الأمن فى البحر الأحمر خط أحمر
بقلم السفير الدكتور: صلاح حليمة المصدر: المصري اليوم
إذا كانت عبقرية المكان والزمان التي تحدث عنها العالم الجليل الدكتور جمال حمدان حول موقع مصر الفريد والمتفرد كواسطة عقد
وقلب العالم القديم بقاراته الثلاث، فإن الرؤية الاستراتيجية لموقع مصر سواء في محيطها أو في إطار هذا العالم تدفع نحو القول بأن البحر الأحمر بقناة السويس، هو واسطة عقد البحار والمحيطات، وقلبهم في ذات العالم، أو قل هو الشريان التاجى لهذا القلب. ويتأسس ذلك القول على كونه الرابط بين القارات الثلاث أفريقيا وآسيا وأوروبا، وبين بحار ومحيطات ذلك العالم، وهو بحكم موقعه ـ وما تستوجبه مصالح شعوب ودول العالم، للوصل وليس للفصل بين جانبين (العالم العربى والقارة الأفريقية)، وغنى عن البيان، فإن نطاق الأمن القومى العربى يمتد من الخليج العربى شرقا حتى المنطقة الواقعة غرب البحر الأحمر، حيث الدول العربية / الأفريقية، وهو نطاق يمتد في اتجاه المحور الجنوبى حتى الصومال، ويمتد في اتجاه المحور الشمالى الغربى حتى موريتانيا والمغرب (ما يقرب من نصف عدد الدول العربية بأغلبية الشعوب العربية بالقارة الأفريقية). ومن هنا تجىء مقولة أن أمن البحر الأحمر فى اتصال بالأمن في الخليج العربى، وأن الأمن في كليهما وفى ارتباط بينهما خط أحمر بالنسبة للدول العربية عامة وبالنسبة لمصر بصفة خاصة.
واقع الأمر على ضوء ما تقدم، فإنه يمكن رصد مخاطر وتحديات مستحدثة ـ بجانب القديمة وأبرزها إسرائيل ـ تهدد الأمن القومى العربى بصفة عامة والأمن القومى المصرى بصفة خاصة وعلى نحو يرتبط ـ بحكم طبيعة وحجم المصالح المستقرة في المنطقة للعديد من القوى الإقليمية والدولية ـ بالأمن والسلم الدوليين.
لعل من أبرز هذه المخاطر، وتلك التحديات المحور الثلاثى الذي يضم قطر وإيران وتركيا وربما دول تنطوى تحت لوائها وتخضع لنفوذها، إذ يمتد نشاطه في زعزعة الأمن والاستقرار في منطقة الخليج إلى منطقة البحر الأحمر، فضلا عن تنظيمات إرهابية ومتطرفة يتوفر لها من جانب دول المحور الثلاثى دعما تمويليا وتدريبيا وملاذا آمنا وأبواق دعائية وفكرية، تثير نزعات عرقية ودينية ومذهبية وطائفية وجهوية لتفتيت وتقسيم دول معينة للسيطرة والهيمنة وتغيير خريطة العالم العربى.
ففى الوقت الذي أنشأت فيه تركيا قاعدة عسكرية في قطر، يتعاظم التواجد العسكرى التركى إلى حد يتأكد معه بناء قاعدة عسكرية في الصومال التي تقع على مدخل البحر الأحمر، حيث حركة الشباب المتطرفة والمرتبطة بالقاعدة، وفى الوقت الذي تتدخل فيه إيران في الشؤون الداخلية لدول بالخليج، تضطلع بتدخل عسكرى سافر فى اليمن المتشاطئ على البحر الأحمر وتوفر دعما للحوثيين ذو التوجه الشيعى في إطار ذلك المحور.
وتجدر الإشارة هنا إلى توقيت ما أثير من لغط حول ملكية جزيرتى تيران وصنافير وحق السيادة عليهما، إذ ارتبط بالمخاطر والتحديات التي تحيق بالأمن في البحر الأحمر وأبرزها أنشطة ذلك المحور خاصة في اليمن، التي تحمل في طياتها تهديدا للأوضاع في منطقة مضيق باب المندب الحيوى.
وفى اتصال بما تقدم، فإن قطر ـ كدويلة نحيلة المساحة فقيرة الموارد البشرية ـ في إطار تعزيز طموحها المفرط، وأحلام يقظتها الجامحة، بأن تكون قوة إقليمية تتوق للهيمنة والسيطرة على المستوى الإقليمى، والمكانة والنفوذ على المستوى الدولى، وذلك عبر استثمار إمكاناتها المالية الضخمة على هذين المستويين، تبنت توجهات متناقضة وسياسات مزدوجة بررتها بدعوى حق السيادة ناسية ومتناسية أنه ليس حقا مطلقا وإنما مقيدا بعضويتها في معاهدات واتفاقات وتنظيمات إقليمية ودولية تستوجب الاحترام وعدم الانتهاك. وتضطلع قطر بالتعاون مع تركيا بدور مشبوه ـ معاد لمصر بصفة خاصة ـ في دول متشاطئة مع مصر في البحر الأحمر مثل السودان، والصومال، وأخرى غير متشاطئة ـ بل مغلقة مثل إثيوبيا التي تسعى للنفاذ إلى البحر الأحمرعبر كل من الصومال وجيبوتى. وتجدر الإشارة هنا إلى سحب قطر لقوات حفظ السلام القطرية فجأة من جزيرتى. رأس دميرة، ودميرة، إثر الأزمة القطرية تاركة العلاقة بين جيبوتى وإريتريا المتشاطئتين على البحر الأحمر في حالة من التوتر مع محاولات هشة من الاتحاد الأفريقى والجامعة العربية، في وقت يتواصل فيه الدعم المادى القطرى لإريتريا.
ولعل من بين التحديات والمخاطر التي قد تنال من الأمن والاستقرار في منطقة البحر الأحمر انتشار ظاهرة التواجد العسكرى في شكل قواعد متحركة وأخرى ثابتة لقوى محلية ودولية، فبجانب القواعد العسكرية المتحركة للقوى الكبرى والتى تتواجد من آن لآخر، فإن دولة جيبوتى يكتظ بها قواعد عسكرية عديدة وجميعها بمقابل مادى يشكل المورد الأساسى للدخل القومى لجيبوتى، / السعودية قاعدة عسكرية لدعم التحالف في اليمن (تجدر الإشارة إلى اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية ربطا بقضية السيادة على جزيرتى تيران وصنافير) / القاعدة الفرنسية (حوالى 900 جندى) ومهمتها حماية حركة التجارة عبر مضيق باب المندب، وقد تصدت لمحاولة تمرد عام 2000 / قاعدة أمريكية (حوالى 3000 جندى) وقد أنشئت عام 2000 ومهمتها مراقبة المجال الجوى والبرى والبحرى للسودان وإريتريا والصومال واليمن وكينيا وجيبوتى، وتدريب جنود جيبوتى، وتشارك في عمليات عسكرية ضد حركة الشباب في الصومال والقاعدة في اليمن./ قوة من الاتحاد الأوروبى وتندرج مهمتها تحت مسمى قوة العملية الأوروبية لمكافحة القرصنة «أتلاتتا» بهدف تطويق جرائم القرصنة في مضيق باب المندب ومراقبة حركة التجارة / قاعدة عسكرية للصين تضم 10000 جندى أنشئت عام 2016 ـ 2017 لمدة عشر سنوات. هذا بجانب تلك القواعد يتردد أن لإسرائيل قاعدة عسكرية في إريتريا ولم تنف الإخيرة ما يقال بشأنها.
لقد شهد العقد الحالى في المنطقتين المشار إليهما تطورات وتحديات جسام، لعل أبرزها تزايد أعمال القرصنة، والهجرة غير الشرعية، والاتجار بالبشر وتهريب المخدرات، ثم صراعات دامية على السلطة والثروة في إطار حروب أهلية داخلية بدول في المنطقتين، تتأسس على العرق أو الدين أو المذهب، بدعم من قوى إقليمية ودولية تستهدف كل منها ـ أي تلك القوى ـ الهيمنة والسيطرة، ولتتفجر بموجبها نزعات استقلالية كامنة قد تنتهى بالتفتيت والتقسيم لدول عربية، ولتظهر كيانات غير عربية بالمنطقة العربية شرق البحر الأحمر أو غربة، تسهم على نحو أو آخر في طمس الهوية العربية للمنطقة، وتعزز حال تواجدها والاعتراف بها، نجاح مسعى إسرائيل الاعتراف بها كدولة يهودية، بل وقد يصل الأمر إلى تغيرات في موازين القوى الإقليمية على المسرح العربى والأفريقى، قد تتراجع في إطارها أدوار قوى إقليمية قديمة، وتتنامى أدوار قوى إقليمية مستحدثة.
ولعل أخطر تلك التطورات والتحديات تنامى ظاهرة الإرهاب وتعاظمها، بل وتعدد التنظيمات التي تمارسه ولو تباينت في درجة التشدد، وسواء كان ذلك باتفاق أو بدونه بين التنظيم الأم وبين التنظيمات الأخرى، التي طورت من أهدافها لتتمحور حول هدم مؤسسات الدول ـ وخاصة مؤسساتها العسكرية والأمنية ـ وتحويلها إلى دول فاشلة، مع تنامى الحديث عن دول إقليمية وقوى دولية تستخدم تلك التنظيمات لتحقيق أهداف سياسية ذاتية.
هذا وعلى الرغم مما يتردد عن لسان كبار المسؤولين بدول تلك القواعد بأنها جاءت إلى جيبوتى على خلفية اعتبارات أمنية استراتيجية في إطار اتفاقات تقنن تواجدها وتحدد نطاق المهام المفوضة بها، مقابل عائد مادى تحصل عليه دولة مقر القواعد، إلا أن مكمن الخطورة هو إمكانية استخدام تلك القواعد في غير الغرض المخصص لها في ظل ضعف سيطرة وعدم قدرة دولة المقر على الحيلولة دون ذلك.
إن هذه التطورات ـ بجانب اعتبارات أخرى ـ تهيئ على الأرجح مناخا أفضل لتحديات ومخاطر من نوع آخر، لعل أبرزها إنفاذ مشروعات منافسة أو بديلة لقناة السويس وبالتالى البحر الأحمر، مثل مشروع ممر الشمال ـ الجنوب، والذى يعد من أضخم مشاريع النقل الدولية في القرن الحالى ويربط آسيا بأوروبا، وتتبناه كل من روسيا وإيران وأذربيجان.
وفى التقدير، أن مجمل تلك التحديات وهى تمس الأمن في البحر الأحمر، قد دفعت ـ بجانب اعتبارات أخرى ـ مصر إلى الاهتمام، بدعم وتطوير بل وتحديث قواتها البحرية ـ التي تعد سادس قوة بحرية عالميا ـ وخاصية الأسطول البحرى الجنوبى المتواجد في البحر الأحمر، والذى يعد من الناحية العسكرية قاعدة بحرية متحركة، في ارتباط وثيق بالسعى نحو تنامى العلاقات المتعاظمة مع دول متشاطئة بالبحر الأحمر من أبرزها جيبوتى، والسعودية، والسودان، والصومال وإريتريا، حفاظا على الأمن القومى فيه، من جانب، وداعما عند المقتضى للأمن في الخليج العربى الذي يواجه مخاطر وتحديات مماثلة خاصة مملكة البحرين التي تشهد العلاقات بينها وبين مصر تعاظما وتناميا غير مسبوقين.
في التقدير أيضا وعلى ضوء ما تقدم، فإن ما تشهده منطقة البحر الأحمر من تطورات وتحديات قد تطال الأمن القومى العربى وكذا أمن واستقرار دول بالقارة الأفريقية، تستوجب النظر في إنشاء منظمة إقليمية فرعية للأمن والتعاون في البحر الأحمر تضم الدول المتشاطئة عليه من الدول الأعضاء في كل من الجامعة العربية والاتحاد الأفريقى، مع دراسة إمكانية إنشاء قوة ردع عربية أفريقية في هذا الإطار.