صراع الأمهرا والتقراي الأزلي
بقلم الأستاذ: أحمد فايد - كاتب وناشط سياسي ارتري
قبل الخوض في تفاصيل موضوع حديثنا اليوم أودّ الإشارة إلى أن الحبشة التاريخية
ليست إلا إقليم تقراي وإقليم بقيمدر وقليل من شمالي إقليم قوجام وغربي إقليم وللو، الأمر الذي يبرر طبيعة الصراع القائم على أنه صراع إثيوبي متجذر يتجدد عبر العصور. وهذا ما يجعل منه صراع تقراوي أمهراوي خالص.
التدافع بين التقراي والأمهرا ظل أصل الصراع على السلطة في إثيوبيا. وهذين العنصرين هما من حكم الحبشة بعد عودة الحكم السليماني (كما يحلو لهم تسميته). وصاحب هذا التدافع إبادات جماعية وإذلال منهجي للمهزوم منهما. وتظهر معالم هذا الوضع عبر القرون الثلاثة الأخيرة التي سنمر في حديثنا اليوم على بعض تفاصيلها سريعا حتى تتاح لنا امكانية ربط ما يجري أمامنا بسابق مجريات الأحداث ومقارنته بالتفاصيل التي نعاني منها اليوم ومن ثم نتق شرّ تكرار ما سبق من تبعات.
ستتاح لنا فرصة مقارنة الماضي بالحاضر حين نمر على تلك التفاعلات ببعض التفصيل من خلال النظر إلى خمس منعطفات كبرى وهي:-
١. عصر الأمراء المعروف بـ"زمني مسافنت".
٢. توحيد إثيوبيا على يد الملك تيدروس.
٣. يوهانس ومرحلة جديدة من تفكيك إثيوبيا.
٤. منليك وبناء إثيوبيا الحديثة من بقايا المستعمرات.
٥. الوياني وتجديد عصر الأمراء.
ذكر كريس روسنفيلد في دراسة أعدها لصالح جامعة ميتشغان في العام 1979 ضمن ملف حول شمال وشرق إفريقيا بأن القائد التقراوي ميكائيل سحول تمكن خلال ستة أشهر من قتل ملكين للحبشة في قوندر، (مركز الحكم آنذاك) وهذا ما أدى إلى بعثرة إثيوبيا وانتهاء الحكم المركزي فيها، ومن ثم الإنزلاق إلى الانقسام والتشرذم وصولا الى ما سمي بعصر الممالك أو عصر الأمراء ዘመነመሳፍንት، وهو عصر شهد انقساما حادا وانفلاتا أمنيا وإداريا غير مسبوق في إثيوبيا القديمة التي كانت تتألف من أربع أو خمس ولايات هي تقراي، بيقيميدر، قوجام، وشوا التي كانت إمارة إيفات الإسلامية وسلبت بقوة السلاح، وولو التي بدأت تدخل ضمن الإمبراطورية الحبشية بعد هزيمة جيش الإمام أحمد بن إبراهيم الغازي المعروف لدى أوساط الحكم الإثيوبية بــ ኣሕመድ ግራኝ (ماح - ص 517-519).
١. عصر الأمراء ዘመነመሳፍንት:
بما أن طرفي الصراع الدائم في الحبشة (التقراي والأمهرا) لم يعيشا يوما في وئام واحترام متبادل عدا تلك الفترات التي أذل فيها أحد الطرفين الآخر، فإنه من الطبيعي أن نجد أن المحرك الأساسي لضفة السياسة الإثيوبية على مدار التاريخ لا يعدوا كونه هذا الصراع أو التنافس الدائم. وعليه فإننا لن نكون مخطئين إذا ما حملنا كل مشاكل انزلاق إثيوبيا إلى فوضى الحكم واندحار الدولة المركزية عبر التاريخ، قد أتى نتيجة لهذا الصراع المتجدد.
عصر الأمراء هذا بدأ بانهيار الدولة الحبشية ذات الحكم الأمهراوي على يد "ابن تمبين" ميكائيل سحول التقراوي في العام 1769 حين قتل الملك السليماني "إيوآس" شنقاً مما أدى إلى وجود العديد من الممالك الصغيرة التي ظلت تتنازع الحدود فيما بينها ولا تعترف كل منها بالأخرى ومن ثم صراع دائم وخريطة متحركة، وعلاقات خارجية متشعبة تم الاستعانة بها في الصراع الداخلي. (مكوريا - ص 81-88).
وعليه فإن هذا الحال لم يكن صراعا داخليا صرفا حيث تم فيه الاستعانة بالخارج على أوسع نطاق، تمكن من خلاله أمراء وللو من النفاذ إلى قوندر التي لم تكن قد أفاقت من ضربات ميكائيل سحول القاتلة. كما أن باقي الأمراء قد دأبوا على توسيع ممالكهم على حساب الشعوب المجاورة المستضعفة وقاموا بفرض الإتاوات عليها مدعين شرعية الدعم الممنوح لهم من الحاكم المركزي. (مكوريا - ص 81-88).
وبالرغم من عدم إعلان أي من هذه الممالك السيادة على الإمبراطورية الإثيوبية إلا أن أي منها لم تنتظر أي شيئ من ذاك المركز عديم الفاعلية ومن ثم كانت تدير علاقاتها الخارجية بما في ذلك استيراد البضائع المدنية والواردات الحربية وإقامة علاقات تعاون مع الأطراف الخارجية حتى ظهور الملك تيدروس الثاني. (مكوريا - ص 81-88).
٢. توحيد إثيوبيا على يد الملك تيدروس الثاني:
استمر فوضى الحكم حتى العام 1855 حين تمكن "الملك تيدروس الثاني" من قتل "الرأس علي" حاكم قوندر حينها. تيدروس الذي كان مجرما وقاطع طرق محترف استفاد من خبرته في التخفي والتظاهر بأنه الخادم المطيع لحاكم قوندر، في الوقت الذي كان يخطط فيه في الخفاء للانقضاض على حكمه، كما استفاد أيضاً من المساعي التي كان يقوم بها حاكم تقراي "الرأس ووبي" لاستمالة حاكم قوجام "الدجيات قوشو" حتى يتمكن من حصار قوندر من الشمال والجنوب، فأضحى هذا الحال مثاليا لتيدروس الذي استطاع تجميع قواه وانقض على حكم الرأس على وخرج منه منتصراً. (مكوريا - ص 97-102)
توجه تيدروس الذي يعتبر الرمز الأمهراوي الأعظم، نحو الشمال صوب المواجهة التاريخية والحاسمة حيث سحق جيش أمير الحرب التقراوي الرأس ووبي وقتله مما أدى إلى تفرق جيش ووبي بعد سماع نبأ مقتل قائدهم، وهو ذاك الجيش المؤلف من المقاتلين التقراي الأشداء. حدث هذا الإنتصار بعد معارك طاحنة كادت أن تودي بجيش تيدروس لو لم تقم عناصره من التسلل إلى حيث كان يستريح القائد التقراوي الرأس ووبي وتمكنهم من قتله، الأمر الذي أدى إلى نصر مؤزر لجيش تيدروس على حساب جيش ووبي القوي، أسمع صداه إلى جميع الممالك مما سهل مهمة تيدروس في سحقها الواحدة تلو الأخرى. (ماح - ص 516 - 524)
المحطة التالية لجيش تيدروس كانت قوجام التي دخلها بعد قتال ضاري ثم توجه إلى وللو التي استبسلت قبل أن تستسلم وتتعرض لعمليات تنصير قسري وابادات جماعية للرافضين لنهج تيدروس الذي كان يحلم كغيره من الأباطرة الإثيوبيين بتأسيس امبراطورية مسيحية لا تتحمل وجود المسلمين فيها (ماح - ص 516 - 524) مما اضطر سكان وللو للاحتماء بأعالي الجبال التي يمكنهم الدفاع عنها إذ أنها لا تسمح بصعود الجيوش الجرارة ومن ثم يمكن مجابهة الأعداد القليلة التي تحاول الصعود.
تيدروس الذي أكمل أجندته في وللو انطلق إلى الإمارة الحديثة نسبيا "شوا" والتي كان قد تم استلابها من سكانها من المسلمين القالا. لم يواجه تيدروس مقاومة تذكر من سهلي سلاسي الذي استسلم على الفور وتضعضع أمام تيدروس في رمزية للقبول به ملكاً عليه بعد وصول أصداء مواجهاته المظفرة.
بعد اكتمال توحيد الحبشة المتعارف عليها، تيدروس الذي منح نفسه لقب "المؤيد بالنصر"، أبدى رغبته في التوسع تحت ما أسماه بتحرير باقي أراضي إثيوبيا المسيحية من المسلمين ومن ثم سعى لنيل رضا ملكة بريطانيا التي حاول استمالتها لدعمه في حرب المسلمين الذين يتلقون الدعم الكامل من الدولة العثمانية التي سماها بـ"الأتراك" في خطاباته لملكة بريطانيا. أهملت خطاباته ولم تهتم بالرد عليه مما جعله يتصرف بعنجهية ويعتقل سفيرها مع العشرات من المبشرين البريطانيين.
تصرف الملك تيدروس هذا أغضب ملكة بريطانيا التي أرسلت جيشا جرارا من خيرة عسكرييها لدحر تيدروس وتحرير رهائنها. إلا أن الجيش لم يتمكن من الوصول إلى معقل تيدروس في "إمبا ماريام"، ولكن الحل أتى إليهم من حيث لا يتوقعون حيث عرض عليهم كاسا مراتش (يوهانس الرابع لاحقاً)، الحاكم في إقليم تقراي تحت إمرة الملك تيدروس، عرض عليهم تسهيل مهمة وصولهم إلى رأس تيدروس في مقابل الاعتراف به ملكاً على إثيوبيا ومنحه أسلحة تساعده على السيطرة على إثيوبيا وتدعمه في دفع الكيانات الإسلامية التي تتهدد بلاده.
٣. يوهانس ومرحلة جديدة من تفكيك إثيوبيا:
بالرغم من اتفاقه مع أباطرة إثيوبيا في دحر المسلمين في الحبشة إلا أن يوهانس الرابع (ابن تمبين) كان يختلف عنهم بتوجهه نحو الشمال حيث لا يجد مقاومة كبرى يمكنها أن تتهدد حكمه ومن ثم أصبح تركيزه على محاربة المسلمين أينما وجدوا ثم الإنصراف شمالا حيث أنه لم يتحرك صوب شوا وقوجام إلا في بداية حكمه مما جعل تلك المناطق مللكاً خالصا لمنيليك الثاني الذي اعترف بيوهانس ملكا دون القبول بتوغل الأخير إلى قوجام وشوا ثم وللو وهو ما يؤكد على عدم اكتراث يوهانس بوحدة إثيوبيا بقدر اهتمامه بمشروعه الخاص.
اتفق يوهانس ومنيليك على القليل من الجوامع التي كان أهمها تنصير مسلمي وللو التي نال يوهانس شرف أبوة تنصبر ملكها فأصبح الرأس ميكائيل وتم تزويجه بابنة منيليك إيذانا بإعلان تبعية وللو لمنيليك أيضاً. (نيونيو ص 90-93)
بقي أن نذكر بأن وللو المسلمة التي حكمها ابن يوهانس وزوج ابنة منيليك الأخرى الرأس أرأيا سيلاسي، عانت الأمرين في عهده من اضطهاد دائم وتنصير ممنهج وهو ذات نهج تيدروس الثاني.
عادت وللو إلى منيليك بعد مقتل الرأس أرأيا سيلاسي، وفي المقابل كان يوهانس يحتجز أرملة إبنه أرأيا سيلاسي وهي إبنة منيليك الثاني، رهينة للضغط على والدها وضمان ولائه.
يوهانس في هذه الأثناء كان منصرفاً في السعي لتوسيع ملكه وتطوير جيشه وضمان أن يكون هذا الجيش من التقراي في رؤية كان قد سبق بها عصره والتي كانت تتضمن احتلال إرتريا وشرق السودان حيث عاث جيشه تقتيلا في الشعوب قاطنة تلك المناطق سعيا منه لتأسيس دولته بعيداً عن المنافسة الشرسة في السلطة من الأمهرا الأكثر عدداً والأسرع حشداً، آملا بذلك أن يؤسس لدولة تقراي الكبرى المسيحية الأورثودوكسية الخالية من المسلمين وأي فرق مسيحية أخرى.
يوهانس إذن لم يكن ملكاً إثيوبيا بقدر ما كان ملكاً تقراويا يحلم بتقراي الكبرى على أنقاض إثيوبيا التاريخية مما يجعله امتدادا لميكائيل سحول الذي تمكن من تدمير امبراطورية إثيوبيا المركزية وأسس لعصر الأمراء المتناحرين كما أسلفنا.
أسدل الستار على عصر يوهانس الرابع، الذي لم يسترح يوما عن القتال، حين انصرف باتجاه غربي قوندر لمواجهة الدراويش في الوقت الذي كان قائده العسكري ألولا إنقدا يجول كل ربوع إرتريا الحالية ويعيث فيها تقتيلا وتنكيلاً. الأمر المثير هنا أن يوهانس احتجز مسلمي مرتفعات إرتريا الذين رفضوا أوامره بالتنصر الفوري ومنحهم فرصة نهائية متمثلة في فترة قتاله مع الدراويش والتي ما أن تنتهي ويعود سيقوم بإبادتهم جميعاً. لكن الأقدار كانت أقرب إلى خنجر أحد جنود عبد الله التعايشي الذي أنهى حياة يوهانس الرابع وضمن بقاء من كان قد عقد العزم على إبادتهم.
٤. منليك وبناء إثيوبيا الحديثة:
وفي استمرار لتبادل المراكز بين الأمهرا والتقراي، انتهى حكم التقراي وبدأ عصر ذلهم بعد أن عادت السلطة مرة أخرى إلى الأمهرا وعادت معها مهمة توحيد إثيوبيا وتوسعها ولكن هذه المرة بشكل أكثر اختلافاً حيث وصلت حملاته المدعومة من الدول الاستعمارية الأوروبية إلى تخوم الصومال وإبادة الإمارات الإسلامية الكبرى بما فيها هرر برمزيتها الكبرى. (ماح - ص 530-535)
وبالرغم من سعي منيليك لتوسيع حكمه إلا أنه لم يغف عن محاولات ابن يوهانس الرأس منقشا الذي حاول استمالة كل القوى الأوروبية لمساعدته في استعادة حكم والده كما حاول استمالة ألد أعداء والده من السودانيين والمصريين وفشل في كل تلك المحاولات مما اضطره الى التذلل أمام منيليك والخضوع لحكمه.
هذا الهدوء النسبي في محور المواجهة الرئيسي مكن منيليك التوسع الى كل ما وصلت اليه جيوشه وقام برسم حدود إثيوبيا الحديثة وعقد الاتفاقيات الحدودية مع القوى الاستعمارية.
تحرك منيليك بعد ذلك نحو تثبيت اركان حكمه مستفيدا من أصداء ونشوة انتصاره على الإيطاليين مما مكنه من الاستفادة من منافسي إيطاليا باستيراد العديد من أسس الحداثة في ذلك العصر.
٥. الوياني وتجديد عصر الأمراء:
التاريخ في إثيوبيا يعيد نفسه بأسلوب القص واللصق دون أدنى تعديل في مجريات الأمور. وما يحدث في إثيوبيا اليوم لا يختلف بأي شكل من الأشكال عما جرى في سابق العصور. فالقواسم المشتركة بينهم هي الصراع على من يقود الكنيسة الأورثودوكسية ومن يكون أكثر عداءً للمسلمين ومن يكون أسرع سبقاً في الاستعانة بالأجانب ضد منافسيهم في أزمات بلادهم. سلاح الأمهرا في ذلك الصراع توحيد إثيوبيا وسلاح التقراي تفكيكها، وما يحدث بين الوياني والحكومة الفدرالية اليوم، وما حدث بعد سقوط منقستو يوضح ذلك دون مواربة.
الوياني الأولى التي انطلقت في العام 1935 من خلال ثورة فلاحي تقراي (تقرير للـBBC) كانت لها ذات المطالب المشار إليها أعلاه وانتهت دون أن تصل إلى مبتغاها ولكنها وضعت اللبنة الأساسية للوياني الثانية التي انبثقت من الطلاب الجامعيين وتسلم قائدها من قائد الوياني الأولى منظارا ميدانيا في رمزية لتتابع الأجيال ووحدة الرسالة (EthiopianSemay) واليوم أيضاً تقوم الوياني الثالثة باستلام الراية من الوياني الثانية ميدانيا مضرجة بالدماء حيث يتم تسليم زمام الأمور في أرض المعركة من كهول القيادات العسكرية العتيقة إلى شباب القيادات الميدانية الجديدة، وظل الهدف دائما موحداً.
هذه الوقائع تؤكد على أن الوياني 1 و2 و3 جميعها تحمل ذات مهمة الاجداد ميكائيل سحول ويوهانس وألولا القاضية بتدمير إثيوبيا القديمة التي يستأسد فيها الأمهرا ولم يتيحوا للتقراي فرصة السطو على قرار عموم شعب إثيوبيا، ومن ثم ظل سعي التقراي إلى تأسيس دولة تقراي الكبرى التي تتمدد شمالا أكثر من تمددها جنوبا حيث يجدون مقاومة أمهراوية شرسة تتهدد وجودهم.
الختام:
كان سعي التقراي في كل حروبهم داخل إثيوبيا بهدف تفكيك إثيوبيا وإلهائها بعيداً عن مشروعهم القاضي بتأسيس دولة تقراي الكبرى. حيث فكك ميكائيل سحول إثيوبيا وأغرقها في عصر الممالك المتناحرة، وانصرف عنها يوهانس نحو تمكين التقراي من إرتريا وشرق السودان وتركها تتقاتل فيما بينها، بينما وضعها حكم الوياني في صراع إثني وحدودي داخلي لن ينتهي في القريب العاجل.
وفي المقابل عمد الأمهرا عبر التاريخ على إذلال التقراي وإفقارهم باستمرار حتى لا تقوم لهم قائمة، هذا في الوقت الذي يتفق فيه الطرفين في مهمة اضطهاد مسلمي إثيوبيا ووضعهم تحت ضغط دائم وامتهان مستمر.
المصادر:
• اتطي منليك - باولوس نيونيو.
• أتطي تيدروس - تكلي تطاديق مكوريا.
• وثائق عن الصومال الحبشة إرتريا - أحمد برخت ماح.
• ثمان نسوة من زمنمسافنت (عصر الممالك) كريس روسنفيلد.
• مدونة EthiopiaSemay