ارتريا واثيوبيا السلام الصعب
بقلم الأستاذ: محمود عثمان إيلوس - كاتب وبـاحث ومحلل سياسي
أخطر ما يواجه اليوم إرتريا هوالتحديات الداخلية وليست التحديات الخارجية.. الضبابية في كل شيئ..
في السياسة والوحدة الوطنية والتعايش الداخلي ومن ثم قتامة النظر الى آفاق المستقبل. الدكتاتورية ونشأة نظام سياسي بلا نظرية وبلا مراجعة أبدية تعد مصدرا أولا لأزمة إرتريا بينما المشكل في تفاصيله يتجاوز حدود النظام الإرتري الحاكم ليأخذ عمقا مجتمعيا وسياسيا للكيان الإرتري.
إثيوبيا دولة أطوار سياسية عميقة؛ فإما أن تحكم بإرهاب مراكز قوى إقطاعية وإما أن تحكم بديموقراطية قومية حساسة.
تعيش إثيوبيا اليوم سلاما داخليا مشروطا بعناصر التنمية والأمن من الجوع والخوف، ومن يقف على صناعة سلام واستقرار داخلي في إثيوبيا كمن يقف فوق لوح خشبي يطفو فوق مياه وأمواج عاتية.. في حاجة الى كثير من توازن القوميات والسياسة والتنمية.
إثيوبيا تمتلك اليوم ملفات مهمة تدافع عنها وفي مقدمة ذلك التنمية الواردة، وقد ظل النظام الإرتري مؤثرا في عدم توازن العزوم في الإقليم ودول المنطقة، بل هو النظام الوحيد الذي ضرب خصومه من دول الجوار بتقوية المعارضات السياسية والعسكرية.
تتحاور إرتريا لكنها لاتمتلك ملفات سوى ملف تطويل أمد بقاء نظام أسياس أفورقي وانهاء احتمالات احياء فكرة المعارضة الإرترية الميتة.
يمكن أن تشتعل الحروب بين الشعوب لأسباب تافهة اذا ماتوفرت نار وحشائش يابسة على الأرض وعصبيات في عقول النفوذ القائدة، سنوات الصراع والحروب بين إرتريا وإثيوبيا أكثر من سنوات السلم والاستقرار في ظل الدولة الحديثة. كما أن الوحي الدولي وصراعات المصالح الدولية أكثر تأثيرا في الحرب والسلام بين البلدين من تأثير الرغبات والسياسات الداخلية لهما.
ففي الفترة من (1941-1991) دفع الشعبان ثمنا غاليا جراء مصالح دول المحور الدولي المنتصرة في الحرب العالمية الثانية،حيث اقتضت استراتجياتها حينذاك قيام أمبراطرورية إثيوبية دون عودة دول الطراز الاسلامي العازلة في منطقة النفط والغاز والمياه والملاحة الدولية الخطرة، وكانت إرتريا ضحية تلك التوجهات، فكانت الحرب هي الخيار الاوحد أمام الشعب الإرتري لصناعة وطن مستقر وسلام مستدام في المنطقة، فكانت الثورة وكان الكفاح المسلح وكانت حرب التحرير الثلاثينية المقدسة.
إرتريا، ولحكمة معينة تبدأ وتنتهي عند مفاصل تاريخية دولية مؤثرة، فبدايةأزمة إرتريا العصرية كانت بنهاية الحرب العالمية الثانية وبداية سيطرة دول المحور وبروز السياسة الاستعمارية الحديثة، قيام أو طان مستقلة وحكومات بالوكالة في إفريقيا والشرق الأوسط، ثم استشرفت إرتريا ميلاد استقلالها الوطني مع نهاية الحرب الباردة وبداية وبروز قيادة الولايات المتحدة للسياسة الدولية، مااصطلح عليه سياسة القطب الواحد، نالت إرتريا ههنا التأييد الدولي في استقلالها الوطني بينما حرمت هناك من ذات الحق الطبيعي بفعل ذات المجتمع الدولي، حيث مثل الشعب الإرتري كفة الإرادة الباقية؛ إرادة الشعوب التي لاتقهر، ليمثل المجتمع الدولي كفة المصالح الدولية المتغيرة. لم يكن الاستقلال الإرتري هبة دولية وانما جاء نتاجا لتضحيات متواصلة.
هنا فقدت إرتريا مميزات انتصارها الأسطوري بفعل عوامل الداخل بينما فقدت في السابق حقوق استقلالها الوطني بفعل السياسة الدولية والتشرذم الداخلي جراء حسابات التفكير الجيوثقافي التغريني المسيحي والعربي الاسلامي؛ جراء ازمة التفكير الثنائي المتخلف؛ واليوم تفتقد إرتريا شخصيتها الوطنية جراء ذات أزمة الفكر الثنائي الذي تجاوز علل الجسد لينخر في العقل الوطني ويضع الوطن كله في مفترق طرق دونما تنازلات او مبادرات؛ حينما يجلس الظالم والمظلوم دونما صراع في غرفة انعاش ينتظر القدر الغائب؛ وإذن ماذا سيحمل الوزير المفلس في حقيبته التفاوضية وهو يصعد سلم الطائرة الى أديس أبابا سوى قميص وتوجيهات حرفية من الرجل الدولة أسياس أفورقي؛ وإذن ماذا سيكتب القلم من فكر ورأي - والحالة هذه- سوى التخمين والتفاؤل.
صناعة السلام الصعب:
كلما أردت ان اضبط هذا المقال لخدمة العنوان المطروح (السلام الصعب)؛ كلما يشرد ذهني وعقلي وتفكيري في الصندوق الأسود المفقود؛ في النسق الجيوثقافي والجيوسياسي الذي ربط بين الجبهة الشعبية الإرترية والجبهة الشعبية التغراوية، (هقدف ووياني)، الملفات المشبوهة التي ظلت جارية بين القيادتين منذ مطلع ثمانينات و حتى منتصف التسعينات من القرن الماضي.
انغمس كثيرا جدا في تحليلات تلك النشأة الجيوسياسية الثقافية بين هاتين الجبهتين، كيف صنعوا نسقا سياسيا موحدا، ثم كيف صنعوا سلاما عميقا ينتهي الى حرب عميقة لأسباب تافهة، افعل ذلك وانا مدرك بأن نصف الإجابة الحقيقية قد ذهبت مع ملس زناوي وربما ستذهب كل الإجابة مع الرجل العميق أسياس أفورقي. قرأت ما كتب بحبر دافئ، كتاب (الأجندة الخفية) لعبد الوهاب، قبل عدة سنوات؛ تلك القراءة الجادة حول تلك الحرب ذات الأسباب الظاهرية التافهة؛ ذات الأسباب السرية الخطرة،وكانت قراءة فيما بين سطور المشكل.. أسست للبحث عن الأسباب وليس النتائج.
تذهلني الأحداث في منطقتنا؛ في سرها وعلنها؛ في حربها وسلامها وسرية ملفاتها.. فهذه أديس أبابا تحتضن وفدا إرتريا يتسم بالبؤس والإرتباك.. وهذه أسمرا تبتسم وتخرج عن بكرة أبيها على حضرة رئيس الوزراء الإثيوبي.. يسرني هذا وذاك مادام الحديث عن السلام بين إرتريا الحالية وإثيوبيا الحالية رغم أني أفقد التوازن لفقداني الثقة في شخوص السياسة المتحركة في الميدان، فينازعني البحث عن احتمالات الملفات المحمولة بل عن السياسة التي تحركهم؛ عن السياسة الدولية التي تحركهم، وبالأحرى عن الإرادة الحقيقية التي تحرك اليوم ملف السلام بين إرتريا وإثيوبيا.. أهي إرادة ذاتية من أجل مصلحة الدولتين وشعبيهما.. أم هي إرادة السياسات الدولية والفرز الدولي الشرق الأوسطي.. هل هو السلام الحقيقي.. سلام العبرة من التاريخ.. السلام الذي يأتي بعد حروب طاحنة.. ام سلام تكتيكي ؟
ومهما تكن التوجهات فإنه وبكل تأكيد السلام بين إرتريا وإثيوبيا الى حد التفكير الكنفودرالي والتكامل الإقتصادي والتبادل التجاري الواسع يعد أمرا في غاية الأهمية لمصلحة شعوب هذه المنطقة، فإثيوبيا حاجة إرترية كما هي إرتريا حاجة إثيوبية ومثل ذلك السودان، سوى أن هذا السلام يحتاج الى إرادة حقيقية وذاتية منطلقة من فهم المصالح القومية لكل دولة مقرونة بالمصالح الإقليمية المشتركة. الاستقرار وعودة العلاقات وحسن الجوار الإرتري الإثيوبي لايعني استقرار الأنظمة السياسية، فالنظام الحاكم في إرتريا باق الى أجله غير المسمى سواء عادت علاقاته مع اثيوبيا أم ظلت متوترة مادامت مبادرات التغيير السياسي الداخلي غائبة. أسياس أفورقي؛ لم يكن مبتدأ إرتريا او منتهاها لننظر الى مصالح شعبنا من خلال بقائه او زواله.
هل دوافع السلام ناتجة عن تناقض إثيوبي داخلي:
قلت الاستقرار الداخلي الإثيوبي حساس ومشروط دائما، غدوا وعشيا،يمكن أن تمسي إثيوبيا في سلام لتغدو بغتتة في صراع ونزاع شعوبي داخلي، ويبدو أن نخب الحكم الإثيوبي يدركون هذه الحقيقة لذلك استنسخوا شكل التدوال الحالي الخالف لنظام منقستو هيلى ماريام، حيث شكلت ثورة تغراي بؤرة هذا التشكل السياسي على مدى ال27عاما الماضية.. النخب الإثيوبية ليست سواء في قناعاتها ورؤيتها لاستقلالية الكيان الإرتري وفي اعادة السلام والاستقرار بين البلدين، ولكن ثمة قناعات واسعة النطاق بأهمية عودة علاقة إثيوبيا بإرتريا على مستوى التعاون الإقتصادي؛ وخاصة وأن إثيوبيا تسير في اتجاه التنمية والاستقرار الأمر الذي يشكل ميناء عصب الإرتري أهمية قصوى لابديل لها. وحسب مايبدو لي أن الموقف الإثيوبي يتلخص في الآتي:-
1. أن فكرة إمكانية اسقاط النظام الإرتري من خلال دعم لوجوستي اقليمي لما كان يعرف بالتحالف الإرتري المعارض سقطت منذ وقت مبكر لدى قوى الحكم الإثيوبي؛ واتجهت انظارهم نحو مغازلة حوار سياسي مع النظام الإرتري منذ وفاة رئيس الوزراء الأسبق ملس زناوي؛ وكانت بوادر ذلك التوجه قد بدت في بدايات فترة حكم رئيس الوزراء (الخلف المستقيل) هيليماريام ديسالين، وقد جرت آنذاك تكهنات أخرى غير التي نشاهدها اليوم.
2. هناك تأثير واضح جدا للصراعات المحورية في منطقة أهل الدثور الخليج العرب الإسلامي والفرز الدولي في دورة السياسة الدولية الحالية؛ إذ أن هناك رأس مال خليجي استثماري غني جدا داخل التنمية الإثيوبية الحالية، حيث تتشكل إثيوبيا جيواستراتيجية للحلف الأماراتي السعودي وخلفياته، بينما تبرز أهمية إرتريا في هذه الصراعات لكونها إحدى شواطئ بحر الصراع الدولي؛ البحر الأحمر. أي الوفاق الإثيوبي الإرتري يعد أمرا في غاية الأهمية لتشكل التحالفات الموجهة، وبالتحديد في هذه المرحلة. وكلنا نذكر الحلف الإرتري الإثيوبي اليوغندي ضد مشروع ثورة الإنقاذ الوطني في السودان، ومثل ذلك ماشكلته شواطئ إرتريا أهمية إبان حرب التحالف السعودي العربي في حسم الصراعات في اليمن. الصراعات الدولية - هذه الدورة - في هذه المنطقة آخذة شكلا عميقا ومنهجيا هذه المرة، فلابد من حسم متعلقات الخلاف الإرتري الاثيوبي وتحديد المواقف بشكل واضح ومحدد.
3. لا اعتقد أن هناك رفضا تغراويا لخلق السلام بين إرتريا وإثيوبيا؛ بالعكس تماما العمق التغراوي يرى مصالحه الإقليمية والقومية في استقرار حدوده الجيوثقافي الشعبي التجاري مع إرتريا سوى أن هناك عقدة الطبقية بين ضفتي حملة الثقافة التغرينية ومؤثرات الخفايا السياسية بين طبقتيهما الحاكمة في إرتريا واثيوبيا. التغراي ليست ضد السلام وانما بالتأكيد في شروط السلام وفي شخوص صناع السلام.
4.رئيس الوزراء الحالي د. ابي أحمد، لا يغامر وانما ينتهز الفرص المتاحة وفي مقدمة ذلك استخدام الشارع العام الإثيوبي المتعطش للاستقرار والرخاء وفرص المواطنة المتكافئة، بالإضافة الى عوامل الفرز الدولي في المنطقة. الرجل لايتحرك مسرعا متهورا وانما يستجمع أهمية الاستقرار الإثيوبي واهمية حل متعلقات النزاع الإرتري الإثيوبي.
5. اي، المطالبة بتسوية الملف الإرتري في إثيوبيا قد تؤدي الى الإغتيال، وهناك سوابق، ولكن هذه المرة مقومات الحل أقرب منها الى التعقيد.. فقد آن الأوان للحل.. المنطقة متعطشة وارادة المصالح الخليجية الدولية متوافقة وداعمة والأثمان مقبوضة مقدما ومؤخرا.
وأما إرتريا فيمكن تلخيص المواقف كما يلي:
1. ليس هناك مؤسسة سياسية او اقتصادية في استراتيجية المصالح في إرتريا. النظام الحاكم قوي فيها بإفلاسه وعدم وجود مايدافع عنه، ولكن كون أن يأتي السلام من بين يدي الفرز الدولي الثمين، وبمبادرة إثيوبية فهذا أمر مهم ومريح له.. ماجعل ينتظر مناسبة ذكرى الشهداء التي تجري سنويا في العشرين من يونيو؛ للاعلان عن قبول مبادرة التفاوض والسلام مع إثيوبيا..
2. النظام الإرتري هو الرابح في هذا السلام.
3. يعول النظام الإرتري في تفتيت تماسك القرار الداخلي الإثيوبي.. وهي السياسة الشيطانية التي يمارسه في علاقاته الدولية، حاول ممارستها في السودان ونجح كثيرا جدا ولايستبعد أن يكون قد صنع بعدا آخر داخل إثيوبيا.. ربما يحاول أن يحمل مسئولية الحرب للخصوم التغراي وفضائل السلام للصديق الأورومو.
خلاصة:
حانت ساعة حل المشكل الإرتري الإثيوبي - لعدة عوامل - فعلينا أن نتقبله يسرا بتفاؤل؛ مثلما استسلمنا للحرب عسرا بتشاؤم، والسلام خير وافضل من الحرب ومن حالة اللا سلام واللاحرب، السلام.. كيفما كانت الدوافع.. خير من الحرب، سوى أننا ندعو الى سلام يؤسس على مصالح الشعبين وليس مصالح الأنظمة الزائلة.
ننذر بخطورة سلام الصراعات والملفات السرية المشبوهة، ننذر بخطورة تكرار وتكرير شبهات العلاقات التي صنعتها الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا مع الجبهة الشعبية لتحرير تغراي، تلك العلاقات التي أسست لسلام منقوص فيما بعد بين الدولتين والتي انتهت الى حرب بادمي غير مدركة الأسباب، تلك الملفات التي صنعت في الساحل الشمالي الإرتري ونظر لها خبراء محليون وأجانب، تلك النظرية الخاطئة التي انتهت الى خطأ جسيم..يجب ألا تتكرر. عاشت إرتريا نتائج أخطاء أبناء الثقافة التغرينية التغراي التغرينية منذ 1980 والى هذه اللحظة.. فنرجو ألا تعيش أخطاء تغرينيا أورومو في هذه المرحلة.. لا بد من سلام يخدم مصالح الشعبين واستقرارهما.
خلاصة أخرى:
دور الشعوب يجب ألا ينحصر في القبول والرفض من وحي الإنتماء وانما يجب النظر الى المستقبل والمصالح المشتركة.