مأزق الهُوّيات في القرن الأفريقي... من نحن؟... خبرةٌ شخصية
بقلم الإعلامية الأستاذة: آمال صالح - كاتبة والناقدة ارترية المصدر: الأفريقية
سيظل سؤال الهُوِّية وما يحمله من تعريفات ومفاهيم متعددة، سؤالًا ينصب فِخاخهِ حول الكثيرين على وجه هذه الأرض. ويضطر عددًا
كبيرًا مِنّا إلى تفقد هُويِّتهِ بين الحين والآخر، ومراجعة مكوناتها، وربما إعادة ترتيبها حسب الضرورة. وهنا لست بصدد الدخول في متاهات ذلك كله، فهو أكبر من حدود معرفتي وطاقتي على ولوج متاهاته إلاّ بقدرٍ بسيط من النظريات والكتابات والمؤلفات التي حاولت عبرها مُقاربة هذا الفخ إلى مستوى الحياة اليومية للإنسان العادي الذي يتحرك داخل إطار هويته بأريحية وثقة غير قابلة للمُسائلة، كما يعتقد.
ما أغراني بالكتابة في هذا الموضوع هو ردود الفعل والتفاعل الكبير مع موقف مررت به قبل أيام و شاركته أصدقائي عبر صفحتي في (فيسبوك). موقفٌ اعتبرته طريفًا وربما مسليًا. وأن لم يخل من رسالة مبطنة ومقصودة فيها بعض من سخرية وربما بعض من ألم. فالموقف، وهو عبارة عن حوار قديم/ جديد خضته، كما الكثيرون، عدة مرات و بدرجات متفاوتة من الوعي أجِدُني أتعامل معه تارة بوعي المُتجاوز عن خللٍ في فهم يعاني منه الآخر وليس لي أن أقف عليه كثيرًا. وأحيانا أخرى يغلب علي ذاك الوعي الرافض للتصنيف العشوائي والمسلمات من المفاهيم المغلوطة وخاصة في العالمين العربي والأفريقي، وهذا ماحدث حينها.
حوار مع صاحب أحد المحلات العربية في لندن، رجل ستيني أنيق كعادة اللبنانيين والشوام،لبناني مفعم بالحياة و بوسامة متوسطية واضحة المعالم و بهوية لا مجال للشك فيها كما سيتضح لي لاحقًا، وهو بالإضافة إلى وسامة شكله يتمتع، كما عموم أهل الشام بوسامة اللغة وتعابيرها اللبقة وموسيقاها التي تفتح شهيِّة الكلام والأخذ والرد بغض النظر عن الموضوع، وهذا مادار بيننا:-
- أنا: مرحبى
- صاحب المحل: أهلين مرحبا.
- أنا: الله يخليك ممكن كيلو مكسرات ونص كيلو قهوه بالهيل.
- صاحب المحل: ايه تكرم عينيك مدام.
- تفضلي مدام.
- أنا: يسلموا، أديش بتأمر.
- صاحب المحل: بتحكي عربي منيح، من وين حضرتك؟
- أنا: ايه بحكي عربي، أنا من إرتريا.
- صاحب المحل: والله. كتير منيح. يعني إنتو بإرتريا عرب؟
- أنا: لا، نحن مو عرب، نحن إرتريون، بس بنحكي عربي.
- صاحب المحل: يعني معقول، بتحكي عربي وإنتِ موعربية؟
- أنا: ايه والله، بذمتك، هلق هادا شكل ستِ عربيِّة؟! ههههه
- صاحب المحل: ايه والله معك حق، شكلك أفريقي، بس بتحكي عربي منيح!
- أنا: ايه والله صدفه صدقني، صدفة.
- صاحب المحل: طيب، دخيلك ليش انتو مو عرب؟!
- أنا: هههههه. والله ما بعرف، بس غالبًا، نحن مو شي، نحن بس إرتريين، نُصنا بيحكي عربي ونُصنا بيحكي شي تاني.
- صاحب المحل: الله بيعين.
- أنا: ايه الله بيعين.
- صاحب المحل: تفضلي مدام، الله معك مدام.
- أنا: شكرًا، يعطيك العافية.
وحقيقة لم يقتصر الحوار على ما أوردته في (فيس بوك)، بل كان له تداعيات في مسار آخر، دخلنا فيها إلى حالة اختبار سؤال الهُوِّية حيث اللبناني الأنيق و آخرين كُثر يرون أنفسهم والعالم ودون سوء قصد، من خلال وعي مؤسس مسبقًا على مفاهيم ومُعطيات مسلم بها، مفاهيم وتصنيفات أقرب إلى اليقين السهل والقريب، حيث لا تحدي للعقل ولا صدمات جوهرية ومفصلية تهز أركان ذلك اليقين/ المعضلة، عمومًا نعود الى جزء من الحوار الذي لم أحْكِهِ:-
- صاحب المحل: بس شو قصتك مدام! لهجتك مرّة شاميِّة وشوية تانية كأنها سودانية!
- أنا: ايه معك حق، يعني بحكم إني عشت بين الشام والسودان (وللأمانة، لم أعش في السودان بمعناها الجغرافي، لكنني عشته ثقافيًا عبر صداقات عديدة و بعض الزيارات القصيرة جدًا التي لا تتعدى في الغالب عشرة أيام).
المهم استرسل أنا مع اللبناني بخبثٍ مقصود:
- حضرتك لبناني لبناني!
- صاحب المحل: صمت ونظرة ما بين الاستنكار والاستياء، ولا يرُدْ.
- أنا: يعني مثل ما بتعرف، في لبنانيين، سوريين ولبنانيين، فلسطينيين ولبنانيين، مختلطين بالأردنيين.
- صاحب المحل: ينظر نحوي باستهجان واضح. ولا يُرد.
أدركت حينها أنني أصبته في مقتل، حيثُ يوجِع أن يطعنك أحدهم في يقينك، في هويتك، في انتماءك، في لغتك، هناك حيث تجرؤ أنت (صاحب المحل في هذه الحالة) وآخرين أمثاله، على اختبار الآخر في يقينه، دونما تفكير ولو للحظة في إمكانية تبادل المواقع وفي احتمال بحيث تقع أنت اختبار يقينك أيضًا.
وبالعودة إلى ردود الأفعال التي كان أكثرها انفعاليًا يستنكر الموقف، وآخر طريف ساخر، لفت انتباهي ردود أفعال عدد من الشباب الإرتري وخاصة من الذين تشبعوا بالثقافة العربية ولغتها.
جيلٌ ثانٍ وثالثْ من اللاجئين الإرتريين الذين استوطنوا المنطقة العربيِّة من السودان إلى الخليج والسعودية، ومرورًا بالمشرق العربي، اتسم تفاعلهم مع هويتهم العربية أو ربما بالأحرى مع لغتهم العربية، بحساسية عاليِّة لها أسبابها ومرجعياتها التاريخية والنفسيِّة.
ورغم أن الإرتريين شعب مُتعدد القوميات واللغات والثقافات والديانة إلاّ أن الغالبية من مُسلمي إرتريا لن يترددوا، إذا ما سألتهم عن اللغة العربية على التأكيد وبيقينٍ تام على عروبتهم واسلامهم، والذي يمتد (كما سيخبرونك) تاريخيًا إلى زمن الهجرات الأولى الى الحبشة، وسيدللون على ذلك بوجود الكثير من المراجع التاريخية والمؤلفات و الآثار العمرانية التي تؤكد على أصالة العروبة والاسلام في إرتريا. وكما أنهم سيقولون لك أن العربية هي إحدى اللغتين الرسميتين في إرتريا إلى جانب التقرنية التي يتحدث بها مسيحيو إرتريا من قومية التجرنية وبعض القوميات المسلمة الأخرى كالجبرتا و بعض الساهو.
كل ذلك في ظل صراع آخر، (إرتري/ إرتري)، ثقافي - سياسي يخوضه الإرتريون من أبناء الثقافة العربيِّة مع المنظومة السياسية الحاكمة في إرتريا.
تلك المنظومة التي تواجه اتهامات حقيقية بممارسة التهميش و الإقصاء بحق مختلف القوميات من الشعب الارتري، وخاصة المتحدثين بالعربية. ويقول الكثيرون بمحاولة النظام الحاكم طمس اللغة العربية واضعافها وبالتالي تهديد جزءًا أساسيًا من هوية مجموعة كبيرة من الإرتريين. والمفارقة الأكثر إدهاشًا أن تلك الفئة من الإرتريين لا تسلم معظم الوقت من الوقوع في فخ سؤال الهوية من قبل العروبيين أنفسهم، أو العرب /المسلمون.
بل قد يصل الأمر إلى حد التشكيك في انتمائهم اللغوي والعرقي (الآفروعربي / المسلم) حتى من أقرب جيرانهم في السودان مثلا. فالسودانيون في غالبيتهم وإلى وقت قريب، كانوا يضعون الإرتريين والاثيوبيين عمومًا في خانة التعريف الوحيدة (لأحباش أو الحبش)، أي بعيدًا عن العروبة و العرب، ولا يخفون دهشتهم اذا ما صادفهم لسان إرتري فصيح العربية، فهم حينها إما يتحايلون على تلك الدهشة بإرجاع ذلك إلى كونه مكتسب (غير أصيل) نتيجة الإقامة الطويلة والعيش وسط السودانيين ومخالطتهم. وللأمانة أرى في ذلك منطق مقبول في ظل الظروف التي مر بها الشعب الإرتري ومعاناته في ظل الاستعمار الإثيوبي وخوضه حرب تحرير طويلة، وتأثيرات ذلك على عوامل الاستقرار التي تساعد المجتمعات على تنمية هوياتها ولغاتها وما إلى ذلك، و المفارقة هي الأكثر ادهاشا أن السوداني نفسه مازال يكابد آلام ومشقات عروبته المنقوصة بالنسبة للأطراف الأخرى من العالم العربي.
بتحكي عربي منيح !
أنا أيضا أُصاب، - كما الكثير من الإرتريين والسودانيين- بوجع الهوية القاسي كلما سمعت هذه الجملة. في الحقيقة أُصاب بطعن في يقيني الذي يرفض التشكيك ليس في لغتي العربية فحسب، و انما في لهجتي الشاميِّة. وأنا لم أعرف لهجة ولا لغة قبل دمشق حيث نشأت فيها منذ طفولتي المبكره وتشربت تفاصيلها من حواري دمشق العتيقة وبأريحية لا شك فيها.
صحيح، أن تَغيُّرًا تدريجيًا أثر على لهجة طفولتي الشامية نتيجة لتفاعل طبيعي مع تعددية دمشق وتنوع لهجاتها وثقافاتها وهويات أهلها. حيث جمعتني صداقات وعلاقات اجتماعية متنوعة مع سوريين متنوعي اللهجات والثقافات من أعالي جبال العلويين والسلمية، وإلى سهل السويداء ومناطق الأكراد في ركن الدين جبل، وفلسطينيو سوريا في مخيم اليرموك وغيرها. تمددتُ في لغتي العربية وهويتي بشكل متصالح وقابل لإعادة ترتيب الأولويات وتركيبها.
كل ذلك بشكل متداخل مع هوية ولغة وثقافة أخرى ظلت تضرب بدعائمها عميقا في، وهي اللغة الارترية- وثقافتها التي تبدأ من لغة أمي ( التقري) وثقافتها، ولا تقف عند بعض من التقرينية وثقافتها من سوريا إلى إرتريا.
فلماذا يؤلمنا اختبار الهوية إلى حد الاستياء والاستنكار في ظل حالة التحول الدائم التي تطرأ على مكوناتها داخل وعينا ؟
- ايه بحكي عربي.
ولكنني لستُ عربية تمامًا، رغم اعتزازي ومحبتي للغتي وثقافتي العربية والكثير مما هو عربي. كما أنني في ذات الوقت لست أفريقية تمامًا رغم جغرافيتي التي تضعني في قلب أفريقيا وتعزز مكانتي فيها. ينقصني الكثير من تاريخ أفريقيا وثقافاتها وتراثها المتنوع لأكمل انتمائي، تمامًا كما ينقصني الكثير من العروبة، ولكنني أرى وبوضوح إرتريتي وبكل تفاصيلها، ألمس هويتي الإرترية بكل يقين ووعي. ارتاح فيها وأتجول في تفرعاتها وتناقضاتها وحتى آلامها. هويتي الواعية والتي لا تسلم بدورها من الشك والتشكيك في ظل عالم ينحو بنا ورُغمًا عنا إلى انتماءات أكبر و أوسع، حيث نلتقي مع شعوب وأفراد في أفكار أو آلام مشتركة أوحتى في مخاوف لا حصر لها فتذوب فيها هوياتنا التي اعتدنا عليها في إطار هويات عالمية نشكلها بوعي جديد و جهد غالبًا ما يكون فردِّيًا يخضع لحساباتنا الخاصة و ربما لرغباتنا و أولوياتنا الجديدة وأحيانا حتى إلى مزاجاتنا المتقلبة.