أخطأ فتح حوار حول دستور ١٩٩٧؟
بقلم الإعلامي الأستاذ: يوسف بوليسي - كاتب وناشط سياسي ارتري المصدر: صوت
تحضرني وانا بصدد كتابة مقالتي هذه، مقولة قالها احد اعيان الساهو في مدينة صنعفي في منتصف عام ١٩٩٦،
اثناء اجتماع عقدته مفوضية الدستور بالمدينة، حيث قال بعد ان استمع لترجمة كلمة الدكتور برخت هبتى سلاسى باللغة العربية: اما الآن ونحن قد اروينا روحنا.. ”وهو يشير الى موضع القلب“.. نرجو منكم سيدي ترجمته الى الساهو لكي نروي عقلنا ويتسع فهمنا وندلي برأينا حول محتواه“ وكان الشيخ الجليل يشير الى موضع الرأس الذي يقصد به العقل ضمنا.
الحديث عن الدستور الارتري الذي صدر بعد نقاشات طويلة امتدت لثلاث سنوات تقريبا، حديث ينبغي ان يكون محفوفاً بكثير من المخاطر عند تناوله بعد اكثر من عقدين من مصادقة المجلس الدستوري عليه. وذلك لاسباب كثيرة يمكن ان نذكر منها السبب الرئيسي المتمثل في ان هذا الدستور الذي صادق عليه ممثلو الشعب انذاك، لم يرى النور حتى اللحظة بعد ان وضعه الديكتاتور في رفة المهملات واعلن قبل سنوات عن موته (الابدي)، ومن ثم ان الحديث قد يأخذ منحى غير مستحب وفق تفسيرات لا ترى اية اهمية لطرحه للنقاش لاعتبارات سياسية يتسم الكثير منها بالسذاجة.
وفي فهمي المتواضع، اعتبر ان فتح المجال للنقاش حوله لا يعني البتة التمسك به، وانما هو محاولة لتحريك الرأي العام الارتري وبالاخص تلك القوى التي تسعى الى احداث التغييرات الديمقراطية المنشودة وازالة النظام الديكتاتوري الذي يستقوي بضعفها، والانتقال الى التفكير الاستراتيجي وبالتالي ادارة حوار هادئ حول المسائل الاساسية لما بعد السقوط وادارة المرحلة الانتقالية التي تسبق مرحلة دخول دولتنا الى المؤسساتية والاحتكام الى القانون والبحث عن صيغ تفاهمية تعيننا على ارساء دعائم صحيحة للديمقراطية والعدالة والسلم المجتمعي.
لقد قام النظام بإتباع سياسات تخريبية امتدت حتى الى طريقة تفكيرنا واضرت كثيرا باللحمة الوطنية التي كانت تأخذ شكلها الطبيعي نتيجة لمشاركة مختلف مكونات شعبنا فيه وتضحيات ابنائها الغوالي، فضلا عن ان الكثير من القوى السياسية المحسوبة على المعارضة الارترية لعبت دورا سلبيا في ازدياد عامل عدم الثقة بين القوى السياسية والتي امتدت الى المكونات في المهجر، وذلك لتبنيها افكارا مرحلية للكسب الحزبي او العقائدي دون مراعاة حجم الأضرار التي يمكن ان تنجم عنها وخاصة على الوحدة الوطنية.
وعند الحديث عن دستور ١٩٩٧ لم تكتمل عملية صياغة الدستور الا بعد مرور ثلاثة سنوات والكثير من المسودات التي قام النظام برفضها او ساهم فاعلوه على تعديلها ودفعوا المجلس الدستوري الذي كان مكونا من اعضاء في الجبهة الشعبية واخرون من خارجها بالاضافة الاستعانة بكفاءات قانونية، الا ان الاشراف على كل العملية كان يتم من قبل السيد زمهرت يوهانس نائب رئيس المفوضية وهو في نفس الوقت مسؤول قسم التوثيق والدراسات في المكتب المركزي للجبهة الشعبية (الهقدف)، وكثيرا ما اشتكى العديد من الاعضاء على تدخله وفرض ارائه على المفوضية واعضاء المجلس الدستوري، بل كثيرا ما شهدت اروقة المجلس الدستوري نقاشات حادة معه حول العديد من الموافق السلبية تجاه قضايا حساسة ويمكن ان نذكر هنا مواقف الشهيد الدكتور طه محمد نور تغمده الله بواسع رحمته والاستاذ المناضل محمد نور احمد اطال الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية.
الا ان ذلك لا ينفي ان عملية مناقشة المسودات اشترك فيه اغلب الشعب الارتري بالداخل والمواطنين بدول المهجر، بل قد تم مناقشتها حتى في المدارس الثانوية وادلى خلالها المواطنون بآرائهم ومقترحاتهم وخلقت مساحة من الفهم العام حول المسائل الدستورية فضلا عن العديد من الورش التي عُقدت لرفع درجة الوعي الدستوري واسهمت في تعزيز تفاؤل الناس بمستقبل مشرق لارتريا الدولة ونتيجة لذلك فضل الكثير من الوطنين الذين خبروا اسياس ونزعاته التسلطية، الصمت حتى اكتمال عملية المصادقة على الدستور وولوج البلاد الى المرحلة الدستورية رغم اعتراضهم على العديد من المواد التي يحتويها الدستور، لايمانهم بإتساع مساحة التغيير الى الافضل عند التطبيق لانه حينذاك ستتمتع البلاد بمرجعية قانونية لا يمكن تجاوزها على الاطلاق وكان شعارهم ”الافضل لم يأتي بعد“.
وبالتالي لم يريدوا التركيز على ابراز المواد التي يشوبها الغموض والتي قد تحد من الحقوق، بما في ذلك البنود التي تتحدث عن الارض واللغة والعطلات الاسبوعية وتشكيل الاحزاب السياسية… وغيرها، واختاروا القضايا الاقل اديولوجية والاكثر اجرائية لامكانية تعديلها مستقبلا عبر مبادرات من الاجنحة السياسية او المجتمعية متى ما ولجت البلاد الى مرحلة الدولة الدستورية.
ولكن ما الذي حدث؟ ولماذا لم يرغب اسياس تطبيق الدستور رغم الحماس الذي اظهره بتشجيعه للمفوضية وحثها على الاسراع في خطواتها وهو ما اكده رئيسها الدكتور برخت مؤخرا في معرض حديثه حول الدستور لاذاعة البي بي سي قسم اللغة التقرينجية؟
الكثيرون من الملمين بشخصية اسياس افورقي والمتابعين لتطور عقليته التسلطية، يعتبرونه اكثر القادة فهما وإلماما بالمجتمع الارتري والعقلية الجمعية لمكوناته وهو ما يفتقره اغلب قادة القوى السياسية الارترية وهو عامل افتقره ايضا اغلب رفاقه الذين عاشوا معه لسنوات طويلة.
عاني الشعب الارتري من الظلم والتعسف والفقر والجهل لعقود قبل الاستقلال وهي ارضية مناسبة لازدهار العقلية التسلطية للطغاة وأرضية خصبة لتسرح وتمرح فيها الانظمة المستبدة. والتي التقفتها النزعة التسلطية لاسياس واستثمرتها بإتقان عال للتربع على عرش الحكم لفترة امتدت من مرحلة الكفاح الارتري المسلح حتى كتابة هذه الاسطر. فعندما ادرك اسياس ان تفعيل الدستور سيحد من سلطاته بل سيخرجه من اللعبة السياسية، لجأ الى اسلوبه في افتعال الازمات وكانت الحرب المدمرة مع اثيوبيا التي راح عشرات الالاف من أبنائنا الابرياء ضحايا لها.
ان مناقشة دستور ١٩٩٧م ينبغي ان يأخذ مسارين هامين، المسار الاول ينبغي ان يتوخي منه تسليط الضوء عليه للاستفادة منه للتحضير لمرحلة ما بعد سقوط اسياس وزمرته، وهي المرحلة التي ستتسم دون شك بصعوبات بالغة، وذلك بإستخدام ادوات الحوار البناء لكسر حاجز الثقة بين مختلف المكونات السياسية والمجتمعية مستهدفا بالدرجة الاولى زيادة الوعي الدستوري والقانوني وتهيئة الاجواء الصحية المناسبة للنهوض بدولتنا الدستورية، فضلا عن استلهام العبر من تجارب الكثير من الدول التي شهدت ظروفا مشابهة لظروفنا، اي بمعني آخر اجراء نقاش افقي هادئ تشترك فيه جميع فئات المجتمع.
اما المسار الثاني، فينبغي ان يكون لاعبوه هم المختصون في القانون الدستوري الذين يجب عليهم إجراء حوار مفتوح حول الدستور وتلمس جوانب الضعف والقوة فيه وتحديد المواد التي يتطلب تطويرها أو حذفها أو تعديلها ومن ثم الاتفاق على مسودة أو وثيقة دستورية تعيننا على تخطي المرحلة الانتقالية بسلام.
بالعودة الى كلام الشيخ الجليل الذي بدأت هذا المقال به، استحضرت ذهنيا الآن ايضا مقالا كتبه استاذي الكريم المناضل ادريس ابعري، فك الله اسره، في بداية الالفية اي قبل اعتقاله باسابيع، بعنوان:
”سيدي هل لي أن اختلف معك قليلا؟ اللغة في ارتريا اداة لممارسة السلطة وليس وسيلة تفاهم“ تطرق فيه لاساليب السلطة في التغول على تشريعاتها بغية تحقيق غايات تتنافي مع اهداف رسمتها ابان الثورة. المقال جدير بالقراءة ومتاح على الانترنت.
فكلام الشيخ الجليل ومقال المناضل ابعري يتحدثان عن علاقة اللغة بالوجدان المجتمعي وهي اي اللغة ليست اداة فقط للتواصل والتفاهم فحسب، وانما تتعداها الى ان تصبح اداة لممارسة السلطة. لذا ينبغي على المختصين ان يولوها الاهمية التي تستحقها وعدم غفلتها، وذلك من خلال دراسة تاريخ المجتمع الارتري وحراكه لتكوين هذا الكيان دراسة دقيقة وذلك بالعودة الى الاحتقان الطائفي او بالاحرى الاصطفاف الحزبي الذي تغولت عليه الطائفية انذاك وتحليله علميا بغية الالمام به وتخطي تداعيات تلك الفترة وتجاوز صعوبات المرحلة الراهنة.