اللغة العربية في ظل نظام الجبهة الشعبية هل تستعيد مكانتها بعد تهميش متعمد؟ الحلقة الثانية
بقلم الدكتور: جلال الدين محمد صالح
يرفض كثير من الإرتريين مقولة الرئيس إسياس أفورقي في صحيفة (إرتريا الحديثة) العدد الخامس 1995م، من أن اللغتين
"العربية والتجرنية تم استخدامهما في إرتريا إبان الانتداب البريطاني الذي استهدف من وراء ذلك شق المجتمع الإرتري إلى كتلتين إلى منخفضات ومرتفعات، ومسلمين ومسيحيين، وإلى عرب وتجرنيا".
ليس مقبولا بأي حال من الأحوال من مسؤول على مستوى الرئيس إسياس أفورقي تحليل إرادة الشعب الإرتري كله أو جانب منه كبير في تحديد دوافع خياراته الثقافية من خلال سياسات المستعمر ومكايداته فقط دون استصحاب نمط تكوينه الثقافي، وشكل تركيبه الحضاري، وأصول تراثه الفكري، والعقدي، وإلا فإن المعيار الاستعماري نفسه يصلح لأن يكون في الوقت ذاته منطلق تحليل وتفسير دوافع سياسات الجبهة الشعبية السلبية نفسها من اللغة العربية، وعندها تبقى المسألة مجرد تبادل تهم لا معنى لها.
من هنا يخطئ الرئيس إسياس أفورقي خطأ فادحا في تاريخه النضالي حين يتخذ قرار تهميش اللغة العربية بناء على تحليله هذا، وحين لا يعير أدنى إهتمام لتساؤلات الشعب الإرتري حول دواعي وأسباب تهميش اللغة العربية، بحجة أنها تساؤلات ـ كما يقول الرئيس: "ناجمة عن تراكم المفاهيم السياسية الندية التي عمل الإنجليز على تكريسها منذ خمسين سنة".
الملاحظ في الرئيس إسياس أنه يجابه تساؤلات الشعب عن اللغة العربية بنبرة غاضبة ونفس ثائرة ومتوترة، هي إلى الزجر والاستفزاز أقرب منها للحوار.
وفي حين أنه يحيل أمر إثارتها تارة إلى التأثر بسياسات الإنجليز التفتيتية، وتارة إلى عوامل اللجوء وتأثر شعبنا على حد تعبيره (بثقافات أخرى) نراه عندما يتحدث عن دوافع استخدام نظامه للغة العربية في جوانب محدودة من نشاطاته يقول: "نحن ندرك من هم جيراننا، وندرك الروابط التاريخية والثقافية التي تربطنا بهم، ومن أجل ذلك نتبنى هذه السياسات، وظللنا نعتمد اللغتين في معظم الأوقات".
فإذا كنا ندرك إرتباطنا مع جيراننا العرب بروابط تاريخية وثقافية، فما المانع إذن من أن يكون هذا الإدراك هو دافع من يلح على تفعيل اللغة العربية وعدم تهميشها أو تجميدها في حياتنا السياسية والثقافية، وتكرار المطالبة بذلك عند كل لقاء؟
وما المانع من اعتماد هذا الإدراك معيارا لتفسير هذا الإلحاح بدل المعيار الاستعماري؟ ثم كيف يمكن أن نوفق بين تفسير الرئيس إسياس أفورقي للمواقف المطالبة باللغة العربية بأنها وليدة (أزمة هوية) والتأثر بثقافات أخرى فرضها عامل اللجوء قبل التحرير وبين إقرار سيادته بهذا الارتباط التاريخي والثقافي مع الجوار العربي؟ !!
هذا التفكير من الرئيس إسياس أفورقي على ما فيه من تناقض وتضارب وغرابة، فإنه غير دقيق من الناحية العلمية، ويتنافى كليا مع الحقائق التاريخية التي أجمع عليها المؤرخون، وأورد السفير (هيجي) بعضا منها في ورقته المقدمة إلى ندوة وزارة التعليم، مقتبسا إياها من المصادر التي استعان بها، لعلها تقنع الرئيس قبل غيره، حيث قال(هيجي): " تشير بعض الكتب التاريخية الى دخول اللغة العربية هذه المنطقة قبل دخول المسيحية اليها، والبعض منها يربط دخول اللغة العربية بوصول المبشرين المسيحيين من أرض الشام الى هذه المنطقة ".
ومعنى هذا أن جذور اللغة العربية في هذه البقعة من القرن الأفريقي المعروفة حاليا بـ(إرتريا) أعمق بكثير من وجود المستعمر الإنجليزي أو الإيطالي فيها، وان سكانها عرفوا اللغة العربية وتعاملوا معها وتثقفوا عليها منذ وقت أبكر من الوجود الاستعماري فيها.
ليس أدل على ذلك من الوثيقة التي حررت عام 1925 في العهد الإيطالي باللغة العربية من الساحل الشمالي إلى كرن والموقعة من الإيطالي (غاسبرين).
بل كانت اللغة العربية أيسر وسيلة تفاهم وجدها المستعمر في التواصل مع السكان يوم دخل البلاد، ليس بمثقفيهم فحسب، وإنما أيضا برعاتهم، حيث حكى لنا (نايدل) مؤلف كتاب (التركيب السكاني في إرتريا) قائلا: " اضطر واضع هذا الكتاب ـ يعني نفسه ـ أن يقوم بدور ترجمان مزدوج في لقاء جمعه في (أكلي غزاي) برعاة من التجري ومزارعين من التجرنية، فكان يتكلم بالعربية مع رعاة التجري، وبالإيطالية مع مزارعي التجرنية " ص 16.
ويذكر نايدل في الكتاب نفسه أن اللغة العربية تستخدم كلغة ثانية عند مجموعات وأفراد من القبائل التي اعتنقت الدين الإسلامي، وقد أخذوها عن طريق بلاد العرب أو السودان، كما أنها أصبحت اللغة الشائعة الوسيطة في الأحياء الإسلامية في المدن الإرترية وخاصة تلك الواقعة على ساحل البحر الأحمر " ص 18
ويذكر مؤرخ شرق السودان(ضرار صالح ضرار) في كتابه (هجرة القبائل العربية إلى وادي النيل مصر والسودان) إن الحروف العربية كانت الأحرف المعتمدة في كتابة لغة التجري "فكثيرا ما كان يكتب أهل مصوع لأهلهم وذويهم سواء أكانوا في إرتريا أيام الحكم العثماني أو المصري الخديوي أو الإيطالي، وكانت تصل هذه الرسائل إلى ذويهم في بورتسودان، وسواكن وعقيق، فيقرؤونها بسهولة... فعرفوا الأحرف العربية، وأخذوا يستعملونها في كتابة هذه اللغات السامية " ص 614
ومن هذا العمق التاريخي للغة العربية بقيت صلة جزء كبير من الشعب الإرتري بها قوية، تزداد قوة ومتانة عبر مدار التاريخ، بالرغم من المحاولات التي جرت وما زالت تجري لإضعافها في نفوسهم، وفصلهم عنها كليا بشتى السبل الممكنة وغير الممكنة، وتحت أكثر من عنوان وشعار.
وما زالت لغة تدوينهم الوثائقي هي اللغة العربية حتى الآن منذ قامت لهم صلات ثقافية وعقدية بمواطنها ومراكزها في الجزيرة العربية، حيث زبيد في اليمن، والحرمين في بلاد الحجاز، والأزهر بمصر، وحديثا السودان بجامعاته ومعاهده المتعددة، حتى الكنيسة الحبشية حفظت للغة العربية سلطانها الديني، إذ كان القساوسة الأقباط المبتعثين إليها من الكنيسة القبطية بمصر يتلون تراتيلهم الإنجيلية باللغة العربية، وما الجئز التي ما زالت حتى اللحظة لغة الكنيسة في إرتريا إلا أصل من أصول اللغة العربية.
من هنا يمكن القول وبكل جزم: إن الإنجليز ليسوا هم من ربط الشعب الإرتري باللغة العربية، وإنما أصالة اللغة العربية وعمق ارتباطها بالتاريخ الإرتري هو الذي ربط الشعب الإرتري بها، وإن تشبث جزء كبير منهم باللغة العربية يعود إلى أصالة هذا الارتباط وعمقه ومن ثم الإحساس بأهميتها وضرورتها في تشكيل الهوية الإرترية، ولا يعود بأي حال من الأحوال إلى ما أسماه الرئيس إسياس أفورقي بـ(أزمة هوية) !!.
هذا ما عبرت عنه مذكرة الرابطة الإسلامية التي رفعت إلى (ما تينزو) في 10/10/ 1951 ردا على وزير خارجية إثيوبيا (إكليلو هبتي) حين طالب باعتماد الأمهرية لغة رسمية للبلاد مدعيا أنها (اللغة الأم).
من المفترض أن تعتز قيادة الجبهة الشعبية بهذا الموقف الوطني من اللغة العربية، وتجعل منه عامل تعزيز التلاحم الوطني بدل أن تشذ عن الإجماع الوطني بتنظيرات لا قبول لها في مجتمعنا أفرزتها ضغوطات نفسية، ومخاوف حضارية لا مبرر لها، ومن الإجحاف والشذوذ أن تنعته على لسان رئيسها بـ(أزمة هوية) وتصوره على أنه مجرد (مفاهيم وتفكير سياسات تقسيم المجتمع إلى كتلتين)!!.
هذه نظرة في منتهى الضيق والسطحية، وتثير كثيرا من الشكوك، ما أظنها تجدي في حل المشكلات الثقافية، وعلى قيادة الجبهة الشعبية إعادة النظر فيها بكل تحرر.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ليس بالضرورة أن تكون لغة الثقافة سبيلا إلى التجرد من لغة الأم والقوم أو التنكر لها، فكم من شعوب اعتمدت الفرنسية أو الإنجليزية لغة ثقافة لها من غير أن تتنكر للغاتها الأصلية، فعلى سبيل المثال اختارت الهند عام 1947 اللغة الإنجليزية وسيلة اتصال قومي، ومثلها نيجيريا في أفريقيا، كذلك السنغال نموذجا للدول الأفريقية المتحدثة بالفرنسية لغة رسمية للبلاد.
على كل إن الأمر جد خطير حين تبلغ السلبية من اللغة العربية إلى حد توعد قطاع كبير بالنفي من أرضه ووطنه بتهمة (تكريس المفاهيم التقسيمية)؛ لأن تهديد الآخر بسلب المكانة الوطنية سيؤدي لا محالة إلى سلب الوطن من الجميع.
اللغة العربية والرشايدة:
وفي سبيل إثبات دعوى استخدام اللغة العربية من الإنجليز بغرض تقسم الإرتريين وضرب وحدتهم " إبان الانتداب البريطاني الذي استهدف من وراء ذلك شق المجتمع الإرتريري إلى كتلتين... " ـ كما يقول الرئيس إسياس أفورقي ـ يحاول حملة هذه الرؤية حصر اللغة العربية على (الرشايدة) وحدهم لتكون حبيسة خيمهم، ولترحل معهم حين يرحلون، أو تستقر باستقرارهم في مضاربهم فقط ومدارسهم فقط !!.
هذه مغالطة كبرى لا أرى لها من مبرر غير النزعة الشيفونية التي تود أن تتجاهل الرصيد الحضاري الهائل للغة العربية الضارب في أعماق التاريخ العلمي والفكري والثقافي الذي امتد من بغداد شرقا إلى الأندلس غربا، والذي يغطي اليوم مساحة كبيرة من محيطنا الجغرافي الذي نحن على تداخل وثيق معه، ثقافيا، واقتصاديا، وأمنيا، لا نستغني عنه ولا يستغني عنا، وله وزنه الكبير في الإثراء الفكري والأدبي لمختلف الفنون والعلوم الإنسانية وغير الإنسانية في عالمنا اليوم، حيث تعد اللغة العربية أحد أبرز اللغات العالمية وأهمها، وقد نوه السفيران (هيجي) و(بادوري) إلى هذه الحقيقة في ورقتيهما عسى أن يكون لتنويههما هذا أثر في تغيير قناعة الرئيس للارتقاء بهؤلاء المتأثرين بتنظيره إلى ما فوق هذا التفكير المتدني.
إنها بحق مغالطة كبيرة تكشف عن أزمة ثقافية حادة ما زال قطاع كبير من مثقفي التجرنية للأسف عاجزا عن التخلص منها وخاضعا كل الخضوع لتأثيراتها الضارة ذات الانعكاسات السلبية على الوحدة الوطنية.
أضف إلى ذلك إنها أكذوبة تفندها الحقائق التاريخية ولكن ـ مع ذلك ـ دعنا نسلم بها جدلا ونقول: لا بأس لتكن العربية كما تودون لها أن تكون لغة (الرشايدة) أو لغة غيرهم، لكن المهم في الأمر إن ذلك لا يمنع الآخرين ممن هم ليسو بـ(رشايدة) من اختيارها لغة ثقافة لهم، فإنها في نهاية المطاف إحدى اللغات الوطنية باعتبار الرشايدة فئة من فئات المجتمع الإرتري ومجموعاته اللغوية، وهذا يكفل لها حق التساوى مع سائر اللغات بموجب دستور الجبهة الشعبية الذي ينص على تساوي اللغات!!
وعليه، يجب أن تتمتع اللغة العربية كما يتمتع غيرها من اللغات الإرترية بحق التنافس في شتى الميادين الثقافية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، ومن حقها أن تحظى بقبول غير الناطقين بها لغة لهم مثلها في ذلك مثل (التجرنية) و(التجري) ومن حق الراغبين فيها والمعجبين بتراثها الأدبي، والمعتقدين بعظمتها اختيارها لغة لهم لأي سبب كان، فلماذا إذن تعمد تهميشها وإخلاء السبيل للتجرنية وحدها؟!!.
هل بالإمكان أن تمحو ورقتا السفيرين (هيجي) و (بادوري) مثل هذه المغالطات على نحو يرضي المجتمع ويلبي رغباته الثقافية والتعليمية من تلك العقول التي ابتليت بها، وبدورنا ابتلينا نحن بتحكمها علينا، وتسنمها سدة صنع القرار في حكومة الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة؟!!
ذلك ما نرجوه، ولكن دعنا نتظر ونترقب، فالقدر ما زال بين الأثافئ يغلي، والملعقة وحدها تبين ما في داخله، على قول المثل العامي الشهير (اللي في القدر تبينه المعلقة)!!.