التاريخ ونسق الحقيقة نموذج يوهنس وهيلي سيلاسي
بقلم الأستاذ: فتحي عثمان - كاتب ومدير قسم العربي اذاعة ارينا باريس ودبلوماسي ارتري سابق
من قراءة العنوان قد يخطر في ذهن القارئ أن المقال سوف يثير موضوعا تاريخيا أندثر ولا حاجة له اليوم.
لكن مناقشة الإمبراطورية الاثيوبية والأباطرة الاثيوبيين مهم اليوم أكثر من أي وقت مضى لأسباب سأرجع لها لاحقا.
ولتسلسل خيوط الكلام نبدأ من موضوعنا السابق. ابتدئ بإشارة لا بد منها وهي أن النص المكتوب يحتمل قراءات "متعددة" وقد يصفها البعض باللانهائية، لأنه يشير ضمن تراكم القصديات إلى المصرح به والمتضمن أو المسكوت عنه في آن واحد. فعلى سبيل المثال المتناول المتداول فإن تأكيد الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم على أن المسيح وأمه بشريين "كانا يأكلان الطعام" ينطوي على بعدين الأول هو أن أبدانهما لا تقوم إلا بالمآكل والمشارب، وهذا مصرح به واضح. ولكن المسكوت عنه تأدبا وتمسكا هو أن المسيح وأمه كائنان بيولوجيان يأكلان الطعام فيهضمانه وما فاض منه يطرحانه كسائر البشر، وهذا مسكوت عنه متروك حسب آلية "الإتاحة" للقارئ. إذن للنص قصديات مصرح بها وأخرى مسكوت عنها تفكك وتؤول وصولا إلى القصد الكبير، وهو ما أشرنا إليه في المقال السابق. وفي هذا يقع إشكال كتابة التاريخ كله كما أشرنا من منظور تفسير الواقعة الذي لا ينفصل عن "ممكنات" ولا "ممكنات الراوي". ولنستخدم هذا المدخل وإمداداته المتفرعة في تناول موضوع العنوان، ثم نمضي قدما.
الإمبراطورية الاثيوبية مثل أغلب الامبراطوريات عبارة عن "سجن كبير للشعوب". والفضل هنا يسجل، إن عددناه فضلا، ليس لمؤسس الإمبراطورية بل للذي حافظ على بقاءها، فالتفكك هو المصير الذي تفر منه الامبراطوريات. والذي ينشئها يكابد في صنعها ولكن الذي يحافظ عليها يكابد أكثر. واثيوبيا كانت ثالث ثلاث امبراطوريات تليدة: وهي اليابان التي يعود تاريخ سلالتها الحاكمة إلى ما يزيد عن ألف سنة. والامبراطورية الفارسية التي حكمها آخر اباطرتها شاه إيران محمد رضا بهلوي الذي ينحدر من قورش الذي أسس امبراطورية عرش الطاووس قبل الفي عام.
وبما أن التقادم والقوة هما أساس شرعية الامبراطوريات السياسية فإن اباطرة اثيوبيا كانوا واعين لهذا العامل الذي يؤسس للشرعية السياسية فقاموا ببناء الإمبراطورية على ثلاث أسس هي: النظام الاقطاعي العسكري، المسيحية الارثوذكسية وثالثا: الأسطورة السليمانية.
وهنا أود التأكيد على أنني لست "بحرا" في التاريخ الاثيوبي ولكن، على الأقل أعرف ما أتحدث عنه. ولقد سنحت لي فرصة تناول هذا الموضوع بتوسع في كتاب "ارتريا والشرعية السياسية: مقال في التفسير السياسي." وكلمة التفسير تنبئ بطريقتي في أن ما أقدمه هو تفسير لوقائع محددة وفقا للشروط المذكورة في المقال السابق ولكنها في نفس الوقت محكومة بمعطيات العلم الموضوعية المتاحة. كل واحد من العناصر الثلاثة الداخلة في تكوين الإمبراطورية يحتاج إلى مجلدات، ولكن نكتفي هنا بالإشارة ومن يريد الاستزادة فإن المراجع التاريخية في هذا الشأن لا تحصي ولا تعد.
بالنسبة للشق للاقتصادي حكم البلاد حكام يسمى الواحد منهم ب "الراس" ويخضع بدوره بعنف لسلطان أقوى هو الامبراطور وتاريخ العلاقة بينهم حتى بداية القرن الحالي هو تاريخ حروب ودمار دسائس. أما الركن الثاني وهو المسيحية فقد تمثلت في الكنيسة القبطية التي عضدت الشرعية السياسية للدولة وأكسبتها طابع القداسة ثم أمسكت بزمام السلطة الروحية دون منازع، وضمت إليها سلطة زمنية محدودة تمثلت في حيازات كبيرة من الأراضي والريع والتحالف مع السلطة السياسية. أما الاسطورة فتم التأسيس لها في كتاب فتح نقست أو "مجد الملوك" وهو كتاب منحول من مصادر قديمة بعدة لغات منها العربية يؤكد على أن السلالة الحاكمة تنحدر من صلب النبي سليمان ويشار إليها بالسلالة السليمانية.
وحدد دستور اثيوبيا في عهد هيلي سيلاسي في مادته الثانية على أن الحكم في اثيوبيا يبقى في ذرية هذه السلالة حصرا. أحاط الإسلام بإثيوبيا بشكل يشبه "حذوة الحصان" أي من كل الجهات ما عدا ممر إلى جنوب السودان، فجعلها جزيرة مسيحية في محيط مسلم، وكان هذا مبعثا لحروب سببها الأساسي الاقتصاد والممرات التجارية البرية والبحرية ولكن دثارها الدائم كان هو الدين، ويدخل ضمن استراتيجيات الحرب تحويل الأعداء إلى دين الغالب، حتى يتم القضاء على الدين المقابل تدريجيا، وكانت هذه ممارسة كل ملوك اثيوبيا ولا تشمل اتباع الديانات الأخرى بل أصحاب المذاهب المختلفة في نفس الدين من كاثوليك وبروتستانت. وشكل حذوة الحصان دفعنا إلى إطلاق توصيف "عقدة حذوة الحصان" لوصف التوجس في المخيال الحبشي من الإسلام،وكان هذا التوجس سلاحا فتاكا استخدم ضد الثورة الارترية.
انقسمت اثيوبيا في التنازع السياسي إلى قسم شمالي موطنه إقليم تيغراي يقوم على شرعية اعتماد تاريخ حضارة أكسوم كمقوم للدولة، وقسم جنوبي يسيطر عليه الأمهرة يستند إلى الأسطورة السليمانية في استمداد شرعية حكم البلاد. وفي الصراع بين الطرفين كانت القوميات الأخرى إما مستعبدة أو بقاء شعوبها كمواطنين من الدرجة الثانية. وبالاعتماد على القوة كالعادة والدعم الكنسي والسند التاريخي لأكسوم حكم اثيوبيا الحاكم الشمالي الامبراطور يوهنس الرابع لمدة اثنين وعشرين عاما انتهت بمصرعه في نهايات العقد الثامن من القرن الماضي. وكالعادة كان له جنرالات أطلق أياديهم في توسيع حكمه في الوسط والجنوب والجنوب الشرقي حيث سلط الراس الولا على الشمال وأطلق يد منليك في الجنوب.
وقام حكمه على توسيع سيطرته على اثيوبيا من اجل الحصول على الثروات لشراء ولاءات الحكام المتمردين او محاربتهم، ثانيا نشر المسيحية لاعتبارات ايمانية وتكفيرية وفي هذا يشير الكاتب مصطفى طه إلى أن يوهنس حمل شعورا قاتلا بالذنب والخطيئة بسبب معاشرته زوجة أخيه وإنجاب طفل منها، مما دفعه إلى إرضاء الكنيسة بأي شكل كان، ويضاف هذا إلى الأسباب الاقتصادية والسند الديني للشرعية السياسية في تحالفه مع الكنيسة. وحتى نفهم توسعه نستشهد بالمؤرخ هيربرت ماركيوز الذي يشير إلى أن منليك في عام 1881 قدم له من ضمن فروض التقدمات 600 رأس من البغال والخيول وما يعادل قيمته ثمانين ألف دولار اثيوبي من المصنوعات القطنية، وخمسين الفا أخرى من النقد وما يعادل قيمته خمسين ألف دولار من الحبوب.
انتزع يوهنس هذه المقادير وما يزيد عنها بشكل سنوي من جنراله وخصمه العنيد والأقوى منليك والذي سوف يصبح بعده ملكا ملوك اثيوبيا بعد هلاك الأول في معركة ضد أنصار المهدي. على صعيد التنصير كان للرجل اشتهر الرجل بارتكاب فظائع ضد المسلمين إذ شردهم ونكل بهم وانتزع منهم الأرض وقطع أثداء النساء ووسم بالصليب في الجبهة من بقي منهن على قيد الحياة. وهو تاريخ أسود وفظاعات لا زالت الذاكرة الجمعية تستدعيها عند ذكره. لكنه في بطشه وجبروته وتسلطه ما ابتدع جديدا في اثيوبيا، فالملك لبنا دنقل أخضع سياسيا ممالك الطراز الإسلامي في الصومال وألزمها بدفعة جزية سنوية إلى كرسي عرشه في عاصمة ملكه وكانت تتقدم قوافل الجزية المفروضة فتاة مسلمة عذراء يتخذها خليلة له وعادة ما كانت هذه الفتاة ما تكفن ويصلى عليها صلاة الجنازة وترسل إلى الملك لعلم أهلها بأنها لن تعود أبدا.
أما الراس الولا فحتى وقت قريب كان الأطفال يخوفون به في ارتريا لفظاعاته التي ارتكبها في البلاد. التاريخ السياسي لإثيوبيا لا ينفصل عن العنف والتطرف والإبادة. ودعونا نجري مقارنة سريعة بين يوهنس وهيلي سيلاسي لنرى الجرائم والفظاعات التي ارتكباها مع التأكيد بأن سياق المقارنة ليس هو سياق مفاضلة، إذ لا مفاضلة بين السيئين، ولا تبرير لجرائم المجرمين ولكننا نهدف إلى الوصول إلى إجابة عن الأسئلة التي طرحناها سابقا حول يوهنس وجرائمه وإعادة إحياءها اليوم. فترة حكم يوهنس لتغراي واثيوبيا لا تتجاوز اثنين وعشرين عاما، قضى عشر سنوات منها بدون عاصمة محددة لمملكته، عاش بالسيف ومات به، وكان أميا لم يتلقى أي تعليم سوى تعليم كهنوتي بسيط ربطه بالكنيسة أكثر، فلذلك لم يستطع أن يرى أبعد من رقبة حصانه الذي قضى معظم ساعاته على ظهره يقتل هذا ويفتك بذاك. مداه الذي كان يفكر فيه لم يتجاوز حدود ما يصله جواده. عاش في سياق امتد إرثه من حروب "لوردات الحرب" أو ما يسمي في التاريخ الاثيوبي "بزمنا مسافنتي".
وكان السياق الذي يرتكب في جرائمه سياق احتراب واقتتال الغلبة فيه للسيف وليس للقانون عرفيا كان أو دوليا. لذلك كان غور جرائمه عميقا ولا زالت جراحه تمس الذاكرة، لأن البطش كان يقوده التعصب ولم يردعه رادع.
أما ملك الملوك هيلي سيلاسي فكان له شأن آخر لا تصله جرائم يوهنس وفظاعاته للاعتبارات التالية: أولا أن مدة حكم هيلي سيلاسي هي ضعف مدة حكم يوهنس، وهذا معناه أنه أصبح ملك الملوك الوحيد في اثيوبيا الذي دانت له كل الرقاب في البلاد بحلول عشرينات القرن الماضي. مقارنة بيوهانس وسابقيه يعتبر هو من أدخل عنصر الحداثة إلى البلاد، وسيرته التي كتبها المؤرخ اسفاوسن اسرات كاسا، تعتبر قصة حياة من داخل البيت الملكي وكل رواية لواقعة يجب قراءتها بحذر الناقد، لأن اسرات كاسا حاكم ارتريا السابق ووالد المؤرخ كان ابن عم للإمبراطور. وكما أشرنا أن هيلي سيلاسي أصبح "سجان الإمبراطورية بامتياز" فكل الشعوب التي تم قهرها في زمن الملوك السابقين وضعها هيلي سيلاسي وراء القضبان وأمن عليها بالمفتاح.
مقارنة بيوهنس كان هيلي سيلاسي متعلما حيث حصل على تعليم باللغتين الإنجليزية والفرنسية واعتمد على نخبة إدارية تربت على الثقافة الفرنسية. كانت بلاده عند تأسيس الأمم المتحدة ثالث دولة مستقلة في محيطها بعد السعودية واليمن. وكان هو قبلها اول زعيم افريقي يخاطب عصبة الأمم بعد غزو الطليان لبلاده وخلعه عن عرشه. ما هو السبب الذي يدفعنا إلى تقديم هيلي سيلاسي على يوهنس في مدى الجرائم والتأثير والعمق. أن كل جرائم يوهنس مهما بلغت فظاعتها، وهو أمر أؤكد على أنه لا يمكن التقليل منه حتى لا يتلقفه متلقف، لا ترقى في مداها وتخطيطها وضررها إلى جرائم هيلي سيلاسي التي لا زلنا ندفع ثمنها حتى اليوم، بينما أصبحت جرائم يوهنس أثرا من التاريخ يتم استدعاءها حسب الطلب سواء من عاشق له أو كاره له على السواء.
جرائم هيلي سيلاسي، خاصة في ارتريا، وبالتحديد مجازره التاريخية في حرقيقو واغردات وعدي إبراهيم وعونا وبسكديرا والمجازر الأخرى لم ترتكب عن طريق الحصان والسيف، بل ارتكبت بأحدث أنواع السلاح المستورد والمصرح له باستخدامه من الولايات المتحدة الامريكية. ولو جمعنا احصائيات بضحايا الحرب في ارتريا لوجدنا أن هيلي سيلاسي قد يكون قتل أضعاف الذين قتلهم يوهانس في عقدين من الزمان.
ثانيا استخدامه للدبلوماسية وللأمم المتحدة في تنفيذ جرائمه جعلها ترتبط بنسق منظم وهو ما تسميه الدكتورة روت أيوب بنسق الحقيقة "تروث سيستم". تستعين روث أيوب بتوصيف الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو والذي ربط التاريخ والمعرفة بالسلطة بالقول بأن لكل معرفة سلطتها ولكن سلطة معرفتها وهو استمداد لمفهوم نيتشه والذي طوره فوكو في دراساته التاريخية.
وكما أشرت في كتاب الشرعية فإن هيلي سيلاسي أنتج قوة ناعمة استخدمها ضد الثورة الارترية بناها على نسق الحقيقة الذي ولدته سلطته، وهو ما يجعل ضرره أكثر عمقا وتصميما من كل أضرار أسلافه فرادي ومجتمعين. اعتمد هذا نظام القوة الناعمة على ذراع داخلية تستخدم البطش، خاصة في ارتريا وأخرى خارجية تستخدم الدبلوماسية. وأركان هذه القوة الناعمة التي تغطي البطش المنظم هي أن اثيوبيا دولة افريقية معتدة بنفسها لأنها لم تستعمر أبدا من قوة بيضاء، ثانيا أنها أذلت الرجل الأبيض في معركة عدوا وأنها تعتمد مذهب مغاير ديني "المسيحية التوحيديةّ" توهادو "والتوحيد المقصود هنا هو توحيد طبيعة المسيح الإلهية والناسوتية حسب مقررات الكنيسية القطبية وليس توحيد الربوبية، مقابل الكنيسة الكاثوليكية الغربية الأكثر نفوذا وغنى في العالم.
وأن اثيوبيا هي الدولة الافريقية الوحيدة" في خمسينات القرن الماضي" التي لها لغة وطنية افريقية مكتوبة. وأنها كذلك بعضويتها الوحيدة في عصبة الأمم ومشاركتها في تأسيس الأمم المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية تعتبر نموذجا افريقيا يحتذي، وأخيرا اعتماد البعد الكاريزمي للإمبراطور للتسويق للقب رجل الدولة الافريقي "افريكان ستيتسمان" على المستوى الدولي كان هذا بمثابة شبكة أضواء الليزر المستخدمة لحماية اللوحات الثمينة في المتاحف والتي قيدت الثورة الارترية من تحقيق اختراق دبلوماسي في افريقيا على مدى عقدين كاملين او يزيد. وتوج نجاح القوى الناعمة ونسق الحقيقة الذي انتجه بوضع ميثاق منظمة الوحدة الذي كمم فم المناضل الارتري عند التعبير عن حقه القانوني في التحرر والاستقلال، وكوفئ الامبراطور بجعل عاصمة بلاده "عاصمة لإفريقيا".
فهيلي سيلاسي هو الذي أدخل فكرة الوحدة الافريقية في نسق نظام الحقيقة الذي اسسه للإخضاع والاستعباد، لأنه تفوق على أسلافه بكل ما ذكرنا سابقا. ولكن هل يؤسس هذا لتملك حق أخلاقي بأبوة أو الدعوة للوحدة الافريقية. بالنسبة للإرتري سيظل هذا المسعى مرتبط بأحقية وصدقية صاحب الادعاء، ولكن بالنسبة لأي افريقي آخر هو متربط بنسق الحقيقة الذي أنتج القوة الناعمة الاثيوبية، وهذا يحيل إلى اختلال السياق الافريقي نفسه إذ كان دعاة الوحدة وحضور قمم منظمتها هم من غلاة الذين تحولوا من التحرر إلى إلى الاستبداد مثل نكروما وهوافيي بوانيي وسيكو توريه.
وبعد هذه الجولة لنرجع إلى السؤال الذي بدأنا به لماذا يبعث يوهنس وفظائعه ويتم تجاهل هيلي سيلاسي وأنساقه القمعية المتطورة؟
رغم أن جرائم يوهنس توارت في تلافيف الذاكرة، لكن آثار جرائم هيلي سيلاسي يدفع الشعب الارتري خاصة وحتى اليوم ثمن استطالتها وامتداداتها.
أيضا ورغم ذلك يتم دفع يوهنس دفعا إلى واجهة المشهد السياسي تحديدا، وليس مشهد الذاكرة الجمعية، لسبيين الأول: أن المأفون الذي يقف وراء فكرة الأقازيان يعيده إلى الصدارة كرمز وكقدوة لجرائم مستقبلية مشابهة بحق المسلمين الارتريين، وهو الأمر الذي يثير الفزع والاحتمال الأكثر قتامة هو عودة يوهنس إلى الحياة بشكل آخر وأسم آخر.
ثانيا يعود يوهنس إلى صدارة المشهد من ناحية أخرى لاشتراكه مع اسياس افورقي في أن كليهما من تمبين، وأن فكرة تيغراي تقرنجة التي يتخوف منها المسلمين يرجح أن تجد تنفيذها في الواقع على يد هذا الرجل خدمة لأحلام يوهنس. وبينما يتم بعث يوهنس وإرث الكراهية والعصبية عنده، فإنه وبمقابل ذلك يقوم إرث تعصب وضيق افق في الرافضين لإرثه وتاريخه، عملا بمقولة الشاعر" ونجهل فوق جهل الجاهلين". إن استعادة الأقازيان ليوهنس لها مآربها وهي لا تخفى على أحد ولكن المآرب المستترة هي تحويل التركيز عن جرائم اسياس الحالية، بالإحالة إلى فظائع التاريخ تارة وبالتخويف من المستقبل تارة أخرى. أما الطرف المقاوم لبعث يوهنس ودفعه للمشهد لا يقاوم ذلك حزنا وتحسرا على ضحاياه وتصميما لانتزاع حقوقهم التاريخية، بل كمواجهة فرضها الأقازيان ببعث يوهنس.
وهل يعنى هذا عدم محاربة تطرف الأقازيان؟ يجب أن يحارب تطرفهم وفكرهم بحماس العقل وليس العاطفة، وهذه الكتابة أأمل أن تكون ضمن هذه الحرب، ولكن أوكد أنها يجب أن تكون حربا ليس بشروط جماعة الأقازيان أو أن تكون هي التي تحدد المعركة ومكانها وأشخاصها وموضوعاتها. لا زال الطرف المقاوم والرافض يحارب فكرة الأقازيان برد الفعل وليس بأخذ زمام المبادرة.
وهذا الذي يفسر حالة الهيجان التي تترافق مع أي ذكر ليوهنس. فبالنسبة للإرث الجمعي لتيغراي وكما يعبرون عنه أن المسلمين هم الذين قتلوا يوهنس، وهذا ما يعيد بعثه الأقازيان، وأن ذلك يؤكد على الاجتراح اللغوي الذي اشتقوه من واقعة هلاكه "اسلاماي يحرد إمبر آيفردن". وهذه الإرث الجمعي، الذي ينفخ الأقازيان الحياة اليوم، لا يغيره إشادة مؤرخ أو مدح مادح.
عندما كان يوهنس يفتك ويقتل كان يحمل الصليب بيد والسيف وسياق معرفته لم يتجاوز ما تعلمه في الكنيسة. أما في عهد هيلي سيلاسي كان البطش يتم والرجل يحمل في يده عصا القانون الدولي، وصليب الكنيسة وقلم المدرسة ومدفع الدبابة وصحائف المثقفين.
يتساءل الكثيرون عن جدوى الحديث عن هذا كله الآن وأقول أن سببه معرفة العدو والمعارك، وهذا أمر كان له ضرورته بالأمس وله ضرورة اليوم ولن تنعدم ضرورته غدا. ويترابط هذا مع كل ما سبق في القول بأن ملكي الشر هاذين تفوق ثانيهما على أولهما في انتاج بطش مؤسس على نظام ونسق حقيقة في سياق سلطة منتجة للمعرفة واستخدامها في القمع.
فإذا كان للرجلين نزوع شوفيني وسلطة منتجة لمعرفتها وبطش مؤسطر: فما سبل تفكيك العلاقات الداخلية لرواية "الاقازيان" وفقا للمنطق التحليلي التي أوردناه، أو حتى البدائل له، بدلا من الخوف من فزاعة شبح. هدم الانساق المعرفية لا يتم دون التعرف على الأقدام التي تقف عليها، وتبين العناصر المقومة للإمبراطورية الاثيوبية الغابرة واباطرتها وجرائمهم قد يصلح حقلا لتجريب معرفي يصلح في مواجهة حالة التعصب الشوفيني ومقاومتها على الاتجاهين المعادي والمقاوم.