اللغة العربية في ظل نظام الجبهة الشعبية هل تستعيد مكانتها بعد تهميش متعمد؟ الحلقة الرابعة

بقلم الدكتور: جلال الدين محمد صالح

مصالحنا الاقتصادية واللغة العربية:

ليست إرتريا بالتأكيد جزيرة معزولة، نتقوقع فيها حول ذواتنا، بعيدين عن غيرنا، بل هي جزء من عالم واسع وكبير، اتسم بتشابك

جـلال الدين محمد صالحالمصالح إلى حد أصبحت فيه التكتلات الإقليمية، والدولية بمختلف أهدافها أهم خاصية يتميز بها عالمنا اليوم بكل ما فيه من تعقيدات، وفي عالم كهذا لا بد أن نعي من نحن ومن هم حلفاؤنا الحقيقيون؟ ولابد من أن تكون لنا ثمة أولويات ضرورية في سلم مصالحنا الوطنية، وثمة وسائل ضرورية أيضا للوصول إلى هذه المصالح وتحقيقها.

من أهم أولويات مصالحنا الضرورية المصالح الاقتصادية بالطبع، وعند الحديث عن هذا النوع من المصالح يبدو من المهم والمناسب جدا في نظري الحديث أيضا عن دور (اللغة) وأثرها في جلب هذه المصالح الاقتصادية وتحقيق أكبر قدر منها، وهو ما تناولته ورقة السفير بادوري.

بالنسبة لنا نحن الإرتريين لا يمكن أن ندير النقاش في هذه المسألة عبر المفاضلة بين اللغة الإنجليزية، واللغة الفرنسية، أو الإيطالية، أو الفارسية؛ لأننا لسنا محاطين بدول تسودها هذه اللغات، وإنما غالب من حولنا دول عربية، وهي عمقنا الاقتصادي، بل والأمني، والثقافي، ولا يمكن الفصل بين هذا الثلاثي من المصالح، إذ لا يمكن أن نرى في المحيط العربي عمقا اقتصاديا لنا دون أن نرى فيه عمقا ثقافيا وأمنيا، والعكس صحيح، وإلا اتسمت سياستنا في ترتيب علاقاتنا بالربك والاضطراب والتشوش في الرؤية كما هو الحاصل، وعليه فإن المفاضلة لابد أن تكون بين اللغة العربية وبين غيرها من اللغات العالمية المذكورة أعلاه، أما التجرنية فليست مؤهلة لأن تكون ضمن هذا التنافس، ومن ثم فإن سؤال المشكلة المفترض طرحه هنا لابد أن يكون محصورا على اللغة العربية وحدها دون التجرنية على النحو التالي: ما أهمية اللغة العربية بالنسبة لإرتريا في تحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية والأمنية بالنظر إلى محيطها الجغرافي؟

قد ثبت علميا أن الشعوب التي توحد بينها لغة واحدة تكون أكثر انسجاما فيما بينها من تلك التي تتعدد لغاتها، وإن هذا الانسجام اللغوي ينعكس بدوره في نموها الاقتصادي، واستقرارها السياسي بخلاف التباين اللغوي، ذلك أن الانتاج الصناعي كما يقول (جلنر) في كتابه (الأمم الوطنية): "يتطلب أساليب موحدة ومنظمة، كما يحتاج إلى سكان متحركين ومتجانسين، وعلى درجة عالية من التعلم، وهذه المتطلبات تعني استعمال لغة واحدة موحدة، عن طريقها يمكن أن يتواصل جميع أعضاء المجتمع الذين يشاركون في العملية الاقتصادية".

من غير شك يعي الرئيس إسياس أفورقي هذه المسلمة، لهذا نراه يسعى إلى جعل (التجرنية) هي اللغة الرابطة والموحدة بين جميع فئات الشعب الإرتري، وليست اللغة العربية، ولكن إن التجرنية وإن كانت إحدى اللغات المحلية بجانب اللغة العربية في المجتمع الإرتري لا يمكن أن تبلغ منزلة اللغة العربية في تحقيق أهداف اقتصادية عليا، لكونها محدودة التداول، فقيرة في ذاتها، مجهولة في محيطها الجغرافي، لا يتجاوز نطاق استعمالها إقليميا حدود التجراي، ومحليا جبال الهضبة، مهما قيل الآن من انتشار التحدث بها محليا في ظل سياسة الجبهة الشعبية المنحازة ضد اللغة العربية، وهو انتشار سطحي لا عمق ولائي له، ذلك أن ضمان سيادة اللغة أيا كانت ليس هو انتشار النطق بها وفرضها بقوة السلطان في أوسع رقعة جغرافية، وإنما هو بالدرجة الأولى والأساسية في ولاء مستخدميها لها من خالص قلوبهم، وهو الأمر الذي تفتقده التجرنية حسب تقديري عند أكبر جزء من مجتمعنا لكونها أضحت لغة السلطان الوحيدة، بقوة السلطان الوحيد، المتفرد بتحديد خياراته الثقافية والسياسية والاقتصادية، ثم إلزام الشعب بها بغض النظر عن قناعة هذا الشعب وإيمانه بهذه الخيارات المفروضة عليه.

ومع أن إثبات صحة هذا التقدير من عدم صحته يحتاج إلى استبانة تقيسه في دراسة ميدانية على عينات مختارة من الشعب، أو من خلال استفتاء شعبي ـ وهذا ما لا يمكن تصوره في ظل نظام الجبهة الشعبية فضلا عن القيام به عمليا ـ إلا أنه يظل هو التقديرالأقرب إلى الواقع والصحة، بناء على ما أظهرته الأوراق والمناقشات التي قدمت في المؤتمر الذي نظمته في مارس 1997م كل من وزارة التعليم والجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة وفقا لما نقله إلينا أبو عري.

وعند مقارنة أهمية التجرنية بأهمية اللغة العربية في تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب الاقتصادية لا بد أن تكون النتيجة تفوق اللغة العربية التي تعد لغة عالمية في ذاتها، واسعة الانتشار عالميا، وعميقة الوجود إرتريا، إذ تربط إرتريا بمحيطها العربي، حيث السودان برقعته الواسعة، وثقافته العربية، وسوقه العريض، وتداخله البشري، وحدوده الجغرافية الملاصقة، وكذلك اليمن، والخليج العربي بمدخراته النفطية، وثرائه المميز، من هنا لا بد أن تكون هي وحدها المؤهلة في تحقيق التجانس اللغوي في المجتمع الإرتري، ومن ثم الرخاء الاقتصادي، والازدهار العمراني بالانفتاح على أوسع رقعة عربية غنية بإمكانات اقتصادية هائلة، تحتل فيها اللغة العربية من مساحات العمل والإنتاج ما يستحيل على التجرنية الاقتراب منه، تماما كاللغة الإنجليزية في كندا مقابل اللغة الفرنسية، حيث فضل "ثلاثة ملايين ونصف مهاجر إلى كندا بعد عام 1945 تعليم أبنائهم باللغة الإنجليزية التي تفتح آفاقا وظيفية في شمال أمريكا أوسع بكثير مما تفعل اللغة الفرنسية".

في هذا دلالة على أن اللغة بتأثيرها الإقليمي في محيطها الجغرافي تلعب دورا بارزا في نهضة الشعوب الاقتصادية، ويعد هذا الدور من أهم ما يحفز الآخرين على الإقبال عليها، واللغة العربية هي من يقوم بهذا الدور بالنسبة لنا نحن الإرتريين ـ وليس التجرنية ـ ومن الضروري أن تكون اللغة الإنجليزية بحكم أنها لغة عالمية أيضا رفيقتها في تأهيل الطالب الإرتري لدخول سوق العمل في المحيط الجغرافي الذي هو فيه، والذي يمثل بالنسبة له عمقا اقتصاديا لا يمكنه بأي حال من الأحوال الاستغناء عنه.

فهل بالإمكان أن يعي هؤلاء الرافضون شرعية اللغة العربية الدستورية وحقها الثقافي والتعليمي هذه الحقيقة ويسلموا بها لا سيما بعد أن أشارت إليها ورقة السفير بادوري أحد رجالات النظام؟

هذا ما نأمله ونرجوه فهل من سبيل إلى رؤية أثره قريبا؟!!.

Top
X

Right Click

No Right Click