كنت شاهدا - الجزء الثالث
بقلم الأستاذ: أحمد فايد - كاتب وناشط سياسي ارتري
حرية الحركة والتنقل - الصدمة الحضارية، ثم الصدام الثقافي:
"امبير امبير" بصوت الفنانة زينب بشير الرنان، كانت أولى الأغنيات التي ظهرت
في البث التلفزيوني الإرتري، وقد كان شغف المواطنين للتعرف على كل جديد عن بلدهم غير مسبوق. الجميع كانوا يحفظون تفاصيله ويتغنون به في الشوارع، كما تظهره بعض المشاهد (العفوية) في الفيديوهات التاريخية. وكان لهذا التنوع، الذي ظهر فجأة، مذاقا مختلفاً؛ وكأن إنتماء ما يولد من جديد في بارقة أمل توحي بشمولية هذا الوطن.
هذه الحالة التي تعرَّف فيها الشعب الإرتري على نفسه من جديد، كان يدعمها ذاك التواجد غير المسبوق لكل الثقافات الإرترية في أوساط المناضلين الذين تدفقوا إلى العاصمة أسمرا من كل مكان.
بدا لنا حينها أنّ جميع من نرى يعمل في تناغم أحسسنا منه بأنّ الأمل في مستقبل أفضل كان أكبر مما يتصوره الجميع. ولذلك كانت الرغبة في التعرف على هذا الوطن وهذا التنوع المتناغم (كما أحسسنا به حينها) تزداد يوما بعد آخر مدعومة ببعض الأعمال الفنية كأغنية الشهيد عقباقابر ዙራሞ ሃገርካ التي نحن بصدد تناول رسالتها اليوم.
ዙራሞ ሃገርካ - فلتتجول في وطنك:
أغنية تتحدث عن تفاصيل البلاد شرقها وغربها وثروات البلاد وواقع إرتريا بمضامينها التاريخية والثقافية والنضالية والجغرافية والطبيعية. وتدعوك للتمتع بالحرية والتجوال حول هذا الوطن في تحقيق لحلم حرية الحركة والتنقل والتعرف على هذه التفاصيل، هذا بعد عمر لم يذق صاحبه شيئاً من ذلك إذ لم يتحرك ولم يتعرف على أقرب الجوار لقريته أو مدينته.
المفتاح الذهبي لتحقيق هذه الرغبة الجامحة كان الخدمة الصيفية المعروفة بـክረምታዊ ማእቶት بحسب تسميات أهل الحكم الجدد. ولأنه لا شيء يهم أكثر من التحرك ثم التعرف على إرتريا التي جهلناها، أو أجهلناها، فإن كل احتمال للخدمة الصيفة كان بمثابة فرصة عظيمة يجب اقتناصها، وقد فعلنا.
المهمة الأولى بالنسبة إلى كانت في شتاء 1991 بعد انتهاء موسم الحصاد وبعد قرابة الستة أشهر من تحرير كامل التراب الإرتري. كانت المهمة في منطقة تقاطع ثلاث ثقافات إرترية عريقة في تخوم حماسين وسنحيت، حيث تواجد التقرنيا في شبق وجولدميت والبني عامر في عد عمر وفلحيتو والبلين في شافتخو وسابرابجو.
كانت الجبال والوديان تحتفظ بكل النباتات على اخضرارها الكامل وعيون المياه تنزل من مضايق الجبال، ونقاء البيئة ونصاعة التربة كان استثنائيا. ترحاب الشعب المبتهج كان يجعل من كل تفصيلة أجمل مما توقعنا. الترحاب بحسب الموروث حيثما ذهبت. في شافتخو يقدمون لك كل ما تطلب ويسألون عنك حين تغيب ويحاولون التعرف على عائلتك ولا يخفون أمانيهم (لو كانت الجبهة صاحبة هذه الإنجاز). في عد عمر يذبحون لك بهيمة في الجيئة والروحة. وفي شبق يعدون لك إنجيرا ماشيلا التي تذوب قبل أن تصل الى فمك.
باعتباري من أهل مدينة كرن وممن هم أوفر حظاً بالتعرف على غالبية الثقافات الإرترية التي تعج بها مدينتي حيث ولدت وعشت بين كل تلك الثقافات، فإنني لم أجد صعوبة في التواصل والتناغم مع الجميع في آن واحد. هذا على عكس اثنين ممن كانوا برفقتي الذينهم من مواليد أسمرا. كانوا يحاولون التعرف على ما يواجهون ولكن كان كل شيء جديد عليهم، ولا يشبههم. كانوا مثقلين وغارقين في هذا الكم من الجديد الذي واجههم. حتى التقرنيا في مناطق شبق وجولدوميت لم يتمكنوا من التعامل معهم. ليس هذا فحسب، بل كان لديهم أم المشكلات وهي معاناتهم في المأكل والمشرب!!
بدا لي وللجميع بأن الواقع يبعد عن الحلم كثيرا. وان ذلك تسبب في شيء من الملل والتندر، وأصبح الصدام بين هذا الواقع وذاك الحلم حقيقة غير بعيدة.
شكاوى كثيرة تم التقدم بها للمناضلين الذين كانوا يشرفون على مهام الشباب المشاركين في الخدمة الصيفية التوعوية ولكن هؤولاء المناضلين لم يكونوا على مستوى آمال الشابين الأسمراويين والشباب الآخرين القادميين من المدن الأخرى.
الجوانب السلبية لم تنته هنا بالرغم من طغيان الإثارة والمتعة بالمهمة. كان هناك فرقاً شاسعاً في المفاهيم. وكان هناك أيضا قدرا من الإستهانة من قبل المسؤولين من المناضلين، بأبناء المدن الإرترية. وكان هناك بعض التندر من قبل أبناء المدن حين يرون سعي هؤولاء المناضلين لتغيير كل شيء بما في ذلك المظهر العام والإهتمامات الخاصة.
البادي للعيان كان شيئاً من الخلاف ومحاولة السيطرة وتفصيل أهل المدن الإرترية في أطر الحياة التي جلبوها لنا من ساحات النضال.
أذكر موقفاً تعرضت له في منزل إحدى الأسر الكريمة من قبل كبير المناضلين وأول "المدسكلين" حين تواجدنا في ذاك المنزل العامر في وقت واحد. صاحب البيت، أكرمه الله في الدارين، دعاني للتعرف على قيادات الثورة الذين كانوا هناك في مأدبة غداء كبرى. سلمت عليهم جميعا بيدي الإثنتين بحسب ما تعلمنا من أساليب الإحترام والتوقير لمن هم اكبر منا سنا وقدرا ومقاما. لم يتحدث إلى أي أحد منهم عدا ذاك الكبير "المدسكل" حيث قال "هذا الأسلوب من التحية إرث استعماري ممقوت وان علينا التغير الى أرثنا الوطني وأن علي التعامل بأسلوب الثورة حيث السلام لا يكون الا بطريقة تدافع الأكتاف.
كانوا بالفعل يتعاملون معنا باعتبارنا تركة الاستعمار الكبرى التي سيعملون على إصلاحها وإعادة تكوينها.
موقف آخر كان في خريف العام 1992 حين تم الزج بعشرات المناضلين إلى الدراسة في جامعة أسمرا (للجامعة حكاية مأساوية ربما يأتي حينها فنتناولها) حيث كانوا في السنة الأولى وكنا في السنة الثانية. كانوا أهل سلطة وسطوة عسكرية وأدعياء السطوة الثقافية كما أنهم كانوا كبارا جداً في السن وكانت تبدوا المسدسات ظاهرة تحت ستراتهم الفضفاضة (المعروفة).
كان جل اهتمامهم ضبط تصرفات كل من يرونه يمر بجوارهم فيستوقفك أحدهم ويسألك عن ملبسك غير اللائق وعن تصفيفة شعرك غير المتوافقة مع الثقافة الإرترية وعن صحبتك غير المتوائمة مع ما يراه من نظام عام، وعن عدم احترامك للمناضلين لأنهم فعلوا لك كذا وكذا وتمر من أمامهم كما تمر من أمام الآخرين.
في المقابل كان هناك تندرا وازدراء من تصرفات هؤولاء المناضلين التي لم تكن لترق الى مستوى الفهم الذي يقول به أبناء المدن الإرترية وخاصة هؤولاء الأزمرينو. ومن ثم كان المناضلين في ذاك المكان مادة خصبة للسخرية، وفي ذلك أمثلة كثيرة، قد أذكر منها أن وجد احد الشباب رسالة غرامية تعود لأحد المناضلين نقتطف منها ما يمكن ترجمته (غير الدقيقة) كالتالي "دقات قلبي تضاهي في عنفوانها صوت المدفع عيار 130 مللي، ولهيب حبك لايختلف كثيرا عن حقل تم قصفه للتو بالنابالم..." وهكذا على ذات الوتيرة حتى نهاية الرسالة، دوي انفجارات وحرائق وفيلم رعب!!!
بالرغم من هذه الخلافات فإنهم كانوا أهل سلطة وسلاح وكنا نعلم يقينا أنه لا يجوز منازعة حامل السلاح كما علمتنا الخبرة التي اكتسبناها ابان الإستعمار الإثيوبي ومن ثم المهادنة (والإستهزاء على الصامت) كان السبيل الوحيد على أمل أن تنتهي فترتهم وتعود إرتريا الدولة الحلم.
هذا الحلم لم يكن ببعيد بالرغم من حلقات الرعب التي عشناها معهم مثل حركة الجنود المشهودة التي أخرجوا فيها الطلاب من عنابرهم وطلبوا منهم الذهاب إلى بيوتهم وتم ضرب بعض الطالبات لمحاولتهن أخذ بعض أغراضهن قبل الخروج.
الحلم الذي بدأ يقترب باقتراب الإستفتاء ومن ثم الإستقلال الرسمي وتحقيق الحكم الدستوري، وينصرفون مشكورين إلى معسكراتهم لمهمتهم الأساسية كنواة لجيش وطني إرتري.
نواصل بإذن الله... في الجزء القادم