كسر الفولاذ الرهان الخاسر

بقلم الأستاذ: أحمد محمد عمر (أبو تيسر) - كاتب وإعلامي سابق بإذاعة صوت الجماهير الارترية - برلين

تعالت في الآونة الأخيرة في بعض أوساط الناشطين الإرتريين الأصوات التي تنخر في جسد الوطن الإرتري

بعد أن كانت هذه المهمة مقتصرة على الناشطين الإثيوبيين بشكل عام والتجراويين منهم بشكل خاص. الفكرة تتلخص بإختصار على العمل من اجل إسقاط الوطن الإرتري تحت غطاء إسقاط النظام.

عفوًا، يا سادتي قد يبدو لكم الأمر بأنني أكرر أسطوانة ممجوجة لأنصار افورقي او نظام الهقدف، كما يحلو للبعض ان يسميهم، ولكني اقولها وبكل صدق تشابهت علينا البقر حتى أصبحنا لا نميّز بين ما يقوله أعداؤنا في الجارة إثيوبيا وما يقوله بعض من يصنفون أنفسهم في محور المعارضة الإرترية.

المتابع الدقيق والباحث المتدبر للحروب والمواجهات العسكرية بين إرتريا وإثيوبيا خلال الستين عامًا الماضية يلاحظ كيف ان الجنود الإثيوبيين يصابون بحالة من الرعب والهلع حينما يواجهون المقاتل الإرتري لدرجة أنهم في بعض الحالات يُهزمون قبل أن تبدأ المعركة.

فهم يعتقدون ان الجندي الإرتري لا يُقهر وهو محصن ضد الرصاص وان الرصاصة التي يطلقها لا تخطئ هدفها ويذهبون في تخيلاتهم بعيدًا لدرجة يعتقدون فيها ان المقاتلين الإرتريين ليسوا بشرًا عاديين. ولدينا وقائع ونماذج عديدة تؤكد ما ذهبنا اليه من قول، بدءاً من حادثة البطل (دنقير ود شارف) حين شارك مع ثلة من رفاقه من مقاتلي جبهة التحرير الإرترية في الهجوم على وحدات العدو في مدينة أغوردات في العام 1966.

ورغم أن العدو استطاع صد ذلك الهجوم واضطر المقاتلون للإنسحاب، ظل دنقير ثابتًا في موقعه ممسكًا ببندقية البرين لتأمين الإنسحاب لرفاقه إلى أن جاءت رصاصة طائشة اصابته في جبهته فانكفأ على بندقيته ويداه ممسكتان بالزناد. اعتقد جنود العدو انه ما زال حيًا وظلوا يحرسون الموقع ويطلقون الرصاص عشوائيًا طوال الليل إلى ان جاء الصبح ليكتشفوا انه اُستشهد منذ ساعات طويلة. ومن يريد نماذج أخرى عديدة لحوادث ارتعبت فيها فرائص جنود العدو اثناء مواجهاتهم للمقاتل الإرتري نحيله إلى كتاب (أُروماي) للصحفي الإثيوبي (بعلو قرما) الذي رافق الجيش الإثيوبي في حملة النجم الأحمر او الحملة السادسة وشهد بنفسه المواجهات في جبهة نقفة في العام 1982، حيث سجل هذا الصحفي مشاهداته بصدق وشفافية وخلص إلى أن مقارعة المقاتل الإرتري رهان خاسر.

هذه الصورة النمطية للمقاتل الإرتري كانت تشكل تحديًا حقيقيًا للوياني بعد إعلانهم الحرب على إرتريا في العام 1998 فشرعوا في تدشين حملة تعبويه لإقناع جنودهم بأن الجيش الإرتري لم يعد ذلك الجيش الجبار وان اغلبهم من منتسبي الخدمة الوطنية الذين يفتقرون الى التجربة والخبرة القتالية وان هزيمته سهلة جدا ناسين او متناسين أن هذا الشبل هو من ذاك الأسد. ومن يرصد الأبواق الدعائية للوياني بعد ان تمكنوا من كسر جبهة (مرب سيتيت) في مايو من عام 2000 وتوغلوا في الأراضي الإرترية ليحتلوا بارنتو وتسني، يلاحظ وبكل وضوح انهم كانوا يركزون على نقطة واحدة فقط وهي ان الإرادة الفولاذية والعزيمة الصلبة للمقاتل الإرتري قد كُسرت ومُرقت وان الجندي الإرتري لم يعد ذلك الجندي الخارق الذي كان يُخيّل لهم، حيث شرعوا في تأليف المسرحيات والقصص الدرامية حول بطولات زائفة قيل أنها سُجلت في تلك المواجهات.

وبعد توقيع اتفاقية الجزائر ومن ثم اصدار محكمة التحكيم الدولية حكمها بتبعية بادمي لإرتريا وعلى مدى 20 عامًا خلت لم يرغب الوياني في إغلاق ملف الحدود رافضًا تنفيذ قرار محكمة التحكيم ومسخرًا موارد مالية ضخمة في حرب جديدة من نوع آخر - الحرب النفسية - نعم الحرب النفسية لكسر إرادة المقاتل الإرتري. صحيح أنه بدا وكأنه يسعى لإحداث التغيير الديموقراطي في إرتريا حيث رحب بالعديد من قوى المعارضة الإرترية للقدوم الى إثيوبيا ولكنه لم يسمح لها باتخاذ قرارها المستقل في مواجهة نظام افورقي، بل أراد لها ان تساهم فقط في مجهود الحرب النفسية لكسر عزيمة الجندي الإرتري من خلال التركيز على نفث سموم الفرقة بين الإرتريين على أسس عرقية ودينية ومناطقية. لم تعجب الفكرة الكثير من جماعات المعارضة الإرترية فانسحبت من المشروع الإثيوبي، بينما وجد آخرون أنفسهم عالقين في مشروع الوياني حتى النخاع.

وربما الصورة لم تكن واضحة المعالم حول العلاقة وطبيعة التداخل الذي حدث في وقت معين بين الوياني والمعارضة الإرترية، ولكن الحرب الأخيرة بيَّنت لنا أن الوياني خلال الفترة المذكورة استطاع كسب بعض من الإرتريين ليسهموا معه في حربه النفسية ضد الجيش الإرتري. ولم يخفي هؤلاء تماهيهم الكامل مع مشروع الوياني حيث سخروا منابرهم الإعلامية واقلامهم لوصف الجيش الإرتري بالغازي وانه ارتكب جرائم ضد الإنسانية في تجراي وغيرها من أسطوانات مللناها خلال الثمانية أشهر الماضية. وبدأ آخرون ولكن على خجل في ركوب موجة توجيه الأسهم الى الجيش الإرتري من خلال استحضار حوادث تاريخية معينة لإاستفادة منها في تشويه صورة الجيش الإرتري بنفس لغة الوياني للأسف الشديد.

فعندما يأتيك أحدهم ليقول: ”ان الجيش الإرتري قام بمغامرة في الحرب على الحركة الشعبية في الكرمك وقيسان“ - المقصود هنا الجيش الشعبي لتحرير ارتريا أي ابان الكفاح المسلح - فهو لا يعلم ان تلك العملية لم تكن تستهدف الحركة الشعبية بل هي العملية التي أصابت الجيش الإثيوبي في المقتل ومن حيث لا يتوقع، ومثل هذا الإتهام لم يصدر حتى من الحركة الشعيبة التي كانت تعرف انها غير مستهدفة بالأساس. مفارقة أخرى أوردها نفس الشخص عندما قال: ”ان الأسلحة كانت تشحن من مطار مصوع الى المحاكم الإسلامية في مقديشو“.. الم نقل لكم إنّها لغة الوياني، لأن القاصي والداني يعلم، أما صاحبنا لا يعلم بأن المحاكم الإسلامية لم تكن في حاجة للسلاح من إرتريا وأن الأسلحة الموجودة في الصومال أكثر بكثير من الأسلحة الموجودة في إرتريا.

بشكل عام وكما أشرنا سلفا ان الوياني نجح الى حد ما في اتقان اللعبة لتحقيق هدفه بكسر إرادة الإنسان الإرتري من خلال استمالة بعض الإرتريين ممن يرغب ليقفوا الى جانبه لأنه استدرك بان ضرب الحجر بالحجر يغنيه عن الحرب المباشرة.

ورغم ذلك، ظلت عقدة الخوف والرعب من المقاتل الإرتري تلاحق جنود الوياني وتلازمهم مثلما لازمت جيوش الدرق من قبله. ففي الحرب الأخيرة كانت مشاركة قوات الدفاع الإرترية الى جانب الجيش الفدرالي الإثيوبي العنصر الحاسم في تغليب الكفة. قالها ذلك الجنرال الفاشل المسمى (صادقان) بنفسه عندما أدلى بتصريحات صفق لها المصفقون من بني جنسنا، حيث قال: ”ان طائرات الدرون هي التي أدت الى ترجيح الكفة رغم انهم كانوا يملكون صواريخ واسلحة استراتيجية كافية“. محاولة فاشلة لتبرير الهزيمة وكان أهون عليه ان يقول حدث لنا ما حدث لجيش أبرها حين هاجمته طير الأبابيل، لأن في ذلك سابقة قد تجعل بعض البسطاء يصدقون الرواية، اما طائرات الدرون فهي النكتة التي أضحكتنا وأضحكت كل من له معرفة ولو بسيطة بالمواجهات العسكرية بين الجيوش.

ونقول لصادقان وأساتذته في الجامعة البريطانية المفتوحة ومعجبيه في اقاصي الأرض: إن هزيمة جيش الوياني لم تكن بسبب طائرات جاءت من السماء او قذائف خرجت من الأرض بل هي بسبب حالة الرعب والهلع التي يصاب بها جيشك عندما يواجه المقاتل الإرتري. فالوياني صرخ عاليًا مستنجدًا العالم وشاكيًا بأن الجيش الإرتري يشارك في الحرب إلى جانب الجيش الفدرالي. وعندما لم يجد من يستجيب لاستغاثته أطلق الصواريخ العشوائية نحو العاصمة اسمرا. وهذه ايضاً لم تفض إلى نتيجة حيث تيقن الوياني ان الجيش الإرتري قادم لا محالة، فترك جنوده المدينة وهربوا الى الكهوف في (ددبيت) دون ان يخوضوا غمار المواجهة مع الجيش الإرتري.

وطوال ثمانية أشهر خلت تصاعدت الموجة المعادية للجيش الإرتري في أوساط أبواق الوياني في الخارج وكذا في أوساط بعض الإرتريين المناصرين للوياني يتهمونه بإرتكاب جرائم حرب تارة والقيام بتطهير عرقي تارة أخرى حيث استجابت العديد من الجهات الدولية بما فيها الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي لتشكيل ضغط على كل من أبي أحمد وافورقي لسحب الجيش الإرتري من تجراي. وحقًا يقال، كان لا ينبغي ان يبقى الجيش الإرتري كل هذه الفترة في الأراضي الإثيوبية بعد ان نفذ مهمته بكسر ظهر الوياني بل كان عليه الإنسحاب في أقصر وقت ممكن. ولكن افورقي بدا عليه وكأنه استلذ البقاء في تجراي دون ان يعي خطورة البقاء لفترة أطول. وأخيرًا عندما صدر القرار بالانسحاب وشرع الجيش الإرتري فعلًا بالانسحاب خرجت فلول الوياني من جحورها وكهوفها لتعلن انها أطلقت حملة لتحرير أراضي التجراي أسمتها (حملة الولا ابانقا) بئس الاسم وبئس التاريخ.

بالنسبة لنا كإرتريين، لم نعد نخشى الوياني لأننا نعرف انه عدونا التأريخي وهو الذي يتربص بنا ليل نهار، ولكننا ننام ملئ جفوننا لأن أبناء وبنات ارتريا ومهما شردهم النظام الحاكم في اسمرا ومهما ملأ منهم السجون فان من تبقى منهم قادر على صد عدوان المتربصين بنا. فالجندي الإرتري يا اخوتي لا يقاتل في ساحة المواجهة من اجل افورقي ونظامه بل يقاتل من اجل الوطن والتراب. اوليس هو نفس الجندي الإرتري الذي بقي صامدًا في جبهة بوري عندما أصدر أفورقي أوامره بالإنسحاب من عصب حيث رفض الإنصياع للأوامر العليا وتصدى لجيش الوياني والحق به هزيمة ماحقة جعلته يوقع على اتفاقية الجزائر؟. في تلك الأيام لا ينسى أحد ممن كان في ارتريا بأن الطاغية افورقي قد أُصيب بالذعر والخوف وحزم حقائبه للهروب ولكن أبطال الجيش الإرتري كانوا دائمًا أصحاب اليد العليا في تغليب كفة الموازين.

ومما يثير السخرية والإمتعاض في نفس الوقت ان البعض وفي سياق حملة التشويه ضد الجيش الإرتري وقياداته يحاول ان يستثني شخصيات مثل الشهيد/ سعيد علي حجاي والعقيد/ عثمان صالح وبتودد ابرها وغيرهم، وكأنهم يقولون لنا: لا استثناء الا لمن يموت او يسجن. وفي هذا الشأن يبرر آخرون بان المقصود هم جنرالات الجيش الإرتري وليس الجيش الإرتري، وهذه أيضًا حجة باطلة لأن جنرالات الجيش الإرتري ليس كلهم أداة طيعة بيد افورقي، ولأن افورقي يعرف هذه الحقيقة ظل يجري تغييرات وتنقلات مستمرة بين الفينة والأخرى في أوساط الجيش حتى يتقي أي خطر قد يأتيه من المؤسسة العسكرية.

ان افورقي يعلم تمامًا ان نهايته ستكون على يد الحادبين على مصلحة الوطن من قادة الجيش الإرتري طال الزمن او قصر. صحيح انه قد تمكن من افشال أي محاولات لتخليص بلادنا من طغيانه حتى الآن، ولكن لن تسلم الجرة في كل مرة. ففي الوقت الذي وصلت فيه حملة التشويه ضد الجيش الإرتري اوجها، سربت إلينا الأخبار ان خمسة من كبار قادة الجيش الإرتري واجهوا افورقي في اجتماع عُقد في امباتكلا عقب الإنسحاب من تجراي قائلين له: حان الوقت الآن لترسيم الحدود وانهاء هذا الملف مرة والى الأبد. ولكن افورقي حاول التهرب من القضية المطروحة متعللًا بأن القضية أكبر من موضوع الحدود. ولا شك انه سيقوم خلال الفترة القريبة القادمة بإجراءات وتغيرات في أوساط المؤسسة العسكرية لتهميش دور القادة العسكريين المشار إليهم.

ولسنا قلقين مما ظل يردده الوياني طوال فترة غير قصيرة بأن الجيش الإرتري غير موجود وانهم يستطيعون الوصول إلى أسمرا في ظرف سويعات لأن معظم الشباب قد هرب، ولم يعد هناك من يعترض سبيلهم لإعادة احتلال ارتريا! وفي هذا الصدد كلنا يذكر الصحفي الإثيوبي الذي ظهر في وسائل التواصل الإجتماعي العام الماضي عندما قال ان ارتريا لم يعد لها جيش وان افورقي قد خدمهم في هذا الجانب عندما شرد الشباب الى الخارج وانهم أي الإثيوبيين ليسوا في حاجة الى خوض حرب بل بإمكانهم الدخول الى ارتريا بالبقال والحمير. اكاد اجزم على ان هذا الصحفي الإثيوبي سيكون له رأي مختلف اليوم بعد ان تابع ما حدث خلال الفترة من الـ 4 من نوفمبر وحتى الآن في إقليم تجراي.

انما يحزننا نحن الإرتريون هو انجراف بعض الإرتريين الى الحملة المعادية للوطن تحت مبرر ”ان افورقي هو السبب“. فالشجرة تعرف ان الفأس هو عدوها التأريخي الذي يحاول ان يجتثها كلما وجد الفرصة لذلك ولكنها تتألم كثيرًا عندما تتذكر ان العصى التي تحمل الفأس هي من جنس الشجر.

يحاول البعض ان يجاري الموجة المعادية للجيش الإرتري عبر تقمص ثوب الحريص على مصلحة إرتريا حيث يقولون ”ان افورقي زج بأبنائنا وبناتنا في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل“، ونقول: لهؤلاء أيضًا بل لدينا في هذه الحرب نوق وجِمال، هل نسيتم ان الوياني ظل يحتل أرضنا على مدى أكثر من عشرين عامًا رافضًا الاستجابة لقرار محكمة التحكيم الدولية؟ ام غاب عنكم ان الوياني كدس الجيوش والأسلحة الفتاكة على طول الحدود الإرترية وظل يقوم باستفزازات عسكرية بين الحين والآخر مما جعل الجيش الارتري منشغلًا بواجب حماية الحدود والسهر على الدفاع عن الكرامة طوال العقدين الماضيين؟!. وعندما واتته الفرصة الملائمة للانقضاض على هذا العدو الماكر لم يتردد على الاستفادة منها اطلاقا.

وهنا يتدخل آخرون ليقولوا: ”كان من المفترض ان يكتفي الجيش الارتري بتحرير أراضيه فقط وان لا يتوغل في الأراضي الاثيوبية“. من المنظور التقليدي والقانوني قد يبدو هذا القول صحيحًا ولكن من المنظور العسكري والاستراتيجي يجانب الصواب، لأن القدرات العسكرية والهجومية للعدو يجب ان تشل تمامًا حتى لا يعاود الكرة ويشكل خطرًا وهذا يقتضي مطاردة الفلول الهاربة داخل أراضيها وتجريدها من أسلحتها. هذا النوع من الحروب يسمى بالحرب الوقائية او الاستباقية وهي حرب اصبحت مألوفة ومتعارف عليها بعد أحداث الـ 11 من سبتمبر، رغم عدم وجود نص صريح يشرع لها وفق القانون الدولي، خاصة وان هذه الحرب ليس ضد دولة مجاورة بل ضد جماعة مارقة تهدد الأمن والاستقرار في المنطقة.

كان من المفترض ان يبادر الجيش الإرتري باستعادة الأراضي الإرترية المحتلة بالقوة منذ فترة طويلة ولا ينتظر لمدة عشرين عامًا لأن الوياني رفض الإلتزام بقرار التحكيم وترسيم الحدود، وهذا يعني ان قيام الجيش الإرتري بأخذ المبادرة واستعادة الأراضي الارترية المحتلة يعتبر عملًا مشروعًا وفق القانون الدولي، ولكن هذا لم يحدث في الماضي لأن قرار شن الهجوم واستعادة الأراضي هو قرار سياسي كان بيد افورقي الذي فشل فشلًا ذريعًا في إدارة هذا الملف بل وأصبح هو ونظامه مكبلًا بقرارات دولية دفع ثمنها الشعب الإرتري طوال عقدين من الزمن.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا ينغمس بعض الإرتريين في الإصطفاف الى جانب عدو تأريخي للشعب الإرتري وليس نظام افورقي؟ هل هم فشلوا في مواجهة افورقي لذا يريدون ان يقوم الوياني بالمهمة نيابة عنهم؟ ام انهم فقدوا الثقة في شعبهم وجيشهم فلجأوا الى هكذا خيار يائس؟ في ظني ان المسألة مرتبطة بعلاقة الإنسان بوطنه، فالوطنية يا سادتي ليست انزيمات او هرمونات نرضعها من اثداء أُمهاتنا وليست هي خصال نتوارثها من جينات آبائنا، بل هي جرعات نتلقاها في وعاء المجتمع مثل جرعات التطعيم للأطفال كي تحصنهم من الأوبئة والأمراض الفتاكة، فمن كانت جرعاته ناقصة فهو عرضة لكل مكروه ولا يقع اللوم عليه بطبيعة الحال نتيجة حالة التيه والتشرد التي تعرض لها المجتمع الإرتري طوال الستين عامًا الماضية.

نعرف جيدًا ان الكثير من الإرتريين ونتيجة ابتعادهم عن وطنهم لظروف الهجرة واللجوء كانوا عرضة للحملة الممنهجة التي تستهدف الوطن حيث رسموا له صورة قاتمة عن ارتريا وتركوه ليبحث عن الوطن البديل ورغم ذلك يظل في داخله خيط رفيع يحرك ضميره بين الحين والآخر، ومهمتنا هي مساعدة هذه الفئة في التعرف على الوطن وكشف ألاعيب الأعداء.

كما ندرك أيضًا أن هناك فئة من الإرتريين تقلل من حجم المخاطر التي تتربص بالوطن، إما جهلًا او عدم القدرة على تمييز الأشياء. نقول لهم: إنَّا نرى شجرًا يسير، ويقولون لنا: كذابون أنتم، كيف يسير الشجر!!؟ يا للخيبة!! لعل البعض منا ورث شيئًا من غباء أهلك يا زرقاء اليمامة. حينما تقدم لهم أدلة على فظاعة ما يقومون به من هدم وتدمير يقولون لك: ”افورقي هو السبب ولولا افورقي لما حدث هذا“.. شماعة جاهزة لتبرير الجرم دون ان يسألوا أنفسهم مرة واحدة، ماذا فعلوا لتخليص شعبهم من جرم افورقي؟ كل ما فعلوه هو إطلاق الإشاعات بان افورقي مريض وانه توفي او انه يعاني من سكرات الموت وكأن التنبؤات بمجيء القدر وسيلة مناسبة للنضال ضد الظلم والبطش.

اما ما يحزننا أكثر فهو: أن فئةً قليلةً جدًا قد تمكن الوياني من مسخها تمامًا حتى تنكرت لكل ما هو إرتري وتتقدم الصفوف اليوم في الحملة المعادية لإرتريا على منصات وسائل التواصل الاجتماعي. وفي هذا الصدد اذكر انه وقبل فترة غير قصيرة تابعت لقاءًا لأحد الشباب الإرتريين في غرفة من غرف البالتوك، ومن باب الصدف كنت اعرف ذلك الشاب حين كان في إرتريا وهو الآن أحد الأعضاء النشطين في مجموعة تعرف بـ ”المستقبل المشرق“ تتلقى الدعم والتأييد من الوياني، قال ذلك الشاب: ”ان فكرة النضال الإرتري فكرة غير صائبة في الأساس وان كل ما يقال عن الثورة الإرترية وبطولاتها مزيف بل وحتى حامد عواتي شخصية اسطورية ولا يوجد على ارض الواقع شخص يسمى حامد عواتي“.

كانت تلك الكلمات كافية بالنسبة لي لكي اخرج من الغرفة فورًا وذلك من هول الصدمة التي اصبت بها حينها. لم أنم ليلتها ولم يهدأ بالي الى ان جاء اليوم التالي فبحثت عن اسمه في الفيس بوك وطلبت صداقته ثم اتصلت به على الماسنجر وقلت له ما الذي تود قوله باختصار، فقال لي: ”نحن نريد ان نتخلص من هذا التاريخ الذي يتحدثون عنه، بدءً من نضال الأربعينيات والخمسينيات ثم الحركة وجبهة التحرير والجبهة الشعبية ونصنع تاريخًا جديدًا لإرتريا لأن ذلك تاريخ مزيف“!

مرة أخرى عجزت ان اتفوه بكلمة واحدة ردًا على حديثه فشكرته على توضيح الهدف وأنهيت المكالمة. وفي تلك اللحظة استشعرت بالخطر وأحسست ان المواجهة القادمة لن تكون مع الوياني لكن بين الإرتريين أنفسهم ولكن مع مرور الأيام استدركت بأن هؤلاء أضعف من أن يشكلوا خطرًا حقيقيًا لأن شعبنا سيلفظهم كما لفظ أمثالهم في العقود السابقة.

Top
X

Right Click

No Right Click