مع أبو ياسر في التقسيم الثلاثي للمكون الإرتري - القسم الثاني من الحلقة الثانية
بقلم البروفيسور الدكتور: جلال الدين محمد صالح
ماذا تعني (بملوك القبائل) أو (السلاطين) هل تعني أنهم كانوا ملوكا على قبائل؟ وسلاطين على قبائل ؟ إن كان هذا، فما العيب فيه ؟
وهل كانت الممالك في ذلك التاريخ، عند هذه القبائل، وعند غيرها، كما هي اليوم في حاضرنا المعاصر؟ أليس هذا قراءة للتاريخ بمعايير الواقع السياسي الذي نعيشه ؟ وهل هذا صحيح في التعامل مع التاريخ ؟ .
أم تقصد أنْ ليس لها نظام سياسي، يحدد علاقة أفرادها فيما بينهم، وعلاقتهم جميعا بالملك القبلي، أو السلطان القبلي، الذي يحكمهم، وبالأرض التي يحرثونها، ويرعون عليها ؟.
هل هذا فعلا صحيح، إن كان هو المقصود ؟ ماذا إذن عن الأعراف القبلية الموروثة، بغض النظر عن المآخذ التي قد يبديها زيد أو عبيد ؟.
وماذا عن تلك الحروب التي قاد فيها عظيم البجة كنون بن عبد العزيز، كافة ممالك قبائل البجة، في مواجهة جيش العباسيين، بقيادة عبد الله بن الجهم، الذي وقع معه عظيم البجة كنون بن عبد العزيز، كما تسميه الوثيقة العباسية، التي أبرت معه، بشهادة رجلين من الحجاز، نصت عليهما بإسميهما في خاتمتها التي تقول: "ترجم جميع ما في هذا الكتاب حرفا حرفا، زكريا بن صالح المخزومي، من سكان جدة، وعبد الله بن اسماعيل القرشي".
كان هذا عقب الهزيمة التي مني بها، جيش البجة، بقيادة عظيم البجة، كنون بن عبد العزيز، ونشر هذه الوثيقة المقريزي، في خططه.
وماذا عن ملك البجة علي لباب الذي قاد حملة مواجهة، ضد الجيش العباسي أيضا، بقيادة عبد الله القمي، ثم هو الآخر وقع وثيقة الهزيمة، والاستسلام، بعد معركة حامية الوطيس، كما ذكر ذلك ابن كثير في تاريخه (البداية والنهاية)؟.
هل كل هذا لا معنى له؟ ولا يمثل شيئا في تاريخ الشعوب ؟ وهو مجرد انطباعات رحالة، وجغرافيين، كابن حوقل، وابن بطوطة؟ وياقوت الحموي، من الجغرافيين؟ كما تقول ؟.
وهل ما ذكره هؤلاء، من معلومات، عن الشعوب التي زاروها، وعن جغرافيتها التي تحدثوا عنها، وعن التكوين القبلي، والثقافي الذي دونوه عنها، وعن العلاقات السياسية، بينها وبين من جاورها، حربا، وسلما، وعن النظام السياسي الذي بموجبه تدير شؤونها، لا قيمة تاريخية له أبدا ؟!.
أبهذه البساطة والسهولة، يُلْغَى تاريخُ الشعوب، ويشكك فيه؛ لمجرد أنه لا يتوافق والنزعة الوطنية السائدة، في الدولة القطرية الحديثة، هنا، أو هناك ؟!.
وكونها كانت (ملوك القبائل) أو (السلاطين) هل يلغي تاريخها الحضاري، ونظامها السياسي، وحقها التاريخي، في أرضها وتربتها، أيا كان هذا النظام، ملكيا، سلطانيا، على نمط قبائلي، أو على نمط جماهيري، بدائيا أم تقدميا، كل حسب حضارته، وتاريخه في المنطقة؟.
كل الممالك في التاريخ البشري تطورت، ومرت بمراحل، وما زالت في تطور مستمر، وتطورها اللاحق، لا ينفي أبدا وجودها التاريخي السابق.
ألم تكن بعض دول الخليج، مشيخات قبلية، ثم تطورت إلى دول حديثة، معترف بها، وبعض منها، لا يبلغ سكانه المليون نسمة؟ التاريخ لا يقرأ بهذا المنطق.
أجزم أنك أهل - بما تملك من قدرات - للقيام بقراءة أكثر تحررا وتخلصا، من تأثير العامل السياسي الحاضر، إذ ليس من المنهجية السليمة، إخضاع التاريخ لتأثيرات الواقع السياسي، أو لمواقف سياسية مسبقة، تتحكم عليها عواطف وطنية، مع كامل الاعتبار والتقدير للعواطف الوطنية بصفة عامة.
كثيرون هم الباحثون الذين كتبوا، وناقشوا في ذلك، رسائل علمية، على مستوى الماجستير، والدكتوراه، في جامعات مرموقة، عربية وأجنبية، ما وصلوا أبدا - في حدود اطلاعي طبعا - إلى ما قررته أنت، بشأن تاريخ البجة وممالكهم، وممالك الطراز الإسلامي، ودولة أكسوم؛ لمجرد النزعة الوطنية الإرترية، التي تملأ وجدانك، وتُشْكَرُ عليها، وتُحْمَدُ، والتي يحملها كل مواطن إرتري غيور على وطنيته، مثلك، ولكن مع كل هذا، الحكم على التاريخ، يجب أن يتجرد من كل العواطف، عندما يناقش التاريخ وتطوره.
قد تكون لك رؤيتك التاريخية التي تؤمن بها، وقد يكون لك موقف نقدي لما هو متداول من التاريخ، وهذا حق من حقوقك التي لا ينازعك فيها أحد، ولكن البرهنة، عند الإثبات أو الإنكار، مطلب ضروري، بالمرويات الظنية، أو القطعية، وغالب مرويات التاريخ ظنية، وثمة فرق بين الرواية التاريخية، من حيث النفي، والإثبات، وبين تحليلها للخروج بنتيجة موضوعية، وإذا كان التحليل غير ممكن فصله عن الشخصية المحللة، بكل ما تحمل من خصائص، فإن البرهنة بالنفي أو الإثبات للمقولات التاريخية، ضرورة لا بد منها، وغير ممكن تجاوزها، وهنا تكون المناقشة جد مفيدة، لكل الأطراف، بعيدا عن الانحيازات السياسية المسبقة.
ومع ذلك عَلَيَّ أن أتفهم الجو العام، والحالة التحاورية، التي أدليت فيهما، بهذه المداخلة التاريخية، فإنهما لا تتيحان للقلم، إلا أن يكتب، ما تسعفه به الذاكرة، من معلومات العصف الذهني، التي تكون هي الأخرى، في حاجة إلى الفحص، والغربلة، والتأمل، والتأني، ولكن مهما كان، فإنك قد نبشت المكنون، واقتحمت العقبة؛ للدخول بنا في هذه المناقشة، التي يعود إليك الفضل، في إثارتها، وأحسب أنها ستُحفِّزُ الآخرين للإدلاء بدلوهم، بقدر ما يملكون من معلومات تاريخية، وهو ما يفيد الجميع، وتستحق عليه الشكر، والتقدير.
من الصعب جدا، أن أفند تقريراتك التاريخية هذه، في هذه العجالة من المناقشة، بتوسع أكثر، ولكن أحيلك إلى البحث عن تلك الرسائل العلمية، وغيرها من الأبحاث والدراسات المكتوبة، في هذا المجال، من متخصصين، وسوف تجدها بسهولة؛ لكونها مطبوعة ومتوفرة، في المكتبات العامة، والمكتبات الجامعية، ومراكز الأبحاث، وقد كتب بروفسور تركي يدعى (سنجيز أورهونلو) بحثا قيما، موثقا بالوثائق العثمانية، عن صراع الإيفاتيين بقيادة الإمام أحمد جري، ضد البرتقاليين، متحالفين مع العثمانيين، ولكن باللغة التركية، اسمه (حَبَشْ إِيَالَتِي) يعني (ولاية الحبشة) نشرت طبعته الأولى، جامعة اسطنبول، كلية الأدبيات، عام 1974م، أهدانيه مدير مكتبة الوثائق العثمانية، في أنقرة، التي زرتها، في أغسطس، من صيف هذا العام 2017م، وهو متخصص في التاريخ العثماني، ومحاضر في جامعة أنقرة، وإلى جانب عمله المكتبي، يشرف على الرسائل العلمية، في التاريخ العثماني, وقد اتفقت مع باحث سوداني في أنقرة، أن يجد لنا من يقوم بترجمة هذه الدراسة التاريخية، عن منطقتنا، إلى اللغة العربية، عسى أن نجد من يتحمل تكاليف الترجمة، وحق المؤلف، عند الحصول على موافقته.
وبهذه المناسبة، أدعو الطلاب الباحثين، في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، من أبناء البجة والإيفاتيين، في إرتريا، والسودان، وإثيوبيا، والصومال، المتخصصين منهم في التاريخ، أو العلوم السياسية، بالذات، أن يشتغلوا بالبحث، في هذا التاريخ المهمل، من خلال تسجيل عناوين بحثية، تخدم تاريخهم، ومجتمعهم، وأفيدهم أن المكتبة العثمانية حافلة بعديد من الوثائق المهمة، في هذا الجانب، وأطمئنُهم بأن اللغة العثمانية، سهلة جدا؛ لقربها في كثير من صياغاتها باللغة العربية؛ ولكونها تكتب بالحرف العربي، على خلاف اللغة التركية الحديثة، فإن تعلمها بالنسبة للعارفين باللغة العربية، لا يأخذ أكثر من ستة أشهر في تقديري، ولم أجد صعوبة كبيرة، في قراءة نصوص بعض الوثائق التي وقفت عليها، عبورا.
الأستاذ الفاضل الأخ صالح سعد الذي وصف التقسيم الثلاثي، وهو يعرب عن موافقته لك، فيما كتبت وقررت!، بعدم التماسك، مقارنة بالتقسيم القومي الذي رآه متماسكا نوعا ما، بالرغم من تحفظه عليه، كما قال.
وأنا إذ أُعْرِبُ عن إعجابي هذا به، في منهجية نقده، أَعْجَبُ أيضا من موافقته لك، في تقريراتك التاريخية، التي قررتها، مع أنها مشوبة بكثير من نقاط الخلل، في قراءتي لها، من حيث المنهجية التاريخية، والنتائج التي وصلت إليها، ربما هو الآخر حمله على إبداء هذا التأييد الموقف السياسي المسبق الذي حملك أنت، وهو رفض الحل الفيدرالي، فيما أظن، وأحلل لهذا التأييد بالتحديد، وربما هي موافقة على الإجمال، لا على التفصيل.
وتشخيصي له بالذات، دون غيره، من بعض مؤيديك؛ لعلمي أنه يتمتع بقدرات بحثية عالية، ومنهجية، على خلاف بعض من أثنى على مقدماتك التاريخية، والنتائج التي ترتبت عليها.
وإعجابي به آت من أنه تناول التقسيم مباشرة بالنقد، دون ربطه بمقاصد سياسية سلبية، وإن كنت في تطلع إلى معرفة، أين يكمن عدم التماسك فيه، من وجهة نظر أخينا الأستاذ صالح سعد، حتى أتأملها؛ فأتخذ إزاءها ما يمكن اتخاذه، وسأكون على تواصل معه، تثاقفا، وتفاكرا.