الاجازيان من أين والى أين ؟ الحلقة الرابعة
بقلم الأستاذ: جهراي أدال - كاتب إرتري
الهجرة الثانية والكثيفة للتجراي الى ارتريا:
الموجة الثانية من هجرة التجراي الى ارتريا والتي أحدثت تغييرات جوهرية في التركيبة السكانية للمرتفعات الارترية،
كانت في عهد الاستعمار الإيطالي. حيث وفرت مشاريع البنية التحتية والتنمية الزراعية والصناعية التي شهدتها البلاد خلال العقود الثلاثة الأولى من الاحتلال الإيطالي فرص عمل لعشرات بل لمئات الآلاف من الإريتريين والأثيوبيين وبعض المهنيين والنخب المتعلمة من دول الجوار وخاصة السودان واليمن والسعودية.
وترافق هذا الزخم في تنفيذ المشاريع التنموية مع استقرار عشرات الالاف من الايطاليين والأوروبيين في ارتريا، وهجرة السكان من مختلف قرى المرتفعات الارترية الى المدن بكثافة كبيرة أدت الى إفراغ العديد من قرى حماسين واكلي قوزاي وسراي من سكانها الأصليين "الرستنياتات" أي الملاك الأصليين للأراضي بسبب انتقالهم الى المدن للعمل في المصانع والمزارع الإيطالية، وخدمة عشرات الآلاف من الأوروبيين الذين كانوا يعيشون في اسمرة وغيرها من المدن. وبلغ عدد الارتريين الذين التحقوا بالعمل في الجيش الإيطالي ومشاريع البنية التحتية والتنموية الى أكثر من 60 ألف حتى عام 1932م. (Edward Deniso, Eritrea the Bradt Travel Guide, 2007, 17)
وتضاعفت أعداد الارتريين والاثيوبيين المنخرطين في العمل، وكذا أعداد الايطاليين القادمين الى ارتريا بعد استيلاء الفاشيين على السلطة في إيطاليا، و شروعهم في تنفيذ مشاريع تنموية كبيرة ارتبطت بخدمة الاستيطان الإيطالي ومخططات التوسع الاستعماري. وقد تسبب هذا بضغوط هائلة على الأراضي الزراعية والسكنية وخاصة في المرتفعات الارترية، حيث صادرت السلطات الايطالية أراضي شاسعة لأغراض السكن وإقامة المنشآت الصناعية والزراعية.
فكان لابد لهؤلاء القرويين الذين انتقلوا الى المدن للعمل، من إيجاد قوى عاملة بديلة تعمل على استغلال أراضيهم الزراعية وتحرس بيوتهم وترعى حيواناتهم، فكان مصدر هذه العمالة إقليم التجراي. حيث انتقلت عشرات الآلاف من العوائل من تجراي الى قرى المرتفعات (ونحن هنا نتحدث عن عوائل وليس أفراد) الارترية واستقرت فيها. ويعرف هؤلاء بين سكان المرتفعات الارترية باسم "مأكلاي عليت " أي القادمين الجدد، وحسب الأعراف ليس لهم حق ملكية الأرض في المنطقة التي يستقرون فيها ولا حق استثمارها، الا بعد قضاء فترة زمنية اقلها عشرة سنوات.
ويقول تريفاسكيس بهذا الصدد "شهد الحكم الإيطالي بعد عام 1935م، عملية هجرة واسعة ودائمة من قرى الهضبة الى اسمرا وسائر المدن الارترية". تريفاسكيس ارتريا: مستعمرة في مرحلة الانتقال 1941-1952م.
وبشكل عام ارتفع تعداد سكان البلاد خلال أقل من عشرين سنة، (ما بين 1893م و1911م)، من 191,127 الى 331,431 نسمة وفقا ما أشار اليه (212، 2018 Steven Serels, Environmental History of First World War,)
بينما يشير الدكتور محمد خير عمر في كتابه "The Dynamic of an Unfinished African Dream,48"، بأن "عدد سكان المرتفعات الارترية ارتفع من 23 ألف نسمة في 1910م، الى 400 ألف في 1948م"، بزيادة بلغت 377000 نسمة. ومن حقنا التحفظ على صحة الأرقام المتعلقة بتعداد السكان في ارتريا الى هذا اليوم لوجود فروق كبيرة فيما أوردته المراجع ذات الصلة، وربما كان ذلك ناجم عن عدم افصاح كل الأنظمة التي حكمت البلاد منذ عام 1890م والى هذه اللحظة عن تعداد السكان في إرتريا. وبالرغم من الأهمية البالغة للتعداد السكاني والدراسات العائلية في التخطيط التنموي وتطوير البلاد الا ان قضية التعداد والتركيبة السكانية للبلاد لا تزال من الأسرار التي تحتفظ بها السلطات لأسباب لها صلة بالسياسات ذات الطبيعة الطائفية المعادية لوجود المسلمين في أرضهم.
وكما يبدو لي ومن خلال الاطلاع على العديد من المراجع فإن ما نقرأه عن التعداد السكاني لارتريا خلال مختلف العهود هي مجرد اجتهادات باحثين ومؤرخين ولم تكن أرقام رسمية كشفت عنها السلطات المعنية. ولهذا يمكن القول بأن الرقم (23 ألف) الذي أورده الدكتور محمد خير يبدو ضئيلا، وقد لا يعكس الواقع الحقيقي لسكان المرتفعات في تلك الفترة. ومع هذا اتفق معه في ان التغيير كان جوهريا وحاسما أثر بشكل كبير وخطير على التركيبة السكانية لإرتريا. فحتى لو افترضنا بأن العدد الكلي لسكان المرتفعات حينها كان (230 ألف وليس 23 ألف) فان نسبة الزيادة التي أحدثتها هجرة التجراي خلال الفترة المشار إليها تفوق 73%، وهو رقم قلب الموازين في ارتريا منذ الأربعينيات.
واي كانت الأرقام الحقيقية فإن كل المؤشرات تدل بان ما حدث لم يكن نمو طبيعيا للسكان، بل أشبه بإحلال سكاني، يشبه في طبيعته بهجرة واستقرار المستوطنين الايطاليين، وبهجرة الانجلو سكسون الى الأمريكيتين واستراليا. حيث احتضنت مدن صغيرة وناشئة مثل اسمرة ودقمحري أكبر عدد من المستوطنين الإيطاليين تجاوزت اعدادهم خلال فترة بسيطة أعداد السكان الأصليين. ونالت مدينتي اسمرة ودقمحري النصيب الأكبر من هذه الهجرة، اذ شهدتا تطورا سريعا وتوسعا ملحوظا خلال فترة وجيزة بفضل تمركز معظم المصانع الإيطالية فيهما. وكانت مدن أخرى مثل مصوع واغردات وتسني وغيرها قد استقبلت هي الأخرى أيدي عاملة من الساحل وسنحيت مع بدايات الاحتلال الإيطالي للبلاد ولكنها لم تكن محسوسة لكونها كانت محدودة اقتصرت على الأفراد.
هجرة التجراي والأجندة السياسية:
قد يتسأل البعض عن المخاطر التي يمكن ان تسببها الهجرة المتواصلة للتجراي الى ارتريا خلال مختلف العهود ابتداء من عهد يوهنس الرابع في نهاية القرن التاسع عشر، وانتهاء بالعهد الحالي لاسياس افورقي، وأصبحوا يشكلون جزء لا يستهان به بين سكان في المرتفعات الارترية اليوم وبفضل نظام الهقدف يتحكمون في كل مفاصل الدولة الارترية؟
خطورة هجرة التجراي الى ارتريا تكمن في أنها كانت ولا تزال من منطقة واحدة في اثيوبيا، وتضم مجموعات سكانية تجمع بينها اللغة والدين والتاريخ المشترك، فأصبحوا يشكلون في النطاق الجغرافي الجديد الذي استقبلهم كتلة اجتماعية متماسكة أكبر عدد وتأثيرا من السكان الأصليين الذين استقبلوهم على أرضهم. فغدا تأثيرهم على مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية أكبر، لأنهم لم يضطروا الى ان يتفرقوا بين السكان الأصليين في جماعات صغيرة او أفراد كعمالة وافدة، بل سيطروا على المنطقة ولم يجدوا حرجا في تبرير وجودهم باستخدام أساطير التاريخ وميثولوجيا حاكها الكهنة والرهبان عبر قرون طويلة.
ولعبت القوانين العرفية السائدة دور في تمكين هؤلاء من ضمان الاستقرار في القرى التي انتقل سكانها الأصليين "ملاك الأراضي- الرستنياتات" الى المدن، فأصبح هؤلاء المهاجرين المعروفين "بمأكلاي عليت" أي القادمين الجدد، يشكلون غالبية في العديد من هذه القرى، وتحول بقائهم فيها "الى ما لا نهاية، ويتمتعون بحقوق ازلية في استثمار أراضيها"، وفقد الملاك الأصليين حق العودة الى هذه القرى.
وبزوال الاستعمار الإيطالي في عام 1941م، ظهرت المشكلة التي تسببت فيها هذه الهجرات الجماعية وعمليات الإحلال السكاني التي حدثت في غفلة من أهلها وانشغالهم بعوائد النهضة الاقتصادية التي شهدتها البلاد. حيث ترك الإيطاليون خلفهم في عام 1941م أكثر من 620 منشأة صناعية من مختلف الاحجام، وعشرات مراكز التعدين، (موسي تسفا جيرجيس، Africa in Focus -Eritrea)، فاغرت عائدات فرص العمل التي وفرتها هذه الأنشطة الاقتصادية السكان الأصليين وحالت دون التفاتهم الى قراهم الاصلية.
وما ان قامت الإدارة البريطانية التي حلت محل الاستعمار الايطالي في إدارة شؤون البلاد بتفكيك هذه المصانع وتدمير الاقتصاد الارتري بشكل منهجي لتحقيق أغراض سياسية كان في قمة أولوياتها تقسيم البلاد الى جزئين وضم كل جزء منها الى إثيوبيا والسودان.
ووفق هذه الرؤية عمدت الى ربط المرتفعات اقتصاديا بإثيوبيا والمنخفضات بالسودان وهمشت العلاقات التجارية التقليدية عبر البحر الأحمر، فتراجع دور ميناء مصوع الذي كان أهم ميناء في سواحل البحر الأحمر الى مجرد ميناء يخدم الإدارة البريطانية، فاتجهت العمالة الماهرة التي كانت فيه بنقل خبراتها الى ميناء بورتسودان، ومدن سودانية أخرى، في ظل ما كانت تجده من تشجيع للعمل في السودان في مختلف المهن بما في ذلك الجيش. ولكن ربما كان الناس لا يدركون المآرب السياسية للإنجليز من وراء خدمة كهذه.
وبسبب هذه السياسات البريطانية وتعطل العديد من المصانع والمشاريع الزراعية والتنموية، اضطر العديد من العمال والموظفين الذين فقدوا وظائفهم للعودة الى القرى التي هجروها، ولكنهم وجدوا بأن قراهم الاصلية لم تعد تتسع لهم بعد ان احتلها القادمين الجدد من تجراي. ودعمت الادارة البريطانية هذا الحق على حسابهم، أي على حساب الملاك الأصليين بإصدار قوانين تحل مكان القوانين العرفية المتوارثة عبر أجيال، وفض العديد من المنازعات المتعلقة بملكية الأراضي لصالح المهاجرين من تجراي، والمعروف عنهم باتباع استراتيجية استغلال عامل الزمن مع الثبات في الأرض كوسيلة ناجعة للفوز في معركة إثبات الحقوق في الصراعات المرتبطة بملكية الأرض في ارتريا.
فما الحل وأين يذهب "الرستنياتات" الذين فقدوا ملكية أراضِ توارثوها من جيل الى أخر عبر مئات السنين؟ ربما كان عدم الوعي والاستهتار والركض وراء المكاسب الانية والسريعة بالعمل في مصانع ومزارع وبيوت الايطاليين وراء هذه الخسارة الابدية لهذه الحقوق. فقد أصبحت سيطرة "المأكلاي عليت" كاملة ومحكمة بعد ان منحتها الإدارة البريطانية شرعية قانونية، وهنا يكمن مربط الفرس الذي جعل من هذه المجموعة أكبر تحدي لمشروع الدولة الارترية المستقلة الى هذه اللحظة.
فعمليات الإحلال السكاني تمت في نطاق جغرافي متواصل لا تفصل بينه الا الحدود السياسية بين ارتريا واثيوبيا فشكل لهم امتداد طبيعي لعمقهم الاجتماعي والسياسي والجغرافي والتاريخي، وهو ما ارتباطهم الاجتماعي والعاطفي والسياسي والاقتصادي بمقلي واكسوم اقوى من الارتباط بأسمرة او مصوع وغيرها من المدن الارترية، وكان هذا واضحا في المقالات التي كان يكتبها ولدي اب ولدي ماريام في اربعينيات القرن الماضي.
ففي تسجيل بتاريخ 31 مايو 2016 ينقل تسفاصهيون ما كتبه ولدي اب ولدي ماريام في الجريدة الأسبوعية العدد 101، 8 مارس 1944م، ما نصه " اكسوم المقر الدائم لحكم الاجازيان، وهي مركز المسيحيين المتحدثين بالتجرينية، وتمثل المكان الذي تجتمع عنده التطلعات الدينية والسياسية والثقافية للتجرنية. وان بعث شعب إسرائيل يعتمد على ما امن به صهيون، وبعث شعب التجرنية يعتمد على انبعاث اكسوم وهو ما نتطلع الى تحقيقه".
وللأسف نفس هذا الخطأ الذي وقع فيه اشقائنا من سكان المرتفعات الارترية (الرستنياتات - الملاك الأصليين للأرض)، يكرره اليوم المسلمون الارتريون باتجاههم الى السودان تاركين خلفهم أراضيهم وأملاكهم لمن لا يستحقها دون ان يضمنوا البديل أو حتى حق العودة اليها.
يرد تريفاسكيس مؤلف كتاب ارتريا: مستعمرة في مرحلة الانتقال 1941-1952م، على السؤال: أين يذهب "الرستنياتات" أي الملاك الأصليين للأرض الذين لفظتهم قراهم؟ بقوله: الحل امام هؤلاء كان "التوسع او الموت".
فالتوسع كان في أراضي المسلمين شرقا نحو سمهر وغربا نحو القاش وبركة. وربما كان هذا يتم أيضا بإيحاء وتوجيه من الإدارة البريطانية التي حرمتهم من حق العودة الى قراهم الاصلية. والغرض واضح وهو تغيير التركيبة السكانية وتثبيت العنصر الاثيوبي في المرتفعات الارترية، وخلق حالة توازن طائفي بين المكونين الرئيسيين من سكان البلاد.
وبذلك تحولت نعمة التطور الاقتصادي الذي شهدته ارتريا ابان الاستعمار الإيطالي الى نغمة على الشعب الارتري بسبب هذا التدفق الكبير للسكان من تجراي وما أحدثه ذلك من اختلال على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ظهرت مخاطره في أربعينيات القرن الماضي عندما طرحت قضية تقرير مصير الشعب الارتري، ولا يزال الشعب الارتري يعاني من هذه المعضلة ويدور بسببها في حلقة مفرغة.
هل توقفت الهجرة وعمليات الاحلال؟
أولا اشارتنا الى هاتين الموجتين الكبيرتين من هجرة التجراي الى ارتريا لا يعني بان الهجرة قد توقفت، بل نؤكد بأنها مستمرة، ولكنها لم تكن هجرات جماعية كبيرة للعوائل الهجرتين السابقتين. وأن التسرب السكاني من تجراي الى ارتريا لم يتوقف خلال فترة الاحتلال الاثيوبي، ولكن لم يكن من السهل رصده بسبب ان المدن والقرى التي تستقبلهم في المرتفعات أصبحت امتداد لهم، وان الإدارة التي تحكم البلاد هي نفس الإدارة في البلدين ارتريا واثيوبيا، فيتم ذلك في إطار بلد واحد أكثر من كونه هجرة من دولة الى أخرى تنظمها القوانين.
وبالرغم من استقلال ارتريا، للأسف لم تتوقف هذه الظاهرة الى الان، حيث لا تزال عادة الاعتماد على العمالة الوافدة من تجراي واستقرارها في قرى المرتفعات الارترية مستمرة الى هذه الفترة.
وأتذكر جيدا في عام 2000 وعندما تم توقيع اتفاقية الجزائر لوقف إطلاق النار بين ارتريا واثيوبيا في الحرب الحدودية الأخيرة، كان الاتفاق يقضى بانسحاب القوات الإريترية 25 كيلومترا الى الداخل من الحدود مع اثيوبيا. والغريب بان من وقع الاتفاق من الجانب الاريتري ربما لم يتنبه فيما إذا كان قياس ال 25 كيلومتر سيكون بالأرض ام الجو، فكاد ان يقع خلاف اخر عندما تقرر تنفيذ الاتفاق على الأرض.
ولكن الرئيس اسياس قبل بالتفسير الاثيوبي بأن يكون القياس جوا، فتسبب ذلك في اخلاء أراضي واسعة على طول الحدود مع اثيوبيا، وضيق في المساحة التي بقيت لسحب الفرق العسكرية من جبهات القتال فيها، فاضطرت العديد من الفرق العسكرية للانتقال من جبهة بأدمي وظرونا الى قرى حماسين وما بعدها. فاستقرت فرقتنا في غرب اسمرة وفي الجانب الغربي من صعذجا وعدي قبروا قبل الانتقال ثانية الى حشفيراي شمال غرب حقات بحجة التدريب العسكري، والعمل في المشاريع الزراعية في تسني.
اول ما لاحظناه عندما جئنا الى هذه القرى في حماسين، كان وجود أعداد كبيرة من الشباب يخرجون في الصباح ويعودون في المساء مع ابقارهم وثيرانهم ويعملون في الأراضي الزراعية. وعندما سألنا من يكون هؤلاء كان الرد بأنهم "تجاروا"، يتركهم عادة سكان هذه القرى لرعاية حيواناتهم وفلاحة أراضيهم وحراسة بيوتهم، بينما يقيمون هم في اسمرة وغيرها من المدن القريبة. ويحدث هذا بينما لم تترك الحكومة وقتها شابا ارتريا واحدا حتى من غير القادرين على حمل السلاح، الا واجبرته للالتحاق بالجيش، ولهذا كان وجودهم بهذه الاعداد ملفتا ومثيرا لاستغراب الكثيرين منا.
الزحف نحو المنخفضات لإفساح المجال أمام المزيد من هجرة التجراي:
ويجدر بنا ان نذكر في هذا السياق، بأن الاعتراض على توسع أبناء المرتفعات الارترية في أراضي المنخفضات شرقا وغربا وشمالا خلال الفترة التي تلت هذه الموجات من هجرة التجراي الى ارتريا، والى هذا اليوم في ظل حكم الهقدف، لم يكن بدافع إنكار حق أي مواطن إرتري في الإقامة والتملك في أي بقعة من بلاده، بقدر ما يأتي الاعتراض انطلاقا من حقيقة ان هذا التوسع لم يكن يحدث بدافع الحاجة الطبيعية للسكان للمزيد من الأراضي الزراعية أو السكنية أو الرعوية.
بل هو توسع يتم لإفساح المجال أمام القادمين الجدد من تجراي "مأكلاي عليت" ولتأمين استقرارهم في ارتريا، والدوافع السياسية فيه أكبر من العوامل الاقتصادية والاجتماعية، وهذا ما تكشف عنه مجموعة الاجازيان في خطابها السياسي والإعلامي.
انها ممارسات تبلورت في سياسة الأرض المحروقة التي اتبعتها الانظمة الاثيوبية لإفراغ البلاد من سكانها الأصليين وإحلال التجراي محلهم، و نظام الهقدف يواصل هذه السياسة اليوم.
فمصطلح "مأكلاي عليت" لم يعد ينطبق على هؤلاء المهاجرين لكونه مرتبط بفترة زمنية محددة، والنظام التقليدي لملكية الأرض لم يعد قائما، وأصبح هؤلاء المهاجرين جزء من النسيج الاجتماعي والثقافي لسكان المرتفعات، ويشكلون أغلبية سكانية بين اتباع المذهب الأرثوذكسي في بعض القرى، فكيف لنا ان نميز بين السكان الأصليين والقادمين الجدد الذين تجمعهم معا اللغة والدين؟
فاستقرار هؤلاء في ارتريا لا ينفي انتمائهم الى تجراي، كما لا يلغي حقوقهم في ارتريا فبالتالي هم تجراي ارتريين وتفصلهم حدود سياسية لدولتين مستقلين عن أشقائهم التجراي الإثيوبيين. وفي هذا إقرار بإرتريتهم ولكن كتجراي ارتريين وليس كتجرينية، لان الروابط القائمة على اللغة التي يفرضها نظام الهقدف تختزل المواطنة في اللغة وتلغي ما عداها من الروابط والعوامل التي تقوم عليها وحدة المجتمعات الارترية.
وخلاصة القول هو ان مجموع هؤلاء المهاجرين من تجراي الذين استقروا في فترات مختلفة في ارتريا على النحو الذي أشرنا إليها أعلاه شكل القاعدة الاجتماعية لاتباع الاندنيت في الاربعينيات والداعين الى التجراي تجرينية والهقدف المتخفين وراء الشعارات الوطنية الطنانة.
واليوم يظهرون تحت غطاء آخر باسم الاجازيان، بعد ان استهلكت شعارات الهقدف، انتهت مرحلتها. ومهما تعددت الأسماء وتغيرت الشخصيات فإن الغرض واحد، وهو إنهاء وجود كيان ارتري مستقل يتمتع بسيادة وطنية كاملة، لأن هؤلاء حتى وان قبل بهم الشعب الارتري فهم لا يقبلون به، يعانون من أزمة هوية، أزمة انتماء الى البلد الذي يعيشون فيه، ويكرهون رؤية الانسان الارتري ينعم بالاستقرار والسلام والرفاهية في أرضه.
وهذا ما يفسر سلوك نظام الهقدف على مدى ثلاثة عقود ويعلنه "الاجازيان" في حملاتهم الدعائية لمشروع دولتهم القائم على وحدة الدين واللغة.
ويجب التأكيد في هذا المجال على حقيقة ان السكان الأصليين المرتفعات الارترية من المسيحيين الناطقين بالتجرينية شأنهم في ذلك، شان بقية سكان البلاد من المسلمين وغير المسلمين. فهم ضحايا نخب فاسدة وهيمنة مهاجرين من تجراي الذين يعتبرون الأكثر تنظيما ووحدة ولا يريدون الفكاك عن اشقائهم في الجانب الإثيوبي انطلاقا من حقيقة انهم تجراي وما يجمع بينهم من مصالح أكبر مما يجمعهم مع السكان الأصليين لإرتريا.
فبالتالي المشكلة تكمن فيهم وليس في المواطن الارتري، الذي قبل بهم مواطنين في ارضه ولكنهم لم يرضوا بوجوده في ارضه، فحولوا العلاقة الى ما يشبه علاقة الغزاة الأوروبيين الذين بنوا أمجادهم على جماجم السكان الأصليين في أمريكا وأستراليا.
ولا يرى هؤلاء في اثيوبيا الا بلدهم وبأنها عمقهم الاجتماعي والثقافي والسياسي وامتدادا طبيعيا لمكوناتها، بعكس السكان الأصليين. واذكر في عام 1994م بأن إدارة التعليم في إرتريا تلقت توجيهات تتعلق بالعلاقة مع إثيوبيا كان بينها عدم استخدام عبارة " العدو الاثيوبي" في المقررات الدراسية، حتى في تلك التي لمحتواها طابع تاريخي، والمبرر هو ان عداؤنا كان مع نظام الدرق وليس إثيوبيا. وهذا موقف لا يختلف كثيرا عن مواقف التنظيمات الإثيوبية التي كانت تحارب نظام الدرق، واجتمعت بعد سقوطه لتشكل نظام الحكم الفيدرالي القائم إلى هذا اليوم.
فهجرة التجراي الى ارتريا تمثل تهديدا لوجودها ككيان سياسي مستقل، بعكس هجرة كل الشعوب المجاورة التي ليس لها أطماع في ارتريا. وهذا ما سنناقشه في المقال القادم ونؤكد على أهمية متابعتكم.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.