وداعا نُقْرة مستودع ذاكرتنا
بقلم الأستاذ: محمد آدم حاجى محمد المصدر: فرجت
بالأمس؛ فى ليلة الخميس الفائت، وبرفقة عائلتى قصدت زيارة مقر الجالية الارترية؛
المطل على شارع قُتَيْبة الكائن فى منطقة النُّقرة بالكويت، فوقفت على بوابة المقر العتيق القى عليه نظرة الوداع الأخيرة؛ وكأن لسان حالى يردد بالهمس أغنية الفنان الكبير الأمين عبد اللطيف؛ وهويودع حى ”اباشاول“ فى اسمرا لما اصدرت البلدية قرارا بهدمه، وانذرت سكانه بخلائه، وكان ذلك قبل خمسين عاما.. والأغنية تُعد من روائع فن الغناء الإرترى، ومازالت خالدة فى افئدة الناس حتى اليوم يرددونها لما تتعرض منازلهم بالهدم الجائر؛ وخاصة هذه الأيام التى تشهد فيها إرتريا عمليات جرف وهدم وإزالة واسعة لمنازل الفقراء؛ وهى تجرى خارج نطاق القانون والنظام..!
أعترف؛ بأنى لست فنانا، ولا أملك موهبة على قدر موهبة فناننا الكبير الذى شدا برائعته يودع حيه؛ حي اباشاول.. ولوكنت املك قدرا من موهبة الشعر لنظمت تفصيدة ملتهبة تعبر عما يجيل بخواطرى من مشاعر متناقضة؛ وانا أطل من خارج سور المبنى العتيق الذى اعرف تفاصيل مكوناته الداخلية، وأحاول ان أنفذ بنظري من شقوق نوافذه الزجاجية الشفافة الى غرفه الستة، والى صالته الواسعة.. وقد راودتنى نفسى برغبة عارمه ان اقتحمه وأجلس فى إحدى زوايا صالته؛ وأحدق بنظرى فى حوائطه وابواب غرفه الستة والتى اعرفها جيدا وكم من الأيام والسنين مارست فيها أعمالا إدارية او تعليمية اوتثقيفية محاضرا حينا ومتلقيا احيان اخرى.. والبيت بمجمله يختزن قدرا مهما من ذاكرتى وذاكرة الأحبة الذين رافقونى رحلة العمر فى المكان الذى تشكلت فيه رؤانا الوطنية وعشنا فيه عمرا مديدا نتحدى بقدر إستطاعتنا فى الغربة مخاطر إفنائنا الوطنى فى وطننا المحتل..! واليوم نصطف على رصيف شارع قُتَيْبة بإنتظام فى فرقة انشاد جماعى نردد خلف فناننا الأمين عبد اللطيف أغنيته الرائعة فى مشهد وداع أخير لمكان ألفناه وتعلقنا به وجدانيا.. واستميح الأستاذ ان يأذن لنا كريما؛ لنستبدل عنوان رائعته الى: ”وداعا نُقْرة مستودع ذاكرتنا“؟؟
مبنى المقر الكائن بالنُّقرة قديم مُتهالك؛ استنفد أغراضه، وأكل عمره الإفتراضى، وبقى وحيدا فى شارع قُتْيبة، بعد ان هُدّت كل العمارات السكنية المجاورة له، وأُقيمت فى أماكنها عمارات شاهقة اصبحت مقرات للشركات الكبيرة . وغدا شارع بن خلدون شارعا تجاريا تدب فيه حركة النشاط التجارى الرائجة ومثله شارع قُتْيبة الذى تصطف على إمتداد جانبيه المكتبات العامرة كمكتبة العجيرى لصاحبها الفلكى الكويتى المعروف صالح العجيرى.. ومكتبة دار العروبه التى تمتلئ رفوفها بنفائس المؤلفات العربية لأشهر الكُتّاب العرب أجمعين.. وهذا التحول الكبير فى المنطقة إستوجب إزالة مبنى المقر الذى أصبح شاذا فى محيطه، ومخالفا لقوانين البناء والهدم؛ فإستصدرت البلدية قرارا من المحكمة بإزالته..! والآن؛ تتأهب البلدوزرات لإزالته تنفيذا لحكم محكمة واجب النفاذ . وبموجب حكم الإزالة اضطرت الجالية الإرترية إخلاءه فى يوم الجمعة الموافق 2015/7/31 فأصبح من بعد تلك الليلة خاليا من رواده تلعب فى ساحاته الواسعة القطط السمان، بعد ان كان على مدى اربعون عاما يعج بالناس، ويحفل بأنشطة تعليمية وثقافية ورياضية هامة!.
المكان الذى جئت استودعه له سحر خاص فى حياتى، وحياة مئات من الإرتريين والإرتريات الذين أقاموا بالكويت فترات مختلفة من حياتهم . وقد عشت فيه ايام جميلة ومثمرة بين أهل اعزاء، ولى فيه ذكريات لاتمحى من الذاكرة بالتقادم، وكانت ذكريات حافلة بالنشاط المفيد فى مراحل عمرى كله! ويا حرام.. فقد انتابنى شعور بالحسرة المؤلمة على مافات من ايام العمر؛ لما وقفت على البوابة استعيد من الذاكرة الأحداث والوقائع، وأتفرس بالخيال وجوه زملاء العمر من الأحبة، وقد افترقوا عن المكان الذى ألفوه، وذهبوا فى غير اتجاه الى أوطان الهجرة البعيدة، يقاسون من جديد آلام الغربة والضياع..!
مقرنا أطلقنا عليه مجازا ”النُّقرة“ وهو مبنى عربى عتيق يملكه المرحوم حمد محمد النفيسى وكان رجلا كريما عاملنا بالأخّوة والرفق . وابقى ايجاره رمزيا طيلة سنوات انتفاعنا به، وأوصى بنا خيرا - رحمة الله عليه - وظل ورثته من بعده كرماء معنا عاملون بالحسنى والمحبة.. لقد استأجره تنظيم قوات التحرير الشعبية فى عام 1973م ليكون استراحة ضيافة لجرحى حرب التحرير الوطنية؛ يقضون فيه فترة النقاهة حتى استكمال علاجهم بمستشفيات الكويت، وعلى نفقة دولة الكويت مشكورة. وبعد تماثلهم للشفاء يعودون الى وطنهم؛ ليستكملوا مشوار نضالهم الوطنى الصبور.
وظل المقر - النُّقرة - يستقبل افواجا من جرحانا الأبطال؛ لغاية نهاية سبعينيات القرن الماضى، وآخر دفعة أقامت فيه كانت دفعة من جرحى معركة تحرير نقفة الصامدة فى عام 1977م.
وصلت هذه الدفعة الأخيرة فى ليلة الجمعة 1976/12/31م وبالصدفة جئت الى الكويت؛ لأول مرة، فى منحة دراسية مع واحد وثلاثين تلميذا من زملائي من ابناء لاجئى 1976، فى نفس الرحلة على متن طائرة الخطوط الجوية الكويتية. واستقبلنا فى المطار المناضلان محمد عمر يحيى ممثل جبهة التحرير الإرترية ومحمد على الأمين ممثل الجبهة الشعبية لتحرير إرترية.
والموقف النبيل؛ ببعديه الوطنى والإنسانى الذى لا أنساه فى حياتى ابدا؛ كان الأسقبال البشوش والدافئ من العم محمد عمر يحيى لجرحى حرب التحرير الوطنية وهم جميعا من منتسبى الجيش الشعبى لتحرير أرتريا؛ وكيف تلقفهم واحدا تلو الآخر يحملهم بين يديه ويضعهم برفق على سيارة الإسعاف التى أقلتهم الى المستشفى.
وكان العم محمد عمر يومئذ شابا قويا انيقا ومهندما! واشهد ان معدنه الوطنى بقى أصيلا لم تنل من نبله ضغائن الصراع الأيدلوجى المرير، فغَلُب عليه طبعه التربوى؛ فتلقف أبناء وطنه الأبطال باللهفة والمحبة.. ومَنْ يدرى ربما كان من بين الذين استقبلهم بالبشاشة ولهفة المحبة مَنْ تتلمذ على يديه!؟ لقد كنت اسمع فى صبايا عن سيرته النضالية فى مجالس جدى الحاج عثمان اللولا وهو رفيق دربه فى العمل الوطنى منذ بواكير نشأة الحركة الوطنية الإرترية وقد تزاملا فى رحلة المتاعب فى اقبية السجون السياسية التى قبعا فيها معا.. وفى أول لقائى به عن قرب وجدته كما سمعت عنه من سماحة وعلى مستوى رفيع من دثامة خلق فى التعامل مع ابناء وطنه.. وانا احيى المناضلين الكريمين واتمني لهما الصحة والعافية وطول العمر؟.
واما الموقف الآخر الذى يمثل مفارقة حزينة فى حياتى، وفى تأريخ الشعب الإرترى؛ هو ان هذا اليوم كان يوم عاشوراء تأريخ مقتل سيد شباب اهل الجنة: الحسين بن على - رضى الله عنه. وفى هذا اليوم الدامى كانت جنازير الدبابات الإثيوبية تلاحق الأبرياء من المرضعات فى سبخة ”حرقيقو“ الملحية بشاطئ ”سلينا“ وتسحق جماجم الأطفال الهاربين من جحيم القتل الشنيع.
وكانت مدفعية الجيش الإثيوبى تدك احياء المدينة الآمنة، ومشاته يشعلون الحرائق فى كل مكان من ”حرقيقو“. وفى تلك اللحظة الأليمة كان عمى المحبوب سليمان محمد سليمان - اللولا - صائما يعتكف فى المسجد متُلطفاً يستَجيرُ بالله مع اخوته واحبته من شهداء مذبحة ”حرقيقو“ الدامية والتى تُعرف بمذبحة الجمعة السوداء . وهناك، فى ذلك اليوم الدامى لقي عمى ربه صائما - رحمة الله عليه وصحبه الشهداء - وكان عمى من احب الناس الىَّ على الإطلاق.
وابقى عنى اهلى خبر استشهدائه سرا سنة كاملة حتى لايوثر عليَّ وانا بعيدا عنهم وفى أول غربة من حياتى..!
كما اسلفنا، اقام عدد من جرحانا الأبطال فترة نقاهة بالنُّقرة، ثم عادوا الى خنادق القتال مرة ثانية، ومنهم مَنْ استشهد فى معارك الشرف الوطنى الدامية. و ”نُقرة“ - حقيقة - لم يكن دار راحة للنقاهة؛ وانما كانت مركزا لإعادة التأهيل الذاتى لجرحانا؛ اذ اتخذوه مركزا لبناء الذات.
واستميح ابطالنا أن اذكر من بينهم نموذجا ساطعا يحتذى به عكف مُجدا لتأهيل نفسه؛ وحقق نجاحا وتألقا فى حياته بعد اصابته بإعاقته البدنية الدائمة؛ وهو الأديب الكبير الأستاذ ادريس سعيد ابعرى - فك الله قيد اسره مع رفاقه من سجناء الرأى والضمير - فقد كانت انطلاقته الادبية المتميزة من هنا؛ من ”نُقرة“ مركز الإسناد الوطنى المتقدم للقضية الوطنية وللنضال الوطنى العنيد.. لقد ظل يرابط فى هذا الخندق البعيد من ارتريا جغرافيا؛ جمع خيرٌ من الإرتريين والإرتريات وقد نذروا انفسهم؛ ليفتدوا شعبهم بكل ما يملكون، وعزموا ان يرفدوا ثورتهم بمدد متميز لاينفد، وباسناد عملى فريد يقل نظيره فى مناطق المهجر يستهدف تعزيز عوامل الصمود برفع كفاءة المساهمة الشعبية المساندة للكفاح المسلح فى بلادنا.. ومن ”خلية“ الرباط الوطنى الفريدة بالنُّقرة مَنْ أخذته الغيرة الوطنية فى أوقات شدة النضال الخطيرة؛ فحملوا ارواحهم على اكُفهم، وهرولوا خفافا الى جبهات القتال تاركين وراءهم أحلامهم الذاتية، وكل متع الحياة الرغيدة فى الكويت؛ وفرص تحقيقها بين ايديهم!
واذكر من بين هؤلاء الذين لبوا النداء واستشهدوا وهما:-
1. الشهيدة هتى يوسيف - التحقت بالكفاح المسلح فى 1981م.
2. الشهيدة سارة تسفاميكائيل - التحقت بالكفاح المسلح فى عام 1982م.
وأذكر ايضا الشهداء الذين عولجوا بالكويت ثم عادوا الى الميدان واستشهدوا وهم:-
1. الشهيد تسفاماريام.
2. الشهيد القائد حمد محمد عمر دالى - جاء الى الكويت لأجراء عملية جراحية لأستجراج الرصاص من جسده وهو فى قائمة الانتظار الطبية بدأت معارك الحملة العسكرية السادسة وكانت من أخطر المعارك فى تأريخ الصراع الإرترى - الإثيوبي. وترك الشهيد موعد العملية الجراحية رغم تحذيرالأطباء له بخطورتها ولكنه لبى نداء الوطن وقاد معارك المصير الوطنى ودخل اسمرا على رأس كتائب جيشنا الشعبى الظافر واستشهد!!.
3. الشهيد رشايدة - رشايدة لقبه لأنى لم اتمكن من معرفة اسمه.
4. الشهيد منصور.
5. الشهيد ناصر.
وانوه بان الشهداء المذكورون هم من استطعت معرفة اسمائهم الأول وقد يوجد غيرهم من الشهداء استشفوا بالكويت واقاموا بالنُّقرة فاعتذر لعدم ذكرهم ان وجدوا.. وانوه ايضا ان اسماء الشهداء الواردة مرتبة حسب ترتيب ابجدية الحروف العربية وليس حسب اى إعيبار اخر كتأريخ الإستشهاد أو المواقع القيادية مثلا..!
الفريق الوطنى بالنُّقر إلتحم بالنضال، وارتبط بالعمل والوجدان بهموم شعبه؛ فتشكلت ذاكرته الجماعية فى معمعة العمل الوطنى المتواصل… وماذا يمكن ان تحمل ذاكرة هؤلاء غير مشاعر الآلام والأحزان وتمتلئ بروح التحدى والمثابرة فى المقاومة الشعبية… وبتواضع سوف احفر فى طبقات ذاكرتنا باستعادة ابرز مساهماتنا فى النضال قبل ان تتهاوى النُّقرة تحت معاول الهدم وتغدو ركاما مهشما تذروه!! .