مع أبو ياسر في التقسيم الثلاثي للمكون الإرتري - القسم الاول من الحلقة الثانية
بقلم البروفيسور الدكتور: جلال الدين محمد صالح
ثانيا: الجانب التاريخي: العامل السياسي نفسه، أراه حاضرا في ذهنيتك ــ أخي أبو ياسر - ومصاحبا لك، في كل ما سطرت من أسطر،
في الجانب التاريخي، أيضا، كما الجانب السياسي، إذ حملك على قراءة التاريخ، قراءة سياسية، بتأثير من الواقع السياسي الذي تعيشه، ونعيشه معك، بكل همومه وتفاصيله الدقيقة، وضغوطاته السياسية، وعواطفه الوطنية، وانطلاقا من كل هذا أنكرت ما أثبته تاريخ البجة، وتاريخ الإيفاتيين، وتاريخ الأكسوميين، من وجود حقيقي لهذه الممالك، وفسرت بعضا منه بما يتناسب وموقفك السياسي المسبق، متأثرا بهذا الواقع السياسي الذى يظهر أنه يتحكم عليك غاية التحكم، في تعاملك مع التاريخ، ويأبى أن يتركك طليقا، كما يبدو لي.
وأظن لو أنك قرأت تاريخ البجة، وتاريخ الايفاتيين، وتاريخ الأكسوميين، وتاريخ المنطقة كلها، بعمق أكثر، وبمعزل عن هذه القناعة التي تحملها، واتخذت منها منطلقا لك في النقاش، والتي عبرت عنها سلفا بقولك: (التأسيس لمشاريع سياسية، بإيجاد مبررات من معلومات تاريخية مجتزأة، وغير مترابطة، ومن ثم إسقاطها على رؤية سياسية "لما كتبت في ظني كل هذا الذي كتبته، وقررته، ليس عن تاريخ البجة فحسب، حين قلت، من واقع هذا التأثير السياسي: (لا سابقة في التاريخ الإرتري، أو شرق السودان، لدولة بجاوية) وإنما أيضا عن تاريخ المنطقة كلها، حين أنكرت حقائق من تاريخها الموثق.
هل فعلا قال التاريخ: أن (لا سابقة في التاريخ الإرتري، أو شرق السودان، لدولة بجاوية).
ما هو التاريخ الإرتري ؟ من أين يبدأ التاريخ الإرتري زمانا ومكانا؟ ما مصادر التاريخ الإرتري ؟ هل هناك شيء اسمه تاريخ إرتري قبل الطليان، من غير تاريخ البجة، والإيفاتيين، والأكسوميين ؟ ماذا تعني بقولك التاريخ الإرتري ؟ وما هو تاريخ شرق السودان ؟ ما مصادره ؟ ما بدايته زمانا ومكانا ؟ من هم صانعوه ؟ من هم قادته وأبطاله ؟ من هم أهله ؟ ما معالمه وملامحه ؟ من أين يبدأ ؟ هل هناك شيء اسمه تاريخ السودان قبل الإنجليز من غير تاريخ البجة، دعك من تاريخ شرق السودان؟ ومن أين استقيت هذه المعلومة التاريخية (لا سابقة في التاريخ الإرتري، أو شرق السودان، لدولة بجاوية) هل فكرت قبل أن تصوغها، بهذه الصياغة النافية، الجازمة؟.
هل فعلا قال التاريخ: أن مسلات عيزانا لم تذكر البجة، بل ذكرت (الهاسا أو الخاسا) كما تقول ؟!.
هل يعقل كل مسلات عيزانا لم تذكر (البجة) وكل مسلات عيزانا، ذكرت (الهاسا أو الخاس) ؟.
هل هذا التعميم بصيغة الجمع (مسلات) يتناسب والمنهجية العلمية، في تحليل التاريخ ومناقشته ؟.
لمجرد الفائدة، فحسب، وليس من باب التحدي، أين ذكرت مسلات عيزانا ( الهاسا) أو الخاسا ؟ أي مسلة هذه؟ يا حبذا لو وثقت هذا - لمجرد الفائدة - لا للتحدي؛ لأني قرأت مراجع عديدة، وما رأيت الخاسا، إلا فيما كتبه (نعيم شقير)، في كتابه (تاريخ السودان) عن ما أسماه (خاسا) ولكن لم يقل بوجودها في مسلات عيزانا، وإنما ذكرها مشيرا إلى تداول الشماليين في السودان، لهذا المصطلح، في حدود تذكري، هل أنت متأكد فعلا مما ذكرت ؟.
ولكن ماذا عن تلك الآثار المكتشفة، من حفريات في أرض أكسوم، والتي جاء فيها لفظ (البجة) بهذه الصراحة، والتي باتت مرجعا موثقا عند المؤرخين، ويمكن إثباتها بكل سهولة ؟.
فقد وجد نقش حجري، اكتشفته البعثة الألمانية عام 1905م، أورده مستر (بول) في كتابه (تاريخ البجة بشرق السودان) يكشف عن تفاخر عيزانا بتوسع دولته، وتمدد نفوذها، واصفا نفسه بأنه قاهر (البجة) هكذا بالاسم الصريح، وأنه وصف نفسه في النقش بقوله: "ملك أكسوم، حاكم حمير، وريدان، والحبشة، وسبأ، وسيلة، وتيام، وكاسو، والبجة، ملك الملوك، ابن محرم الذي لا يغلب".
تعليقا على هذا النقش، يقول المؤرخ المصري، المتخصص في التاريخ الإثيوبي، رياض زاهر عن عيزانا، في كتابه (تاريخ إثيوبيا) معهد الدراسات الأفريقية، القاهرة: "من هذه النقوش استطعنا أن نعرف، أن حكم هذا الملك كان طويلا مزدهرا، علاوة على كونه جنديا عظيما، ومحاربا شجاعا... اتسعت مملكته حتى شملت أكسوم، وحمير، وريدان، وسبأ، وصالحين، وسيامو، وبجة، وكاسو.
أما أكسوم فعاصمته، وحمير وريدان وسبأ وصالحين في اليمن، أما بجة، فلا شك أنه يعني قبائل البجة، التي كانت تسكن بين النيل والبحر، وكاسو هي قبائل كوش، التي كانت تسكن ضفاف النيل النوبي، جنوبي الشلال الثاني".
ويقول مستر بول في تحليله لهذا النفش الذي اكتشفته البعثة الألمانية عام 1905م، وهو يعدد أهميته، في كتابه المنشور (تاريخ البجة في شرق السودان): "والأهمية الثانية، تكمن في ذكر القبائل الحامية، لأول مرة، في ساحل البحر الأحمر، بالاسم الذي تعرف بها الآن، في الوقت الحاضر، وهو البجة... وفي تلك الحملات لابد أن الملك استغل كل ما لديه من الرقيق؛ لإخضاع البجة الشماليين، وإن تلك الحروب التي استمرت لفترة من الزمان، ما زالت تتواصل رحاها، على ضفاف نهر عطبرة، وبركة، والجاش".
هذا ما ذكره المؤرخون عن عيزانا، في ذكره للبجة، بالاسم المعروف اليوم، (بجة) فياليت تقول لي: أي مسلة هذه التي لم تذكر البجة، من مسلات عيزانا، وذكرت الهاسا أو الخاسا، وإذا افترضنا ذلك جدلا، هل عدم ذكرها لاسم البجة، ينسخ أو يكذب ما ذكره هذا النقش، وقبل هذا يكون أجودا، لو حددت المسلة نفسها، من بين مسلات عيزانا الكثيرة ؟!.
هل فعلا يقول التاريخ، كما تقول أنت : أن الناطقين بـ(التجرايت) لم يكنوا ضمن هذه التسمية يعني (البجة) ولا تعنيهم أبدا ؟.
فماذا إذن عن البني عامر الذين يقول عنهم المؤرخون العرب، وغير العرب، والمؤرخون البجة، وغير البجة: إنهم من البجة ؟ هل هم مجرد أناس واهمون، لا يعبرون عن الحقيقة التاريخية ؟.
كم هو جميل منك، أن تورد المصدر الذي اعتمدت عليه، في تقريرك لهذه المعلومة، وتأكيدك لها ؟ كيف نثبت أن البني عامر وهم الناطقون بالتجرايت في غالبهم، ليسوا من البجة ؟.
وهل فعلا أن وصفك لدولة أكسوم بأنها (لم تكن لها خريطة محددة، بل ظلت دولة غزوات، وحملات تأديبية، لكن وجودها الفعلي كان في إطار خريطة تجراي الحالية) يمثل الحقيقة التاريخية لدولة أكسوم ؟ ألا تراه يقزمها، ويحجمها، ويلغي تأثيرها الحضاري ؟ وتوسعها الجغرافي، بغير برهان تاريخي، وإنما بنزعة عاطفية، من مشاعر وطنية؟ وما معنى قولك (وجودها الفعلي) ؟.
هل تقصد أنها لم تحكم فعليا، شعبا غير شعب تجراي؟ وعلى أي حد تصح هذه الدعوى منك، إن كانت هي مقصدك؟ وإلا فما معنى قولك: (وجودها الفعلي) ؟ كم حكمت أكسوم اليمن ؟ هل كان وجودها في اليمن مجرد غزوة، ثم عودة إلى إقليم تجراي الحالي والإنكماش فيه ؟! وماذا عن ذلك النقش الذي تفاخر فيه عيزانا نفسه بإخضاع تلك الأمم والشعوب لحكمه ؟!.
هل كانت فعلا - كما تقول - دولة غارات خاطفة، ثم سرعان ما تعود، فتنزوي، وتتقلص، في إقليم تجراي ؟ أم كانت إمبراطورية ممتدة، يتحالف معها الرومان، وينافسونها، والفرس أيضا ويخشونها، تضاهيهم في نفوذها الإقليمي، تملك أسطولا بحريا، يهيمن على ميناء
عدول (عدوليس) وقوى عسكرية ضاربة، تحتل اليمن، بأسطول بحري تحرك من ميناء عدول، بقيادة أبرهة، ويستنجد بها المستنجدون من اليمن؛ للتدخل في شؤونه، حسما لتدافعات وتنازعات أهله الحميريين ؟.
وإذا ما سلمنا جدلا بما تقول من أن (وجودها الفعلي) (كان في إطار خريطة تجراي الحالية) هل كانت فعلا (خريطة تجراي) في عهد دولة أكسوم، هي (خريطة تجراي الحالية) في عهدنا هذا ؟.
وماذا إذن عن الهضبة الإرترية بأقاليمها الثلاثة (حماسين، سراي، أكلي جوازي) ؟ ألم تكن مشمولة بخريطة تجراي، في عهد دولة أكسوم ؟ هل كانت دولة مقابل دولة عيزانا، في عهده الأكسومي ؟ أم كانت امتدادا لدولة أخرى في المنطقة، عاصرت دولة أكسوم ؟ وما هي ؟ إلي أي حد تعتقد أن هذه المعلومة صحيحة، من الناحية التاريخية ؟!
وهل نهاية دولة إيفات بالصورة التي ذكرتها، يعني بالضرورة نهاية تاريخها ؟ وحتمية تجاهلها، وإلغاء مكونها الشعبي ؟ وإلغاء تأثيرها الثقافي، والحضاري، من هم سكانها ؟ وأين هم الآن ؟.
المقام لا يسمح، ولا يتسع - أخي أبو ياسر - لمناقشة هذه القضايا التاريخية الشائكة، والكبيرة، التي تناولتها أنت بهذه السهولة، والبساطة، وبهذه العجالة، والكلمات المرسلة، ثم بنيت عليها، بجرة قلم، ما أردته وحملته مسبقا، من موقف سياسي، ولكن حسبي أن أقول لك - مع كامل الاحترام والتقدير: نتائج تاريخية بهذا الحجم، ما أظن تقرر بهذه العجالة.
وددت لو أنك تريثت أولا، ثم تعمقت أكثر، بقراءة أكثر من مصدر، في تاريخ ممالك البجة، وتاريخ دولة أكسوم، وممالك الطراز الإسلامي، التي منها مملكة إيفات الإسلامية، التي قلت عنها ضمن ما قلته عن ممالك البجة (كل قبائل المنطقة عاشت في إطار ما يمكن أن نسميه دولة القبيلة، ملوك القبائل، أو السلاطين، وهو واقع كان موجودا، إلى وقت قريب).