بوادر التقـارب الإثيـوبي الإريتـري: دلالاته ودوافـعه - الجزء الاول
بقلم الأستاذ: عبدالله الفاتح المصدر: الصومال الجديد
مقدمـــة: تسيـر الأحـداث في منطقـة القرن الإفريـقي بوتيـرة متسـارعة غير مسبوقة، إلى درجـة أصبح التماشي معهـا ومتابعتها
بالقراءة والتحليـل، مهمـة وفي غايـة الصعوبـة، نظراً لتزاحـم الأحداث السياسيـة وتطورها بشـكل دراماتيكي، لا سيما بعـد إعـلان رئيـس الوزراء الإثيـوبي قبـول تطبيق اتفاقيـة الجـزائر، وإبداء الجانب الإريتري عن استعداده الكامـل لتسـوية النـزاع مع جـارة إثـيوبيا، وتفاعـله بشكـل إيجـابي مع المساعي الإثيـوبية الجديدة، وهذا التطـور الإيجابي قد بدى جليـاً خلال الزيـارة التي قام بهـا قبل أيـام، وفـد إريتـري رفيـع المستوى بقيـادة وزير الخارجيـة، إلى العاصمـة الإثيـوبية أديس أبابـا، والتباحـث مع القيادة الإثيـوبية حول سبل إنهـاء واحـدة من أهم قضايا المنطقـة وأكثرها تعقيـداً. وقد نتج من هذه التحركات وصول رئيس وزراء إثيوبي لأول مرة في التاريخ منذ عشرين عاما في زيارة إلى العاصمة الاريترية اسمرا يوم الأحد 8 يوليو 2018، وتوصل الجانبان إلى اتفاقية دبلوماسية واقتصادية تتمثل في تبادل السفارات واستخدم إثيوبيا ميناء اريتريا.
وهناك حالـة تفاؤل وارتيـاح عام للتقارب الإثيوبي الإريتري المفاجئ، حيـث يتوقـع الكثيـرون أن تسـاهم بوادر انقشـاع الغيمـة في تهدئـة حـدة التجاذبات بين البلدين والخـروج من حالـة اللا حـرب واللا سلم التي تسـود العلاقـة الإثيـوبية الإريتـرية منـذ 1998م، مما ينعكـس إيجاباً على عوامل الاستقرار في المنطقـة، ويفتح آفاق جديدة للتعاون الإقليمي من خلال بناء شـراكة سياسية واقتصاديـة حقيقيـة قائمة على الاحترام المتبادل والتعاون المشترك.
العلاقـات الإثيوبية ـ الإريتـرية.. محطـات التعاون والتناحر:
تميـزت العلاقات الإثيـوبية الإريتـرية في أغلب فترات تاريخهـا الحديث ـحالـة من التغلب وعـدم الاستقـرار، وظلـت تتأرجح بين الهدوء والتوتر، وذلك بفعـل جملـة من العوامل الخارجيـة منها الإرث الاستعمـاري وما كان لـه من تأثيـرات عميـقة في تشكيـل الأوضـاع والحدود السياسيـة في منطقـة القرن الإفريـقي، كمـا أن منظومـة التحالفات الاستراتيجيـة ومصالح القوى الدوليـة، ما زالت تشكل مصدراً رئيسيـاً لتحريك وتفجيـر النـزاعات داخل كل دولـة في المنطقـة ومع جيـرانها.
وتؤكـد كل شـواهد التاريخ أن استقـرار الأوضـاع في القرن الإفريقي لا يتوافق غالبـاً مـع مخططـات القوى الكبـرى ومصالحها الاستراتيجيـة وذلك لاعتبـارات جيوبولتيكيـة تتميـز بهاهذه المنطقـة، وهـو ما يفسـر بقاء أغلـب دول المنطقـة في حالـة صـراع دائـم يتغذى بالتناقضات العرقيـة والقبليـة والجهـوية بالإضافـة إلى ترسبات صراعات مزمنـة بيـن الدول المتجاورة، يتم تحريكها عنـد الضـرورة.
وعـودة للعلاقات الإثيـوبية ـ الإريتـرية، فقـد عاشـت شعـوب هذه المنطقـة.
وتصـاعدت وتيـرة النـزاع بيـن إثيـوبيا وإريتـريا وبشكل غيـر مسبوق، بعـد انفجـار الثـورة الإريتـرية ضـد إعـلان الإمبراطـور هيـلاسلاسى ضـم الإقليـم إلى إثيـوبيا عـام 1964م.
ومنـذ ذلك الوقـت، شهـدت المنطقـة حربـاً ضـروساً بيـن الحكـومة الإثيـوبية وجبهـة التحـرير الإريتـرية، أدت إلى وصـول الأخيـرة إلى مدينـة أسمرة واستيـلائها على مقاليـد السلطـة في إريتـريا ووصـول حليفتهـا الجبهـة الشعبيـة لتحرير التقـراي (TPLF) إلى السلطـة في أديـس أبابا.
ومــع سقـوط النظام الإثيـوبي منغيستو هيـلا مريـام، بدأت العلاقات تشهـد تطـوراً إيجابيـاً ملحوظا، وقـدكان للوضـع الجـديد في إثيـوبيا بالـغ الأثـر ليـس فقـط في تحسـن العلاقات، وإنمـا في نجاح استقـلال إريتـريا وانفصالها من إثيـوبيا عام 1993م، وفعـلاً جاء ذلك بالتراضـي مع قيـادات الجبهـة الشعبيـة لتحـرير التقـراي، لكـن هـذا التطـور الإيجـابي لم يـدم طويـلاً، وما لبـث أن تجـدد النـزاع مرة أخـرى بيـن الجانبيـن وخـوضهما حـرباً ضروسـا عـام 1998م، استمـرت حتى عـام 2000م، وسقـط جراءهـا نحـو 90 ألف قتيـل من الطرفيـن، وذلك على خلفيـة نـزاع حول منطقـة حدوديـة صغيـرة، وهكـذا عادت الأوضـاع بيـن البلديـن إلى دوامـة العنـف والتناحـر.
ويجـب الإشـارة إلى أن تناقضـات المصالح وتراكـم الخلافات القديمـة بيـن نظامي إثيـوبيا وإريتـريا، والارتجاليـة والتكتـم الشديد اللذين ظلا دائمـاً يشكلان السمـة المشتـرك لسياسـات النظاميـن والتعامل مع أزماتهمـا المختلفـة المنطقـة، فضـلاً عن اقتصـار اتخـاذ القـرار فيهمـا بيـن فئـة قليلـة غيبـت المرجعيـات الشعبيـة والمؤسـسية، كل تلك العـوامل أسهمـت في انفجـار النـزاع بيـن البلديـن وبهـذا الشكـل الذي تجـاوز حدود الدولتيـن ليغطي معظـم دول المنطقـة.
وتعتبـر هذه الحـرب بأنها أشرس حـرب عرفتها منطقة القرن الإفريقي منـذ عقـود، وبالرغم من أنها انتهـت بهزيمـة إريتريا، وقد وضعت أوزارها بتوقـع رئيس الوزراء الإثيـوبي الراحل مليس زيناوي والرئيس الإريتري أسياس أفـورقي على اتفاقيـة الجزائر في 8 يونيو عام 2000م، ثم بتوقيع اتفاق سـلام شامل بالجزائر في 12 ديسمبر عام 2000م، برعايـة منظمة الوحدة الإفريقيـة، والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكيـة.
وفي ديسمبر عام 2001م، تم تشكيل لجنـة مستقلة لترسيم الحدود الإثيوبيـة الإريترية برئاسة السير أليو لوترباخت، وذلك بموجب هذه الاتفاقية التي نصت على إقامة لجنة محايدة لفصل النزاع الحدودي.
وفي 14 أبريل عام 2002م، أصدرت اللجنة المستقلة حكمها النهائي في النـزاع الحدودي تضمن بنوده ضم “مدينة بادمي” للسيادة الإريترية، إلا أن الجانب الإثيوبي أعلن رفضه لحكم اللجنـة المستقلة في فبراير 2003م، كما جدد رفضه أيضاً في رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة في 19 سبتمبر 2003م، وبهذا لم تستطـع الوساطة الإفريقيـة ولا حكم اللجنة المستقلة أن يضعا حداً للنـزاع الحدودي بيـن البلدين.
ومع استمرار تعنت موقف الحكومة الإثيوبية ورفضها لتنفيذ اتفاقية الجزائر وتطبيق حكم اللجنة المستقلة، طالبت إريتريا أعضاء البعثة الأممية لمغادرة أرضيها، في 7 ديسمبر عام 2005م، وحدد لها مهلة عشـرة أيام، وفي 15 من الشهر ذاتها نقلت البعثة بعض أعضائها إلى داخل الحدود الإثيـوبية، مطالبة مجلس الأمن الدولي لفض النـزاع المؤذن بالخطر بين البلدين، وهكذا استمرت الخلافات بين الجانبيـن، ولا زالت قوات كثيفة ترابط على جانبي الحدود خاصـة في ”مثلث بادمي“.
وفيما يتعلق بنتائج الحرب وكلفتها الباهظة، فقد تحمـل الشعـب الإريتـري أثقـال الحـرب وأوزارهـا أكثر من غيـرهـ وظـل يعاني من مشاكـل سياسيـة واقتصـادية وأمنيـة معقـدة زاد من صعوبتهـا العزلـة الدوليـة التي ما زالـت تتعرض لهـا إريتـريا وتصنيفهـا كدولـة مارقـة فقيـرة، من قبل بعـض الأوساط الدوليـة، ويرتبـط ذلك بسيطـرة النظام ذات الحـزب الواحـد على مقاليـد الحكـم والنشاط الاقتصـادي معاً.
فقـد تسببت الحـرب خسائـر كبيـرة في الاقتصـاد الإريتـري، وبلغـت نسبـة النمـو 0% في العام 1999م، وفقاً لإحصائيات المنظمات الدوليـة، كما أن الهجـوم الإثيـوبي على جنـوب إريتـريا عـام 2000م، أسفر عن خسائر في الملكيـة قدرت بنحـو 600 مليـون دولار أمريكي، منهـا خسائر في المواشي بحوالي 225 مليون دولار، وتدميـر نحو 55 ألف منزل، كما أعاق الهجـوم زراعة المحاصيـل في أكثر الأقاليم الإريترية خصـوبة وإنتاجـاً في القطاع الزراعـي، وقد فقدت البـلاد جـراء ذلك حوالي 62% من محاصيلها.
تقييم التقارب الإثيـوبي ـ الإريتـري.. دوافعـه ومغـزاه:
ربمـا نوافق جميعـاً على أسـاسية منطقيـة، بأن الأحداث السياسيـة لا يمكـن تقييمهـا تقييمـاً شاملاً دون النظـر لدوافع الأطـراف المعنيـة وتقييـم أسبابها بشكل دقيـق، وعليـه لا يمكـن لنا في الحقيقـة فصـل هـذا التقارب الإثيـوبي الإريتـري المفاجئ عـن التحولات والمتغيـرات الجديدة في خارطـة السياسـة الإقليميـة والدوليـة الراهنـة.
وحسـب رأي المراقبيـن، فإن إعـلان رئيس الوزراء الإثيـوبي أباي أحمد عن استعداده الكامل لإنهاء ملف النزاع الحـدودي مع إريتـريا، يرتبـط أساساً بالتحـولات الراهنـة التي تشهـدها إثيـوبيا على كافـة المستويات السياسيـة والاقتصادية والأمنيـة، خاصـة في ظـل الجهـود الكبيـرة التي يبذلهـا الدكتـور أباي أحمد، منـذ توليـه مقاليـد السلطـة في إبريل الماضي، من أجل ترتيب الأوضاع السياسيـة والاقتصـادية في البـلاد وإعادة صياغـة خارطـة التوازنات في السلطـة الحاكمة من خلال تخفيـف قبضـة اثنية ”التقـراي“ على نظام الحكـم.
وتلك العوامل الداخليـة قـد أجبـرت القيـادة الجديدة على إبـداء مرونـة كبيـرة في سياستها الخارجيـة، فقـد وضح ذلك بجلاء في إعـلان رئيس الوزراء المفاجئ بخصـوص تسـوية ملف النزاع الإثيـوبي الإريتـري، وتكثيـف الجهود السياسيـة من أجل تطوير العلاقات الثنائيـة وبناء شراكـة اقتصـادية حقيقيـة مع كافـة دول القرن الإفريقي، ولعـل القيادة الإثيـوبية الجديدة تهـدف وراء هـذه الخطـوة المفاجئـة - كما يبدو - إلى سحـب البساط أمام أي معارضـة مستقبليـة ترفع السـلاح في وجـه الحكـومة الإثيـوبية وتتخـذ في دول الجوار منطلقاً لعملياتهـا العسكريـة.
ومن الملاحـظ أيضاً أن تطور الموقف الإريتـري لم يكـن فعـلاً أقل مفاجئـة وإثارة بخصـوص تسوية ملف النـزاع الحدودي مع إثيـوبيا، وهنا ربما يتسـاءل البعض حول الدوافع والأسباب الحقيقيـة وراء الترحيب الكبيـر للقيـادة الإريتـرية بالمبادرة الإثيـوبية وتبـادل رسائل سـلام فوريـة.
وهنا يمكننا الرصـد والوقوف على الأسباب الكامنـة وراء الموقف الإريتـري، ومدى ارتباطـه الوثيـق بالتحـولات الراهنـة في إثيـوبيا، خاصـة وأن هذا الموقف المفاجئ، لم يعد يحتـاج إلى الكثيـر من الذكاء السياسي لقراءة أسبابه وتدافعه الحقيقية.
وفي واقـع الأمر يرتبط التطـور الإيجابي للموقف الإريتـري بالوضـع الإثيـوبي الجديد، وبالأخص تلك التغيرات السياسيـة والأمنية التي يجـريها رئيس الوزراء الإثيـوبي لوضع حد من نفـوذ الجبهـة الشعبية لتحرير التقراي وتخفيف قبضتها على نظام الحكـم، وهـذا ما يتوافق مع السياسة الإريتـرية تجاه تلك الأقلية الاثنية ويدفع الرئيـس أسياس أفورقي لدعم تحركات أباي أحمـد، والتأييـد بشدة على تولي قـوميات الأورومو والأمهـرا لمنصبي رئيس الأركان للقـوات المسلحـة، ورئيس جهـاز الاستخبارات الإثيـوبي.
ولعل سبب ذلك لا يخفى على أي قارئ حصيف ملم بطبيعـة النـزاع الإثيـوبي الإريتـري، والمكونات الأساسيـة التي تؤثـر في هذا الملف وتحركـه من حيـن لآخر.
ورغم حالـة التفاؤل والارتيـاح العام التي تسـود المشهـد الإقليمي على خلفيـةالتقارب الإثيوبي الإريتري المفاجئ، وبوادر انقشـاع الغيمـة في الأفق التي يتوقـع الكثيـرون أن تسـاهم في تهدئـة الأوضاع في المنطقـة وطي صفحة قاتمـة من النزاع المرير بيـن دول المنطقـة، إلا أن دوائـر إقليميـة عديدة ما زالت تخشى من انقـلاب الرئيس الإريتـري على نداء السـلام مع إثيـوبيا.