الفكرة النقيضة
بقلم الدكتور: عبدالله الجبرتي
(الفكرة النقيضة قد تكون حلا عميقا ومستداما باعتبار عامل الزمن) خطفها من فمي بروفيسور محمد رمضان الأغا،
في حوار غير مباشر حول مصائر البلاد والعباد في عالم اليوم. وسبقني وسبقه أبو القاسم الشابى الذي قال:
و ألعن من لا يماشي الزمان.. ويقنع بالعيش عيش الحجر...
هو الكون حي يحب الحياة.. ويحتقر الميت مهما كبر...
فلا الأفق يحضن ميت الطيور.. ولا النحل يلثم ميت الزهر...
ما هي الأهداف و الأسس التي تبني عليها الإنسانية وطنا أو بلدة أو قرية أو منزلا، ما هي الأسباب التي تجعل الإنسان يتقوقع في إنسانيته نحو أسرة أو قبيلة أو شعب. أليس هي البحث عن إطعام من جوع وأمن من خوف ؟ و بحث عن رفاه ؟ وعدل في المعاش ؟ ونماء في البلاد ؟ ورقي بالعباد ؟
ناضل شعبنا ومجموعتنا لثلاثين عاما حققوا بها الانفصال عن أمهم الحبشة الكبيرة ؟ الانفصال ليس هو الاستقلال بالمناسبة. أن تنفصل بأسرتك عن الأسرة الأم، ليس استقلالا ؟ الاستقلال يكون من مستعمر لا يربطك به أي رابط. هنالك روابط لا يمكن أن تزول مهما كان سبب الانفصال؟ والانفصال يكون عادة لأسباب محددة، يمكن بعده العودة للأصل و الأسرة الكبيرة بمزايا أكثر واقعية ونضج، بعد زوال الأسباب. و أسباب انفصال الأسرة غالبا ما يكون خارجيا كحالتنا. الطليان هم من كانوا السبب في نشأة نزعتنا ورغبتنا في الانفصال. و أضاف لذلك الوضع الدولي و الإقليمي المتوجه نحو الاستقلال زخما للآباء المؤسسين لفكرة الانفصال، لا حظ هنا الاستقلال وليس الانفصال عن المستعمر الأبيض، الذي لم تجمع أفريقيا به حتى الإنسانية.
من يعرف الأسباب الحقيقية والواقعية التي دعت مجتمعنا لاختيار دفع الغالي والثمين من أجل الانفصال عن الوطن الأم الحبشة. فهنالك أحداث ووقائع ومطالب لم تتوفر حينها لآبائنا المؤسسين، جعلتهم يحملون السيوف وينظمون الصفوف ويبنون المشاعر والروح المضادة لواقعهم حينها. هل نستطيع العيش بواقعية اليوم لتلبية مطالب وحاجات مجتمعنا في الأمن والاستقرار ومحاولة تحقيق الرفاه، بإمكانيات موقعنا الإقليمي المتميز بين وطننا الأم و إخوتنا مكوني الحبشة الكبيرة. إننا نهدر دماء و أجساد وكرامة وتضحيات أمتنا بلا ثمن، في زمان التكتل و الإنصهار والتكامل من أجل تحقيق مصالح البلاد والعباد.
لقد كانت الكونفدرالية بيننا هي الحل المناسب، من الشخص غير المناسب وفي الزمان وبالأسلوب غير المناسب أيضا.. الشخص غير المناسب هو الإمبراطور التوسعي الطائفي الإقطاعي البغيض تفري مكونن (حيلي ثلاثي). و الذي ثارت عليه كل مكونات الحبشة الأم حتى سقوطه علي يد الشيوعية التوسعية الشمولية البغيضة والدموية أيضا. والتي استمرت ثورتنا جميعا عليها حتى تحقق النصر للمناضلين في كل الشعوب الحبشية.(نحتاج لزاوية أخري للنظر في علاقة تنظيم الشعبية بتنظيم الأهودق غير دعاية تقراي تقرنيا البائسة).
و أكدت الشعوب رغبتها في العيش بسلام وتحقيق رغبات المكون الواحد للثورة والنضال نحو السلام و والاستقرار و الرفاه. فحقت ما وعدت به لممثل الشعب الإرتري حينها لديهم، الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا. ونفذت رغبة تقرير المصير للشعب الإرتري، و اختار مجتمع إقليم إرتريا الانفصال بنسبة عالية ورضيت كل المجموعات برغبة اقليم ارتريا، وباركت له ذلك وفي نفسها شيئ من جراح انفصال جزء عزيز من الحبشة الكبيرة.
هذا هو القانون الذي بموجبه تم منح ارتريا حق تقرير المصير باعتراف دول الأمم المتحدة، وليس غيره، وإلا لأصبح الوضع مثل صومالي لاند وغيرها من الانفصاليين الذين لم تعترف بهم الأمم المتحدة، كدول ذات سيادة بها. ولهذا التقرير عن مصير الارتريين لانفصالهم، نتائج وعواقب يتحملونها حتي اليوم، و منها سكوت الأمم المتحدة كلها حتي دول الجوار، والمنظمات الدولية، عن ما يحدث للإرتريين في كل بقاع العالم. (نحتاج لمراجعة دقيقة للقانون والدبلوماسية والعلاقات الدولية في هذا الأمر).
إن المثقف الارتري ومعظم الشعب الارتري بعيد جدا عن هذه التجارب الدولية الكبيرة، وهو لا يعلم السبب الحقيقي لإهمال العالم اليوم له، وعدم الشعور بمعاناته الواضحة لكل الدول والمنظمات الدولية. قليل جدا من يعرفون ذلك ولا ينشرونها رغبة في تحقيق مصالحهم الضيقة الجهوية أو الفردية، أو لاختلاط الأمر عليهم لدفعهم ثمنا غاليا من الدماء والتهجير والظروف الإنسانية والتربية التي نشئو عليها والمخالفة للواقع الدولي و الإقليمي. فلا مكان اليوم لاجترار العواطف والبكاء علي أطلال الأفكار التقليدية مهما كان الثمن الذي دفعناه عليها. ولا مناص لنا غير التعايش مع القوانين الدولية والدخول ضمن الأقوياء للعب دور يحقق لنا أحلامنا وأحلام آبائنا، فلا مكان لفردية ضعيفة غير متوافقة بين الأمم اليوم إقليميا أو دوليا.
قادنا لمعرفة بعض هذه الحقائق البحث العلمي والرغبة القوية لمعرف خفايا القانون الدولي والعلاقات الدولية و الإتفاقات الشفهية بيت صناع القرار (جنتل مان). وكان لابد من الجرأة الفكرية والعلمية لطرحها وطرح ما يترتب عليها من تنوير للمجتمع ومحاولة للنقاش حولها حتي تكون خيارا زمنيا، بعدما قاربت فترة الانفصال طول فترة النضال، ولم نجني من بكائياتنا المستمرة حول العالم شيئ سوي استغلالهم لظروفنا باستقطاب شبابنا إلي أوروبا كعبيد جدد، لتنظيم أعمالهم ومجتمعهم الآخذ في الفناء.(راجعوا تعليقات الرئيس أسياس أفورقي التي كنا نستغربها حول هجرات الشباب ومعاناتهم و دور الغربيين فيها، لقد كنت اهتم بكلماته وتعليقاته بجدية حول كل ما يتطرق له دائما).
يعيش مئات الآلاف من أفراد مجتمعنا في أوروبا، ولدينا فيهم البروفيسور والدكتور والمثقف وووو، إلا أنهم انغمسوا في الاندماج الأوروبي و لم يلاحظوا هذا الإهمال و الإستخدام السيئ لأوضاع الأرتريين رغم البكاء المر والمسيرات الهادرة والتنظيمات المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، وظلت مشاركاتهم في العمل الارتري عاطفية أكثر منها علمية و بحثية جادة، لإخراج مجتمعهم مما هم فيه. و العلمية تقتضي الجرأة علي كشف الحقائق، قبل ذلك البحث عنها بجدية من أجل تحقيق الاستقرار لمجتمعهم. إضافة الي طرح الخيار الأمثل لتحقيق مصلحة مجتمعاتهم و التي تتماشي مع الواقع والقانون الدولي بكل محتوياته. فالعالم اليوم لا تحكمه العواطف والمعلومات الدينية والعاطفية، بل يحكمه القانون الدولي والقوة الظالمة المسيطرة، ولا مفر من كل ذلك إلا بالأخذ به ومحاولة تجنيب الأضرار المضاعفة منه للمجتمعات.
لقد عاني مجتمعنا بعيدا عن القانون الدولي والدبلوماسية الحصيفة والعالمة، والقادة الخبراء، كل أنواع المآسي، وحان له أن يعيش في ظل الواقع الدولي بمرونة وواقعية، لتحقيق مصلحته من الأمان والاستقرار والتنمية و الرفاه، وليطرق قادته العقلاء كل أبواب المحاولات المنطقية الجريئة، و الأخف ضررا من الموت الذي عايشه الشعب لأكثر من ثلاثين عاما، وبعده لثمان وعشرون عاما من الضياع وعدم الاستقرار والغرق في صحاري وبحار العالم، والسكون في أجساد الآخرين حول العالم، اسبيرات بشرية. يعيش بلا هوية ولا هوي بلا مأوي بلا مأكل بلا أمان.
حان أوان طرح الفكرة النقيض لما صنعناه بأيدينا من ضياع وآلام لا نهاية قريبة لها، حسب معطيات الواقع الارتري المعاش بالداخل والخارج. فلم يجد الارتريون مبررا لما فعلوه سابقا اليوم، من أمان من خوف، أو طعام من جوع، أو رفاه أو عدل أو رقي واستقرار. رغم صعوبة هذا الطرح علي المفاهيم التقليدية التي تفضل العيش في ذيل العالم، بدون مقابل لها ولمجتمعاتها، و أخص بذلك قادة المجتمع بكل تصنيفاتهم السياسية والمدنية والفكرية. آن الأوان لمناقشة كل الخيارات وإجراء حوار جاد حول محاولة جديدة لتقرير المصير، فلنبحث عن الكي فقد يكون آخر العلاج لمأساتنا. فلا حلم سنغافورة بلغنا ولا لقمة خبز بسلام وجدنا.
لابد من نظرة واقعية للأحداث وطرق معالجتها بدون دفع ثمن أغلي من المطلوب، وبدون الخوف من أحد، لابد من رؤية نقدية لأفكارنا كلها من أعلي هرمها إلي أدني قاعدتها، وعقائدنا الوطنية والشعبية، التي تربينا عليها، وهي لم تحقق لنا إلا مزيدا من الضياع بلا أمل بعيد حتي يرجي. إن السياسة وهي محاولة إدارة مصالح البلاد والعباد، تقتضي اليوم من كل من يمارسها لهذه الحقيقة و المبدأ، أن يدرس تجارب البلاد والعباد حول العالم، ويبتكر لمجتمعه أقرب الطرق ليبلغ بهم سبيل الاستقرار والتنمية و الرفاه، الذي يعيشه إخوتنا في الإقليم، ونحن نباع ونشتري في سوق نخاسة العالم اسبيرات وعبيد ومهانة بلا جدود ولا ثمن. فالفكرة النقيض اليوم والبغيضة بالأمس، هي الحل الذي لابد من تجربته، بشروطنا، وتحت عيوننا.
فمعظم القيادات الفكرية والمتحدثين اليوم عن الشأن الإرتري، ليس من بينهم من يعاني شخصيا من أي ألم شخصي مباشر، لهم جنسيات بديلة، يسكنون القصور ويقودون الفارهات ويتزوجون مثني وثلاث، ويعيشون في بيئات تنعم بالحرية و الديموقراطية والسلام ويعيشون النضال ترفا لقضاء ما تبقي من أوقات فراغ، ولا يساهمون بتكلفة الدخان الذي يدخنونه والليالي التي يعيشونها والحج العمرات التي يعمرونها مرات ومرات والعبادات الأخري والسفريات حول العالم، و غيرها من المكاسب المشروعة وغير المشروعة التي ينالونها باسم الشعب الإرتري. فكيف لهم يطيلون أمد ضياع الشعب في الصحاري والبحار وتحت ظل نظام قاهر ظالم لم نفلح لتغييره ولا حتى تغيير سلوكه بأي ثمن وبأي أسلوب.
والسؤال الأهم الذي لابد من معرفة الإجابة عليه هو، كيف العمل للوصول إلي الهدف ؟ وقبله هل ستقبل المجتمعات الأثيوبية بعودتنا إلي حضن الوطن الأم الحبشة ؟ فلنقرأ لنفهم لا للرد.