اللغة العربية في ظل نظام الجبهة الشعبية هل تستعيد مكانتها بعد تهميش متعمد؟ الحلقة الثالثة

بقلم الدكتور: جلال الدين محمد صالح

اللغة العربية والتعليم بلغة الأم:

في اللقاء الذي عقده الرئيس إسياس أفورقي بتاريخ 1991/7/28م مع وفد قبيلة (الماريا) في أسمرا وبثته الإذاعة، تحدث سيادته عن

جـلال الدين محمد صالحسياسة حكومته في التعليم من خلال التركيز على ثلاثة محاور، كان المحور الأول منها (لغة التعليم) وبشأنها قال الرئيس: بعد الفصل السادس يكون التعليم يواصل باللغة الإنجليزية... ما عايزين نفرق شعبنا، جزء يتعلم في جانب، وجزء يتعلم في جانب في إشارة منه إلى عدم اعتماد العربية والتجرنية لغتي التعليم.

وعندما سئل عن غياب وضعف التدريس بـ(اللغة العربية) قال في لقائه الذي نشرته إرتريا الحديثة العدد الخامس 1995/9/16م: "في واقع الأمر لا يوجد في هذا البلد معلمون مؤهلون للتدريس باللغة العربية، فعند الطلب لم نجد سوى شخصين مؤهلين باللغة العربية، هذا هو الواقع".

بالتأكيد ليس هذا هو الواقع ـ يا سبيادة الرئيس ـ وإنما الواقع هو موقف نظام الجبهة الشعبية من اللغة العربية، ولو فرضنا جدلا أن هنالك فقرا في المؤهلين لما عجز النظام عن تأهيل غير المؤهلين، ولكن المشكلة أنه لم يؤهل ذاته للتخلص من رواسبها السلبية في الموقف من اللغة العربية، ثم إن إرتريا بارتباطها الثقافي والتاريخي مع العالم العربي ودراسة أبنائها في العواصم العربية يصعب معه بل يستحيل خلوها من مؤهلين ذوي كفاءات علمية.

إن عقدة المشكلة لا تكمن إلا في فلسفة النظام ومنهجية تعامله مع اللغة العربية، فمتى راجع النظام سياساته العامة في موقفه من اللغة العربية غير متأثر بمخاوف حضارية انحلت العقدة، واكتظت إرتريا بالمؤهلين من أبنائها في شتى فنون اللغة العربية، فكثيرون هم الذين طرقوا الأبواب، وكثيرون هم الذين ينتظرون الأدوار.

لكن ـ كما يذكر أبو عري ـ في إرتريا الحديثة العدد 82 تاريخ 2001/2/10 "أن وزارة التعليم أصدرت أوامرها لإيقاف التسجيل في بعض المدارس التي تدرس باللغة العربية، وأوقفت في نفس الوقت مادة اللغة العربية في بعض الأقاليم، الأمر الذي زاد من مشاعر الاستياء والقلق...".

وذكر أيضا في العدد نفسه: "أنها استغنت عن عدد من مدرسي اللغة العربية في الإقليم الجنوبي".

وأعرب أبو عري عن استيائه الشديد من هذا التصرف متسائلا عن نوايا وزارة التعليم، وواصفا تصرفها هذا بالأمر المزعج، حيث قال في الصحيفة نفسها: "ولا يدري المرء ما ذا تنوي الوزارة أن تفعل، ولكنه أمر مزعج بالتأكيد".

فعلا إنه أمر مزعج ليس لإبي عري وحده وإنما لأكبر جزء من المجتمع الإرتري يهمه شأن اللغة العربية ووضعها الدستوري والثقافي في تنشأة أبنائه وتكوينهم التعليمي والفكري، ولمس أبو عري هذا الإنزعاج فعبر عنه بالطريقة تلك، فكان جزاؤه ما هو عليه الآن، بتهم أوهى ما تكون من حبال العنكبوت أمام قضاء عادل.

ويقول أحد المشاركين في مداخلات الندوة التي لخصت جريدة (النبض) الناطقة بلسان اتحاد الشباب وقائعها في العدد 105 مارس 2001: "نحن في دنكاليا قد اخترنا الدراسة باللغة العربية لكن هذا الأمر لم يطبق حتى الآن".

ويقول محمد أبو القاسم حاج حمد الذي شغل منصب مستشار دولة إرتريا لشؤون الاستثمار في محاضرته التي ألقاها في قاعة الشارقة بالخرطوم: وإنه لمن المؤسف حقا أن تعمد إرتريا في ظل هذه الأوضاع الحرجة (يقصد الحرب الإرترية الإثيوبية) لاستفزاز العفر حين عقدت لهم ورشة عمل في الخامس من مايو أيار 2000 في مدينة عصب بهدف كتابة اللغة العفرية بالحروف اللاتينية في حين يفضل العفر كتابتها بالحروف العربية تبعا لانتمائهم الإسلامي، وقد ترأس ورشة العمل السيد (تسفامكئيل قرهتو) المدير العام لقسم التعليم العام.

بهذا ندرك أن المعضلة برمتها في السياسة التعليمة للجبهة الشعبية التي أخذت على عاتقها مهمة التضييق على اللغة العربية على نحو يثير كثيرا من الشكوك، ويضع عددا من الاستفهامات.

ويستغرب المرء على ترشيح الحرف اللاتيني ليكون هو حرف التعليم بلغة الأم مكان الحرف العربي بالنسبة للغات الأخرى وتكون التجرنية هي المستثناة بحكم أنها لغة متميزة بحرفها الخاص بها، ويرفض مثقفوها حتى الماركسيون منهم أن تكتب بالحرف اللاتيني لما للحرف التجرنياوي من مكانة دينية وتاريخية لا يمكن تجاهلها وتجاوزها.

هذا ما أكده كادر النظام المعتقل المناضل الأسير أبو عري الذي قال في جريدة إرتريا الحديثة العدد 82 تاريخ 2001/2/10م: أذكر في الثمانينيات عندما عقد أول مؤتمر لغوي في الميدان، طرحت قضية استبدال حروف الجئز بالحروف اللاتينية ... عندها ثارت ثائرة الكثيرين، معتبرين ذلك سلخا عن الواقع الثقافي، والديني، والتاريخي، ولحسن الحظ توقف المشروع في المهد، وللتاريخ فإن جل من اعترضوا كانو ممن اغترفوا ما يكفي من محيط الماركسية، وكنت مؤيدا لهذا الرأي مع أنه لم يحالفني حظ المشاركة في ذلك المؤتمر...".

وتعجب أبو عري من دفاع هؤلاء الماركسيين التجرنياويين عن حرف التجرنية بكل قوة وصلابة لاعتبارات دينية وتاريخية دون أخذ هذه الاعتبارات نفسها حين الحديث عن اللغة العربية!!

لقد رأى أبو عري في هذا الموقف المتضارب من مثقفي التجرنية الماركسيين ربكا في المعايير إذ قال: "إلا أن المفارقات التي تنتصب دوما أمامي هي ذلك الرفض الحازم للإنسلاخ عن الجئز، والتصميم الحالي للإنسلاخ عن العربي، الأمر الذي يربك المعايير...".

لا أعتقد إن في المعايير ربكا بل فيها انسجام وتناسق مع ما يحمله الاتجاه المعادي للغة العربية من موقف ثابت ومبدئي لا يتغير أبدا، وإذا كان هنالك ربك فإنما هو في عقل من كان مخدرا بالأفكار الحالمة على حد تعبير (جورباتشوف) أو كان مثاليا يقرأ الواقع قراءة إفلاطونية.

أما الماركسية فما كانت إلا مرعى الخراف الضالة على حد وصف المسيح عليه السلام للمعادين له من بني إسرائيل، فقد كانت ظهرا يمتطى، وبمثابة الديدان التي وضعت في السنارة لاصطياد الأسماك، وقد قال عنها سكرتير الجبهة الشعبية الأمين محمد سعيد عام 1994 في اجتماع جماهيري بجدة: موضة وانتهت.

على كل لا أدري ما الذي تحمله الآن فلول الماركسيين وبقاياهم المحنطة في متحف التاريخ من موقف عن اللغة العربية وحقها الدستوري، ولكن الذي يلزم إدراكه هو إن العملية التعليمية يجب أن لا ينظر إليها مفصولة عن إرادة المجتمع في خياره الثقافي والتربوي وإلا كانت عملية مضادة غير شرعية مهما كانت مبرراتها، وبهذا نستطيع أن نقول: إن أزمة السياسة التعليمية للجبهة الشعبية تكمن في استهدافها للغة العربية بالعزل والتهميش بالرغم من الإلحاح على تدريسها، والإصرار على حقها الدستوري في الممارسة السياسية والثقافية، والتربوية، وهو ما يجعل منها (عملية مضادة) تحوم حولها الكثير من الشبه والعديد من الشكوك والتساؤلات.

ومن حق مجتمعنا أن يدلي برأيه في هذه السياسة التعليمية المضادة لرغبته ووجهته الثقافية والتربوية، وقد أدرك شعبنا خطورة هذه السياسة على مستقبل أبنائه الثقافي وعبر عن رفضه لها بوسائله الخاصة التي لخصها الأسير (أبو عري) بقوله: "إن الرفض للغة الأم... يتجلى في الامتناع عن إرسال الأطفال إلى المدارس، تهريبهم إلى الدول المجاورة ، تفضيل إرسالهم إلى الخلاوي".

وهذا أكبر فشل سجلته هذه السياسة التعليمية التي ما زالت حتى اللحظة مفروضة على شعبنا بالرغم من رفضه لها، وعدم تجاوبه معها، ومنذ وقت مبكر من تنفيذها بدأت تظهر من داخل زوايا ودوائر الجبهة الشعبية أصوات تتحدث بلغة الأرقام عن فشلها، من هذه الأصوات الجريئة التي دفعت ثمن نطقها بالحقيقة صوت الأسير المناضل أبو عري الذي بات مرجعا لنا في توثيق النقاش حول هذه المسألة، حيث كتب عن ما دار من مناقشات في المؤتمر الذي نظمته في مارس 1997م كل من وزارة التعليم والجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة قائلا: "والحق أن مسؤولي وزارة التعليم دافعوا بحرارة عن مشروع لغة الأم إلا أن حججهم تضاءلت أمام الأوراق التي قدمها بعض خبراء المناهج العاملين في مشروع لغة الأم والتي أشارت بالأرقام والحجج إلى الكثير من جوانب عدم النجاح، حيث ذكرت شح الإمكانات البشرية والمادية وعدم قبول أولياء الأمور وتفضيلهم اللغة العربية بدلا من لغة الأم...".

عدم قبول أولياء الأمور وتفضيلهم اللغة العربية على لغة الأم هو الجدار الصلب الذي اصطدمت به سياسة التعليم بلغة الأم ولكن السؤال المطروح هنا هو: ما الذي ستحدثه ورقة السفيرين (هيجي) و (بادوري) في تغيير وجهة هذه السياسة وفي إعادة مياه التعليم إلى مجاريها الطبيعية كما يريدها أولياء الأمور؟

هل سيلين لما جاء في هاتين الورقتين عقل الرئيس إسياس أفورقي صانع القرار الأول، أم سيكون له رأي آخر غير الذي تضمنته الورقتان؟

ذلك ما أثرته من قبل وهو ما أثيره الآن، وكما قلت: لا نستعجل، فإن غدا لناظره قريب.

Top
X

Right Click

No Right Click