليوم لسنا مكلفين في هذه المرحلة لإقامة دولة الخلافة في ارتريا بقدر ما تكون مسئوليتنا صياغة وتوجيه مجتمعنا المسلم صياغة إسلامية متوازنة من خلال تنقية وتصحيح مفاهيمه على مستوى الفرد والمجتمع، وتوضيح علاقة الوطن بالدين الإسلامي، ذلك لأن الشاب المؤمن المعتز بدينه وقيمه أحرص ما يكون إلى مصالح أمته ووطنه. وهذه المسئولية تقع بالدرجة الأولى على القيادات السياسية في المعارضة ثم النخب المثقفة وجميع قطاعات المجتمع المدني. والتكن أولياتنا كيف ننتزع حقوقنا ونستعيد كرامة امتنا المهدورة وذلك من خلال بناء التوازن في القوى السياسية والفكرية. أما ما نراه اليوم من قيام كيانات تحت مسميات وشعارات قبلية أو إقليمية أو جهوية كلها ستؤدي بنا إلى مزيد من التشتت والتفرقة وبالتالي إطالة أمد المعاناة على شعبنا المكلوم.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.