فنحن بحاجة إلى سلام لا إنشودة سلام
بقلم المناضل الأستاذ: حامد ضرار - الرئيس السابق لحزب الشعب الديمقراطى
دعونا نتكلم بصوت مسموع للارتقاء بوعي شعبنا وتلمس المشكلات الحقيقية التي تواجهنا:
الساحة الإرترية مليئة للأسف بالمنغصات إلى حد بدأت معه الظواهر السالبة تظهر إلى السطح على نحو مخيف. ففي السنوات الأخيرة ظهرت في المهاجر حركتان:
الأولى: بررت ظهورها بحماية مصالح مجموعة من قاطني منطقة جغرافية سمتها المنخفضات.
والثانية: حركة متطرفة أعلنت عن رغبتها التدميرية لمكونات المجتمع، كما شهدت الساحة تطورات كثيرة أخرى.
إلا أن رابطة المنخفضات ومجموعة الأقازيان كانتا أكثر القضيتين اللتين أثير حولهما الجدل وانقسم الناس فيما طرحتاه مابين مؤيد ورافض وأغلبية صامتة.
قبل تناول موضوع أنشودة السلام، أجدني ومن خلال تجربة الكتابة حول موضوعات خلافية في الساحة، أقول إن التعبير عن الرأي في قضية عامة درج الناس على وسم من يعبر عن قناعته حولها على نحو لا يرضيهم، بنعوت وتسميات غريبة والتشكيك في موقفه لجهة رميه بتهم لها آخر وليس أول. مع ذلك، مسألة التعبير عن الرأي مسألة مقدسة شريطة تقديمها بشكل لائق وغير مسيء.
من هذه المقدمة السريعة انتقل إلى موضوعة "أنشودة السلام" التي تابعنا وما زلنا ما صدر وما يصدر عنها من كتابات مصدرها إثيوبيا وأديس أبابا تحديداً. وبطبيعة الحال، إن السلام مطلب الشعب الإرتري وكل من يسعى إلى جلب السلام فهو مرحبٌ به ولاشك. مع ذلك على ضوء المتابعات هناك ملاحظات مهمة أود إيرادها لكون الأمر يتعلق بوطن يهمنا أمره ولا يجوز أن تمر الأمور ونحن نتفرج:-
أولاً: الغالبية من الذين يسوقون للفكرة هم أبناء تقراي ومن التقارو الذين ولدوا في إرتريا، باستثناء واحد أو إثنين من الإرتريين؛
ثانياً: كل الأسماء التي تم إعلانها هي من المسيحيين؛
ثالثاً: خلو المبادرة من بقية المكونات الإثيوبية من الأرومو والأمهرا.
رابعاً: ليس هناك جهة رسمية تتبنى هذه المبادرة.
طبعاً لايمكن أن يتم ترديد لحن السلام أو انشودته أو حتى المبادرة فيه دون أن يكون هناك سلام حقيقي. ولايمكن أن يكون سلام مع إقليم تجراي لوحده في غياب المكونات الإثيوبية الأخرى.
في يقيني أن الطرف الإثيوبي غير جاد لتحقيق السلام، وإلا فطريق السلام هو تطبيق حكم المحكمة الخاصة والانسحاب من بادمي وبقية الأراضي الأرترية دون قيد أو شرط والتواصل مباشرة بالحكومة في أسمرا للتباحث في مشروع السلام.
وبمتابعة خيوط المواقف الإثيوبية وبالذات نظام الثورة الشعبية لتحرير تقراي الوياني خلال العقدين الماضيين يتأكد لنا عدم ميله للسلام، بل كل ما يقوم به هو لذر الرماد في العيون.
عقدة الوياني:
فكم كان يردد رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل ملس زيناوي ومسؤولون آخرون بمناسبة ودون مناسبة أن الرئيس الإرتري إسياس أفورقي كان يحاول فرض إملاءاته عليهم في كثير من الأوقات ويهددهم إذا لم ينفذوا أوامره الأمر الذي أضطرهم لدخول الحرب معه، يعني يجعلون من إسياس أفورقي عملاقاً ليبرروا هجومهم على إرتريا!!
دأب المسؤولون الإثيوبيون ومازالوا يصورون أن أبناء "أربعتى أسمرا" والمقصود أبناء الحماسين هم المتعجرفون وعليه يجب إذلالهم؛ في إشارة خبيثة لتأجيج صراع إقليمي بين أبناء أقاليم المرتفعات الإرترية الثلاثة لإدراكهم عدم وجود أسباب أخرى غير الإقليمية بين الأخوة الثلاثة لخلق التناحر بينهم من شاكلة المسيحية والإسلام أو الصراع القومي كما هو الحال مع بقية المكونات الوطنية الإرترية،
قبل حوالي العامين من الآن عند إجتماع وفدي إرتريا وإثيوبيا، حيث مثل الأخير كما يقال أباي ظهايي وإرتريا يماني قبرآب وبواسطة دولة صديقة وبحضور مرجع كنسي عالمي وفي دولة إفريقية، وبهدف التوسط بين الطرفين بحجة أن النزيف البشري للدولتين سيؤثر على المكون المسيحي وبالذات الناطقين بالتجرنيا. أبلغ وفد النظام في أسمرا للوسيط عدم ثقته بالوياني قائلاً: أنه نظامٌ لا يؤتمن ودلل على ذلك بما أسماه عمليات الغدر التي ارتكبها ذلك النظام في وقت الصراع الإرتري اليمني على أرخبيل زغر حانش والخلاف مع النظام السوداني عام 1995 إثر محاولة إغتيال حسني مبارك في أديس أبابا.
هنا بدأت دوائر النظام الإثيوبي، بعد فشل تلك الوساطة بترديد المعزوفة المشروخة القائلة إن إسياس يريد أن يصبح عملاق الإقليم كما كان يحلم في منتصف التسعينيات من القرن الماضي.
وبمناسبة عملاق المنطقة وعندما كان إسياس وملس يمثلان قطبي أساسين في الإيغاد وفي مجموعة نادي الشباب الأفارقة الذي رشحه الأمريكان في مواجهة ماسموه "الجبهة القومية الإسلامية" بعد انتصار كابيلا في زائير. في تلك الأثناء ظهرت نقاشات بين الأكاديميين وأنظمة استخبارات في الغرب وتم طرح تساؤل مفاده" هل الدولة الإقليمية أو The Regional Power بالضرورة أن يكون عدد سكانها 90 مليون وجيش جرار أم يمكن أن تكون تلك القوة بسكان 9 ملايين وجيش منضبط وشعب نشط. وكان النقاش يعني إرتريا في أن تكون مثيلة لإسرائيل من حيث تشابه في عدد السكان والانضباط مع أفضلية لإرتريا من حيث موقعها الاستراتيجي وكبر مساحتها التي تعادل أكثر من 10 أضعاف لمساحة اسرائيل، هنا ظهرت عقدة الحكومة الإثيوبية وبدأ الخوف الغير مبرر يعصف بها وبدأوا ترديد إن إسياس يحلم في أن يكون عملاق المنطقة ጎብለል ክኸውን ይሓስብ ኣሎ ኣቶ ኢሳያስ انطلاقاً من ذلك الوهم القديم، بدأت أجهزة الاستخبارات الإثيوبية محاولاتها في اصطياد الإرتريين من مختلف المواقع وبخاصة العاملين في السفارات الإرترية والمبتعثين للدراسات والمتواجدين في دول الجوار وذلك لغاية تسويد النظام والعمل لجهة اسقاط مشروع الدولة الإرترية وليس الاكتفاء باسقاط نظامها.
وعملت تلك الاستخبارات منذ لحظة توقيع اتفاقية الجزائر على إغراء بعض الدبلوماسيين الإرتريين بمنحهم جوازات سفر دبلوماسية للهروب من النظام، وذلك في محاولة لاستغلال تعميم الخارجية الإرترية الذي طلب ضرورة عدم منح التأشيرة للجوازات الدبلوماسية الإرترية إلا بموجب رسالة من المكتب المركزي للخارجية في أسمرا وموقعة من الوزير شخصياً. ولم تجد المحاولات الإثيوبية أي تجاوب سوى من شخصين أو ثلاثة في أحسن الفروض دون أن يكون لهم التأثير الذي توقعته السلطات الإثيوبية.
من المعارك الاستخباراتية الإقتصادية التي خسر فيها الأمن الإثيوبي قد كانت فضيحة الفضائح، وهي صراع "النقفة" الأخير،حيث قامت السلطات الأمنية الإثيوبية بسحب ملايين النقفة الورقية وذلك بشرائها من السوق بالعملة الصعبة وتحويلها إلى مقلى ومدن مجاورة أخرى. كان الهدف المتوقع هو سقوط النظام في أسمرا بسبب نفاد العملة وتوقف الحياة، وبالتالي إعادت تلك النقفة للسوق ريثما يتم اصدار عملة أخرى. إلا أنه وكما بدا لاحقاً أن اجهزة النظام في أسمرا، كانت على علم بالمخطط وشرعت سراً في عملية طباعة الأوراق النقدية مع تغيير بعض الملامح فيها وادخالها إلى السوق دون علم الجانب الإثيوبي، ليضحي ما تم تجميعه في جوالات من النقفة ورق لاقيمة له.
النقاشات التي كانت تدور ولازالت في داخل أديس أبابا وغيرها من المدن وبين المهاجرين الإثيوبيين في أوروبا وأمريكا، هناك شبه اتفاق من أن حصار النظام في إرتريا وحالة اللاحرب واللاسلم التي فرضتها إثيوبيا عليه لم تؤثر على إرتريا بقدر تأثيرها الخطير على إثيوبيا. فهناك كما يعتقد، في داخل إثيوبيا، أن كل من يذهب إلى شمال إثيوبيا،أي إلى الحدود الإرترية، كما كان الحال قبل تحرير إرتريا، مصيره الموت هناك وسوف لن يعود.
كما أن هناك أعتقاداً قوياً في إثيوبيا، مفاده أن النظام الإرتري استطاع أن يؤثر على الحياة الإثيوبية على عكس ما كان يروج لها ملس زيناوي وغيره. فالمعارضة المدعومة من قبل إرتريا قد تركت تأثيرها الواضح في اثيوبيا، أما المعارضة المدعومة من قبل إثيوبيا، حسب أقوال الإثيوبين، لا تحرك ساكناً وذلك، لأن سياسة المسؤولين الإثيوبيين هو العمل لاستمرار الصراع مع إرتريا على أمل أن يؤدي إلى انهيار البلد وزوال النظام.
من هذه الخلفية وهذه السوداوية خرجت تصريحات الجنرال ظدغان قبري تنسائي الداعية إلى غزو إرتريا لاسقاط النظام والتي اطلقها قبل أشهر قليلة من هذه السنة.
هناك حالة من الغليان والرفض الواضح لحكم الوياني في إثيوبيا، لأسباب معروفة، وهناك محاولات لإرضاء الأورومو والأمهرا وحتى الصوماليين في إقليم أوغادين من قبل الحكومة.
مع الضغط وحالة الرفض التي بدأ يحس بها حكام إثيوبيا من أبناء التغراي من قبل القوميات الأخرى، في وقت فقدوا فيها امتدادهم الآمن في إرتريا جراء الحرب واحتلالهم لأراضي إرترية ورفض نظام أسمرا الجلوس معهم قبل الانسحاب، كل ذلك جعلهم يضربون خبط عشواء فكان مشروع الأغازيان أحدى الأمال التي يتشبثون بقشتها الهشة أملاً في أن يجدوا لهم دعماً وخلفية استراتيجية تكون لهم عمقاً يقيهم من جحافل القوميات العملاقة التي تتربص بهم وبحكمهم.
وبطبيعة الحال، أن رهان الوياني الأكبر يتعلق بحلم انهيار إرتريا ودخول مكوناتها في حرب أهلية لتدخل قواتهم إرتريا حاملة في جعبتها مشروع أغازيان لتعيد الاستفتاء أو تقسيم إرتريا بينها وبين آخرين من دول المنطقة.
العامل الأساسي لكل التحركات بما فيها جماعة أنشودة السلام هو الدعاية القوية التي بدأ يرددها كوادر الوياني في الداخل والخارج وهي، أن إسياس يحلم الآن أيضاً لأن يكون عملاق زمانه بدخوله التحالف العربي وسماحه لدولة الإمارات باستئجار ميناء عصب.
إنهم يقولون أن هناك حرباً قادمة بين العملاقة إثيوبيا والتحالف العربي الإسلامي وبالتالي لابد من تحريك المسيحيين الإرتريين والإثيوبيين ضد إسياس بالزعم أنه قد باع إرتريا المسيحية للعرب وضحى بمصالح إثيوبيا على نحو يتطلب من الجميع إيقافه من الذهاب في هذا الاتجاه الخطير.
ختاماً، أقول وأكرر حقيقة يعرفها الإرتريون أن النظام الإثيوبي وللأسف يهدف إلى تقويض إرتريا ولا يسعى لدعم معارضتها للإتيان بالتغيير المنشود، فمن خلال تخويف الشعوب الإثيوبية من إرتريا ونظامها يأمل في إيقاف معارضيه من القوميات الكبيرة مثل الأرومو والأمهرا دون التحرك لتجييش الشارع ضد أبناء التغراي.
وصحيح أيضاً أننا نحن الإرتريين قبل غيرنا نحلم بالسلام والتغني به ولكن ما نسعى إليه ليس هو مجرد إنشودة بل السلام ذاته. ومدخل السلام هو انسحاب إثيوبيا من بادمي وبقية الأراضي الإرترية. كما أن السلام يتم عقده بين دول وشعوب عبر ممثليها وليس باختيار بضعة أفراد من دين واحد وقومية واحدة ولغة واحدة كما هو الحال في "إنشودة السلام" التي يتم إطلاقها لذر الرماد في عيون من يحلم بالسلام المستدام.
إلا سلمت ياوطن العزة والشموخ.