إدريس عوض الكريم... رحلة النورس الأخيرة
بقلم الأستاذ: ياسين محمد عبدالله - باحث وكاتب صحفي
بعد معاناة مع المرض استمرت لسنوات، رقد رقدته الأخيرة، اختارت روحه الليل لتحلق بعيداً في سماوات
قارات العالم التي دافع عن مضطهديها بقلمه وليوارى جسده ثرى المدينة التي حملها في قلبه أينما ذهب.
رحل إدريس عوض الكريم السوداني/ الإريتري يوم الأربعاء 26 فبراير في منزله بالكلالة في الخرطوم محاطاً بزوجته عائشة وبناته الثلاث، منار، أمل وإنعام وابنه محمد.
ولد إدريس عضو الكريم في مطلع أربعينات القرن الماضي في الدويم التي درس بها المرحلتين الأولية والوسطى وواصل تعليمه حنتوب الثانوية ثم بمعهد المعلمين العالي في الخرطوم وعمل بعد تخرجه أستاذاً للغة الإنجليزية في مدارسها. أثناء عمله في التدريس قرر دراسة القانون فالتحق بجامعة القاهرة الفرع التي صار رئيساً لاتحاد الطلاب فيها في نهاية الستينات.
كان إدريس عضواً نشطاً في الحزب الشيوعي السوداني وقد سجن بسبب نشاطه الحزبي حيث كان معتقلاً عند حدوث حركة يوليو. بعد الإفراج عنه هرب من البلاد فدخل خلسة إلى ليبيا ثم إلى بلدان الشرق الأوسط حتى استقر به المقام في بيروت. لم ينس إدريس رفاقه والحزب الذي تركه خلفه فراح يتحرك وسط دوائر اليسار المختلفة منبها العالم لما يتعرض له مناضلو الحزب من تنكيل. ومع أن علاقة إدريس التنظيمية مع الحزب الشيوعي انقطعت لاحقاً، لم أسمع منه قط، أنا الذي عرفته لأكثر من 40 عاماً، أي إساءة للحزب كما إنه أقام علاقات طيبة مع الطلاب السودانيين الشيوعيين والديمقراطيين في سوريا الذين عرفوا خصائله الإنسانية والتزامه المبدئي بقضايا وطنه السودان وقضايا الشعوب وبينها الشعب الإريتري الذي كان قد تفرغ تماماً للنضال في صفوفه من أجل الحرية. حسناً فعل الحزب الشيوعي السوداني بنعيه لإدريس رسمياً في صحيفته الميدان فمثل إدريس لا يعلو أي خلاف معه على نصاع سيرته وثباته على المبادئ ومأثرته العظيمة في الانخراط في النضال الإريتري من أجل الحرية ودفاعه القوي عن حق شعوب العالم في التحرر الوطني.
إدريس شاعر وكاتب ومترجم ومناضل كبير قد لا تعرفه الأجيال الشابة من السودانيين والإرتريين بقدر كافٍ. في عام 1975 التحق إدريس عوض الكريم بجبهة التحرير الإريترية إذ وجد في تنظيم الجبهة نفس مبادئ التحرر الوطني الديمقراطي التي كان يؤمن بها. عينته الجبهة في مكتب الإعلام الخارجي في بيروت. وقد التقيت به لأول مرة في هذا المكتب في 1978 عندما جئت في زيارة قصيرة إلى بيروت وكنت حينها طالباً في جامعة دمشق. أذكر أن إدريس دعاني للغداء في شقته حيث أعد الطعام بنفسه وعرفت منذ ذلك اليوم صفتين أصليتين فيه؛ التواضع الجم والكرم الفياض.
كانت بيروت في السبعينات مركزاً لنشاط العديد من الثوريين من مختلف بلدان العالم من الذين كانت تستضيفهم المنظمات الفلسطينية والأحزاب اليسارية اللبنانية وكانت بيروت أيضاً مركزاً ثقافياً يعج بالكتاب والشعراء وكان يصدر منها العديد من المجلات السياسية والثقافية. أذكر عندما التقيت إدريس في بيروت إنه كان يكتب مقالاً أسبوعياً في مجلة الهدف التي كانت تصدرها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
وفي بيروت تزوج إدريس من الإريترية صهيتو (توفيت في مدينة ليز البريطانية قبل عدة سنوات) وأنجب منها ابنته الكبرى منار. أذكر عندما كانت صهيتو تنوي السفر إلى السودان لحضور زواج أبنتها منار أن سألتها عن طريق الهاتف عن المكان الذي ستنزل فيه في الخرطوم قالت لي إنها ستختار فندقاً لإقامتها. وعند عودتها اخبرتني إنها نزلت في منزل إدريس عوض الكريم لأنه انتظرها في المطار ومعه كل أهله (جاب معاه أهله كلهم) وأصر على أن تقيم معهم.
كرس إدريس قدراته ومهاراته الكبيرة من أجل نصرة الثورة الإريترية وأسهم في ذلك الوقت في دحض افتراءات نظام منغستو هيلي ماريام الذي كان يدعي تبني الماركسية ويسعى إلى وصم الثورة الإريترية بالرجعية. فند إدريس أطروحات نظام منغستو من نفس المنظور مستغلاً معرفته الواسعة بالماركسية وبمشروعية النضال الإريتري القانونية والسياسية فاضحاً الطبيعية الديكتاتورية الدموية لنظام منغستو. كتب إدريس أيضاً عن حركات التحرير الأفريقية في غينيا بيساو، انغولا، زيمبابوي، وجنوب أفريقيا واهتم بالأدب الأفريقي وأذكر إنه نشر في مجلة الثورة الإريترية حلقات من كتاب فرانز فانون معذبو الأرض الذي ترجمه من الفرنسية الدكتوران سامي الدروبي وجمال الأتاسي. وكان إدريس محباً للشعر العربي القديم وما اتخاذه لأسم جرير اسما حركياً له سوى تعبير عن حبه لهذا الشعر كما كان يعشق الأدب الإنجليزي.
في 1986 بدأنا العمل سويا في مكتب الإعلام الخارجي لجبهة التحرير الإريترية - التنظيم الموحد وقد كنا ثلاثة محررين، إدريس، محمد مدني وشخصي ننتمي كلنا لتجربة واحدة وبعد انتقال مدني للعمل في موقع آخر بقينا إدريس وأنا مسؤولان عن العمل التحريري في المركز.
بعد التحرير سافر إدريس، ضمن مجموعة كبيرة من أعضاء جبهة التحرير الإريترية - التنظيم الموحد، إلى أسمرا، كان يريد الإسهام في بناء الدولة الوطنية التي يستحقها الشعب الإريتري بعد كفاحه الطويل. تحمل شظف العيش هناك حيث لا مرتبات ولا أي نوع من الحوافز المادية أو المعنوية وقد كان بإمكانه أن يسافر إلى أي بلد آخر ويوفر لنفسه وأسرته عيشاً رغيداً بما له من قدرات ومهارات عالية في مجالي الكتابة والترجمة لكن الالتزام بقضية الشعب الإريتري كان قد ملك عليه قلبه وعقله.
أذكر في نهاية الثمانيات وقد كنا نمر بظروف مالية صعبة ووجد إدريس فرصة لأداء العمرة فنصحته ألا يعود وأن يبحث عن عمل هناك. قلت لإدريس لقد قدمت مساهمة عظيمة في النضال الإريتري وآن الوقت لتهتم بأسرتك الصغيرة والحياة في الخرطوم مكلفة وليس لدينا الحد الأدنى الذي يمكنك من توفير العيش الكريم لأسرتك. رد علىٌ بكل بساطة: عشان يقولوا هرب.
بقي إدريس في إريتريا ما يقارب الـ 10 سنوات. وكان آخر عمل قام به هو رئاسة تحرير إريتريا بروفايل الإنجليزية. التقيت به في الخرطوم في 2001 وكانت الحرب مع إثيوبيا قد انتهت قبل ذلك بشهور قليلة. سألته لماذا لا تزال هناك؟ فقال لي إنه يريد منذ فترة مغادرة إريتريا نهائياً وأنه توصل إلى أن هذا النظام غير معني ببناء إريتريا ولا بمصالح الشعب الإريتري ولا يحترم حقوقه السياسية. وأضاف أن لديه سيارة اشتراها من السعودية بمساعدة بعض الأصدقاء وانه سيعود من أجل إحضارها إلى السودان فهو في حاجة إليها مع إنها (مكركبة) لكنها ستنفعه في الخرطوم، وإن لم يتمكن سيتركها لهم، وقد تركها. عاد إدريس إلى أسمرا وسافرت أنا إلى القاهرة.
عندما عدت بعد عامين عرفت من أحد الأصدقاء أن إدريس عاد وإنه جاء إلى مكتبه يسألني عنه. ذهبت إلى إدريس في منزله في الكلاكلة وأول سؤال سألته له: كيف سمحوا لك بالمغادرة ؟ قال لي إنه ذهب إلى وزير الإعلام وأخبره بنيته السفر إلى السودان فقال له الوزير ومن يضمن لي إنك ستعود ؟ ورديت عليه: إنتو اشتريتوني ؟ هذا ما كان بإمكاني تخيله حتى لو لم أسمعه منه فإدريس يتميز بشجاعة نادرة ولا يقبل الضيم أو التطاول.
كان آخر عمل قام يه إدريس عوض الكريم في دعم قضية الشعب الإريتري ترجمته في 2009 التقرير الثالث لمركز سويرا حقوق الإنسان إلى الإنجليزية. كنت أحضر له في منزله الأجزاء التي تكتمل من التقرير لنتمكن من إصدار التقرير باللغتين في الوقت ذاته. كان يبدي لي حزنه لما آلت أحوال الشعب الإريتري في ظل الديكتاتورية الفردية وما تعرض لها المناضلون وآلاف المواطنين من قمع وإذلال وتشريد في ظل سلطة كان يفترض أن تكون وطنية.
كان يحلم بأن يرى إريتريا وقد تخلصت من الديكتاتورية وبنت ديمقراطيتها وحققت حلم شعبها في الازدهار والعيش بكرامة وهو حلم دُفع من أجل تحقيقه عرق، جهد ودماء كثيرة وكان لإدريس مساهمة عظيمة في الإيفاء بهذا الثمن.
أشعر بحزن عميق لرحيل إدريس وبأسى كوني لم أكن في وداعه.
رحم الله إدريس عوض الكريم