مستقبل علاقة ارتريا مع إقليم تغراي - الجزء الثاني
بقلم الأستاذ: ياسين محمد عبدالله - باحث وكاتب صحفي
خلافات ما بعد الدولة بين الشعبية والتغراي: وافقت جبهة تغراي التي تسلمت السلطة في أديس أبابا
على الاستفتاء على استقلال إريتريا وقد كانت موافقتها مهمة جداً ليحصل هذا الاستفتاء على الشرعية الدولية. لم يكن لدى الوياني خيارا آخر سوى الموافقة على الاستفتاء فقد كانت في حاجة ماسة للجبهة الشعبية لتأمين سلطتها في البلاد كما كان من مصلحتها الاستراتيجية وجود إريتريا المستقلة.
حكى لي قيادي سابق في الجبهة الشعبية أن أحد قيادات الوياني أدلى بتصريح فُهم منه إنه ضد الاستفتاء في إريتريا الأمر الذي أغضب أسياس أفورقي وفكر في منع إثيوبيا من استخدام مينائي إريتريا لكن بعض المقربين منه اقترحوا عليه إرسال وفد لمعرفة رأي ملس زيناوي حول ما صرح به ذلك القيادي.
أرسل أسياس وفداً إلى أديس أبابا والتقى الوفد بملس زيناوي. أبدى ملس استنكاره لتصريح ذلك القيادي وقال للوفد الإريتري أنهم يؤيدون الاستفتاء بجانب مستحق لشعب إريتريا،فان من مصلحتهم كتغراويين وجود إريتريا المستقلة فهم قد يضطرون، إذا تغيرت الظروف لغير صالحهم في أديس أبابا، للعودة إلى إقليمهم والنضال منه وعندها سيحتاجون الدعم الإريتري.
بعد تسلم كل منهما السلطة في بلده، برزت مشاكل من نوع آخر بين الجبهتين إضافة لتلك الموروثة من فترة النضال المشترك وما قبلها. كانت أهم المشاكل الموروثة هي تلك التي حول الحدود، التوجهات السياسية الداخلية المتباينة والمشاعر السلبية المشتركة للنخب في التنظيمين كل تجاه الآخر والموروثة من فترات تاريخية قديمة.
كان قادة التغراي يعتقدون أن قادة الشعبية يتعالون عليهم بسبب أسبقيتهم في النضال وخبرتهم والدعم المادي والفني الذي قدموه لهم. كما كان هناك اعتقاد لدى بعض نخب التغراي، حتى قبل إطلاقهم الكفاح المسلح، أن بعض سكان الهضبة الإريترية ينظرون إليهم نظرة استعلائية مثل نعتهم لأي قادم من تغراي بالعقامي وهي مفردة يقصد منهم التقليل من شأن هؤلاء القادمين الذين كانوا يأتون إلى الهضبة الإريترية من محافظة عقامي ويعملون بأجور زهيدة في الإقليم وعند تطور الخصومة بين الجبهتين صار البعض في الشعبية يطلق هذه الصفة على جبهة التغراي.
بدورهم كان الوياني يطلقون على الجبهة الشعبية وصف (شعبية) كرد على نعتهم بالعقامي وقد سُئل أسياس أثناء الحرب عن سبب إطلاق الوياني على تنظيمه وصف شعبية فرد ساخراً إنهم يعتقدون أنها شتيمة.
وذكر أحد الكتاب من تغراي (مدهني تدسي) في كتاب له عن النزاع بين إريتريا وإثيوبيا أن الطلاب الإرتريين في جامعة أديس أبا كانوا يتعالون على طلاب تغراي ويقولون للطلاب من القوميات الإثيوبية الأخرى إنهم أكثر تحضراً من التغراي وأن لهجتهم التغرينية هي الأصل.
وفي إشارة ذكية لمدى للتباعد بين الجبهتين ذكر الكاتب الإسرائيلي حجاي إرليخ أن أحد قادة الشعبية قام عند تحرير دوقالي في 1989 بتدمير تمثال رأس الولا القائد التغرواي الشهير الذي كان الإمبراطور يوهنس الرابع قد عينه حاكماً على حماسين بينما كان اسم أول وحدة عسكرية من قوات تغراي تدخل أديس أبابا في مايو 1991 تحمل اسم راس الولا.
يمكن تلخيص المشاكل الجديدة بين التنظيمين في السياسات الاقتصادية المختلفة والتنافس الاقتصادي والتنافس على النفوذ والمكانة الإقليمية لكل من الجبهتين. في تلك الأجواء المشحونة استولت وحدات من الجيش الإريتري على منطقة بادمي في مايو 1998 لتنطلق بعدها حرب مكلفة بشرياً ومادياً.
حتى مايو 1998، كان العالم الخارجي يعتقد أن الأمور البلدين تسير بصورة جيدة حتى أن زعيميهما اعتبرا ضمن القادة الجدد في إفريقيا. لم يمض وقت طويل حتى اكتشف العالم الحقيقة المؤلمة؛ أن الجبهتين وزعيميهما لا يمثلان سوى أسوأ ما في الماضي من كراهية ورفض القبول بالآخر أو حتى إنكار وجوده. اعتبر المراقبون حرب 1998 في حقيقتها حربا بين الهضبة الإريترية وإقليم تغراي في إثيوبيا أو إنها بين الجبهتين؛ الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا وجبهة تحرير شعب تغراي وهذا بالطبع يعود لقراءة أسبابها، خلفياتها والقوى المسيطرة على القرار في البلدين.
شكل تاريخ اندلاع القتال بين البلدين بداية عملية طويلة من الاقتتال، الأعمال الانتقامية المتبادلة وحرب الوكالة والمكايدات والتي استمرت لـ 20 عاماً.
انتصرت الوياني عسكرياً في الحرب باستخدام الموارد الكبيرة نسبياً التي وفرتها لها الدولة الإثيوبية لكن سيتضح لاحقاً أن هذا الانتصار كان على حساب هيمنتها، على الأقل، على الجيش من الناحية العددية. راهن أسياس على انقلاب القوميات الإثيوبية على التغراي واقتلاعهم من السلطة لكن رهانه لم يتحقق حيث توحد الإثيوبيون ضد ما اعتبروه غزواً لأراضيهم لكن ما أراده أسياس تحقق على المدى البعيد فقد أسهمت الحرب في إضعاف هيمنة التغراي على الجيش.
عندما دخلت قوات الجبهة الثورية لشعوب إثيوبيا أديس أبابا كان قوات الوياني تشكل حوالي 90% منها وقد بدأت هذه النسبة تتناقص بسبب الحرب مع إريتريا في 1998 حيث اضطرت الوياني لتجنيد أعداد كبيرة في الجيش من القوميات الأخرى وإن احتفظت بنسبة عالية في الرتب العليا لا تتناسب مع النسبة السكانية التي تدعي تمثيلها.
لم تقبل الوياني بحكم مفوضة الحدود الدولية التي حكمت بتبعية المنطقة الأهم (بادمي) لصالح إريتريا وإن لم تصرح علناً برفضها له. بعد انتهاء الحرب رسمياً استمر كل من التنظيمين في استهداف الآخر. حققت الجبهة الشعبية لتحرير إرتيريا بعض الانتصارات التكتيكية حيث نجحت المعارضة الإثيوبية المسلحة التي كانت تدعمها في شن بعض الهجمات داخل بلادها وشكلت إلى حد ما بعض التهديد للاستقرار لكن هذا التهديد لم يضعف من هيمنة التغراي على السلطة. وحققت الوياني انتصارات دبلوماسية على الشعبية.
على الرغم من عدم قبولها الصريح بقرار التحكيم الدولي بخصوص الحدود، لم يمارس المجتمع الدولي أية ضغوط عليها بل إنها تمكنت من توظيف دبلوماسيتها بنجاح ضد نظام الشعبية مستخدمة نفوذها على المنظمات الإقليمية، خصوصاً الاتحاد الإفريقي والإيقاد ومستغلة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبها نظام الشعبية في إريتريا وسياساته الإقليمية المتهورة.
بجانب خسائرها البشرية والمادية الهائلة، تسببت الحرب في انقسامات داخلية في أي من التنظيمين. سأتناول في الجزء الثالث تأثير الحرب على أي منهما وطريقة معالجته للمشكلات التي تسببت فيها.
تـابـعـونـا... في الجزء القادم