المثقف بين "جنة الجماعة" ونار التنوير
بقلم الأستاذ: محمود أبوبكر المصدر: الإفريقية
ثمة فكر موتور لا يمكنه العيش بعيداً عن مساحةٍ تضيقُ بالمتضادات، تفكير يقتات على فرضية التضاد، التي تستدعي بدورها كل
شروط اللعبة الصفرية، عبر استحضار بدائي للثنائيات المتواجهة، والتي لا يمكن أن تُنه اللُعبة إلا بإنهاء أحد أطرافها وإقصاءه، ولا يضير في ظل هذه المماحكات ترديد عبارات "الديمقراطية و الحرية والعدالة" وغيرها من المفردات التي يتم إفراغها من محتواها ومضامينها الحقيقية، حيث لا يُمكن الحديث عن هذه القيم الإنسانية في ظل سيادة خطاب الثنائيات القاتلة، ذلك لأن أبسط تعاريف هذه القيم تبدأ بالتعدد، و أبعدها تدعوا للتعايش السلمي بين كافة الأطراف، بروح من التسامح مع الآخر.. التعدد ثمة الديمقراطيات الراسخة، ألف بائها الأولى، و "إما أنا أو الآخر" أهم سمات الفكر الشمولي، سواء تبنته الأنظمة أو معارضيها ! لا فرق ما دامت الخلفية واحدة، والسياسة تُمارس على أرضية الاقصاء والاقصاء المضاد!
تفكيك:
لا شك أن الأنظمة الشمولية، تعتمد على عدة "حيل" لإقامة ركائز حكمها، ربما أهمها "التغني بالوطنية" كشعار، فيما يكشف الواقع أنها تُمارس سياسات تمييزية تقصي طرف على حساب الآخر، إعمالاً لمفهوم العبارة الدارجة "فرق تسد" ذات النَفس الكولونيالي، وفي هذا السعي الحثيث الذي يقسم المجتمع بين طرف "مَحظي" بالامتيازات و آخر " المُشيطن" إنما تؤسس فعليًا لفكرة تحييد الطرف الأول خارج دائرة الصراع، حتى يتثنى للنظام الإنفراد بمواجهة الطرف الثاني، ويأخذ الصراع هنا طابعا مختلفاً، فعوض أن يكون الصراع الحقيقي حول القضاء على شروط الاستبداد، وبناء مجتمع ديمقراطي تكون فيه "المواطنة" هي رمانة الميزان، يتم إقحام المجتمع بأسره في صراع داخلي بين الطرفين الأول والثاني، ليبقى النظام في منأى عن ما يبدد صفو تسلطه الأحادي .
و تنشغل الناس بتسخين تداعيات "الأعراض" عِوَض مواجهة "المرض"، للدرجة التي يبلغ فيها المشهد لذروة سرياليته عندما تطالع مقولات هنا وهناك تعزز فكرة "استحالة التعايش" باعتبار ان طرفاً ما يُعد مستفيدا ومرتبطا بأجهزة الاستبداد، وآخر مسكون بذهنية "المضطهد" الذي يسعى بأقصى سرعة لممارسة الاقصاء المضاد، وليس غريبا في ظل هكذا أجواء أن تجد مقولات "لا قدسية للمواطنة" و "لا يمكن تسديد فاتورة الوحدة الى الأبد" فضلا عن تنامي أطروحات الأوطان القومية البديلة لفكرة "الدولة الوطنية" باستحياء لدى البعض، وبصوت أعلى لدى الطرف الآخر، اللذين سيكتشفان في لحظة متأخرة إنهما كانا معاً ضحايا الاستبداد، عرضاً ومرضاً.
الأزمة والحل:
أزمة مجتمعات العالم الثالث تتمثل أساسا في استقالة النخب عن ممارسة دورها الطليعي، وهنا لا يمكن الاعتماد على فكرة "غياب الوعي"، بقدر ما يهم قراءة دورها (أي النُخب) في إطار "التماهي" مع أفكار "العامة" النازعة نحو الإدراك السطحي، لطبيعة الصراع، وهو "التماهي" الذي تختزله مقولة فلاديمير لينين الشهيرة: المثقفون هم أقرب الناس إلى الخيانة؛ ذلك لأنهم الأقدر على تبريرها!!" والخيانة هنا أقرب ما تكون الى مفهوم "النفاق" عن مضمونها الشائع، حيث يضمر المثقف عكس ما يظهر ويعلن! فهو مدرك لطبيعة الأزمة وشروط حلها، لكن مصالحه السلطوية الجامحة، وشروط "الوجاهة الاجتماعية" تجعله متماهيا مع أطروحات "العامة" التي يعتقد أنها "عصبته" (حسب الوصف الخلدوني) ووسائل فرض "حزوته" المفترضة ! فتجده أكثر الناس خيانةً لفكره، وأكثرهم نفاقاً لمن يعتقد أنهم "مُريديه" أو "قطيعه" لا فرق! وهنا تبدو الأزمة النفسية أكثر حضوراً حين يقع المثقف في فخ النقاش الفكري الحقيقي، وسؤال "هل نفكك شروط الإستبداد في المجتمع أم نفكك المجتمع نفسه"! من خلال تعزيز أطروحات معينة تنتمي لفكر ما قبل الدولة الوطنية.
مشاهد:
منذ سنوات خلت جالست "مثقفاً" يسبق أسمه بحرف "الدال متبوعة بنقطة" وكم بدا لي متسقاً مع الأفكار التنويرية التي تزدهر في منفاه، لاحقًا وفي لحظة "تماهي تاريخي"، وجدته منظراً لأحدى المجموعات ذات "الطرح القبلي"، حيث تحوّل الى "أمير انتقام" ليس من النخب المحظية فحسب، بل من رفاقه السابقين ومن تاريخه وفكره الذي كان تنويرياً، ذلك أن مثار أزمته النفسية، ناتج عن عدم قدرته في تبوأ موقعا ظل يحلم به، في "دائرة النخب المستنيرة"، ويبدو أن المعادلة كانت واضحة أمامه، بين أن يبقى "عنصرا فاعلا في الدائرة السابقة - بكل ما تفرضه من تحديات - وبين أن يكون الناهي والآمر والمحظي بالألقاب في الدائرة المقابلة" وكان القرار ان ينافق الدائرة الثانية إعمالا لسلطويته، عِوَض أن يكون وفياً لفكره وقناعاته! ولعل هذا المثال الأبرز لفكرة كيف أصبح اليوم القابض على الفكر كالقابض على الجمر، يحتمل من جهة احتراق أصابعه ومن جهة أخرى يقف أمام حرائق أكثر ضراوة تشعلها "عُصبته"، التي لا تؤول جهدا من أجل جره الى محيطها، وهنا الامتحان بين أن يعيش في "جنة العصبة"، أو يصطلي بـ "نار التنوير".